افتتاحيّة | ما أبعدُ من ’دانيال‘…

فريق التحرير

أثار الاجتماع الأخير لقيس سعيّد مع بعض وزرائه (الوزير الأول، وزير الداخلية، وزيرتيْ العدل والمالية ووزير أملاك الدولة) جدالًا ولغطًا واسعيْن في وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. لكن قبل أن تنحسر موجة التعليقات، وفي انتظار جدال جديد حول تصريحات جديدة، هذه محاولة متواضعة لتحليلٍ هادئ لخطاب الرئيس والتعليق على مضمونه…

يكاد الجدال ينحصر في مسألة “تسمية إعصار دانيال”، التي أشار قيس سعيّد إلى أنّ الصهيونية العالمية وراءها، في إيحاء منه إلى هيمنة الصهاينة على العالم. لا أعتقد أنّ هذه هي أهمّ نقطة، لكن من الطبيعي أن يثير ورودها في خطاب أهمّ مسؤول سياسي في الدولة شيئا من الجدال. ولا بأس من التطرّق إليها، لأنّها تكاد تختصر طريقة تفكير الرئيس ومقاربته لعديد المسائل الأخرى.

ما قاله الرئيس عن تسمية الإعصار يشير إلى أمريْن: الأوّل – وهذا ليس بجديد – هو أنّه مازال يستسهل إطلاق تصريحات غير مبنيّة على وقائع ومعطيات دقيقة، بل على حدس أو قراءات غير علمية. فنسبةُ كلّ العِلَل إلى الصهيونية العالمية يدخل في خانة “التفكير المؤامراتي” الذي يفسّر كلّ شيء بالمؤامرة. وهو ما يؤدّي في نهاية المطاف إلى تتفيه حقيقة وجود مؤامرات في مجالات السياسة داخليا وخارجيا. وكما يقول الكاتب اللبناني أسعد أبو خليل: ” البعض يسخر من نظريّة المؤامرة، لكن نحتاج إلى المزيد من رصد المؤامرات الحقيقيّة (لا تلك التي لا أساس لها)”. وهذا ما يؤكّد مجدّدا إمّا افتقار الرئيس إلى مستشارين أكفّاء يساعدونه على تحضير ملفاته واجتماعاته وتصريحاته الاعلامية، أو أنّ الرجل واثق أكثر من اللازم بمعلوماته ومعارفه ولا يستشير أو يدقّق في ما سيقوله على الملأ، ويطلق العنان لمشاعره وحدسه غير عابئ بنتائج أخطائه التواصلية وتصريحاته. وهي نتائج قد تكون سلبية على شخصه أكثر من خطورتها على الشعب. فإطلاق تصريحات ذات مضمون مؤامراتي دون تدقيق سيساعد مناوئي سعيّد بالداخل والخارج على تصويره في هيئة “الشعبوي” و”غير العقلاني” و”الخطير” والخ. 

أمّا الأمر الثاني، وهو إيجابي، فهو تأكيد العداء المتأصل – شبه الفطري إن صحّ القول – لدى قيس سعيّد ضدّ الصهيونية وتَمَثُّله لها كخطر رئيسي على شعبنا وبلادنا. كذلك تمسّكه مجدّدا بالحقّ الفلسطيني، إلى درجة تجاوَز فيها تصريحاته السابقة عن “الشرعية الدولية” (أي ما يسمّى باطلًا بـ “حلّ الدولتين”)، بحديثه عن “تحرير كلّ فلسطين”. كذلك تكريره لمقولته الشهيرة، عشيّة انتخابه، عن أنّ التطبيع هو في الحقيقة “خيانة عظمى”… وهذا كلام لا يمكن سوى الإشادة به.

وهنا نأتي إلى مربط الفرس في التعامل مع خطاب قيس سعيّد، وسلوكه السياسي عمومًا. يمكن تلخيص الأداء السياسي لسعيّد بشكل عام بما يلي: نوايا طيّبة وحدَسٌ سليم عموما، خطاب حماسي عالي السقف، ضعف في الإلمام بالمشاكل، تصوّرات قاصرة عن تقديم بديل، أفعال ملموسة ضعيفة أو منعدمة. أو بعبارة أخرى أكثر فصاحة واختصارًا: “تسمع جعحعة ولا ترى طحينًا”…

وحتى لا يتهمنا أحد بالتجنّي على الرجل لنتساءل: في موضوع التطبيع مع الصهاينة بالذات، مالذي يمنع قيس سعيّد، صاحب السلطة شبه المطلقة، من أن يَمضي قُدمًا في خطابه ضدّ الصهيونية ويُصدر (عندما كان قادرًا على إصدار المراسيم في ظلّ الوضع الاستثنائي) مرسومًا ضدّ التطبيع (وليسمّه الخيانة العظمى إن شاء)؟ مادام مقتنعا تماما بأنّ الصهيونية تترصّد له وتتآمر علينا (وهذا استنتاج سليم بغض النظر عن ضعف التحليل) لماذا لم يطالب – كما فعل في مناسبات سابقة – وزيرته للعدل بـ”تطبيق القانون” على المطبّعين (وهم معروفون بالإسم والصفة)؟ لماذا هذه الجرأة في القول والإحجام أو التردّد في الفعل؟ 

ألَا يُدرك سعيّد، ومن معه من أعضادٍ ومناصرين، أنّه بتكراره نفس الخطاب الشعاراتي عن معاداة الصهيونية وفلسطين هو بصدد إفراغ الموضوع من مضمونه وزخمه؟ ألم يرَ (وهو المُولَعُ بالتاريخ) نتائج تحميس وتحشيد “الجماهير العربية المُعبّأة لتحرير فلسطين”، على حدّ قوله، من دون خطّة ومن دون تنظيم ومن دون أدوات لتجسيد هذا الحماس وهذه التعبئة؟ وأنّ عدم تحقيق أفعال ملموسة تكرّس هذه الشعارات (فيما يخصّ التطبيع وفي غيره من المجالات) سيؤدّي في نهاية المطاف إلى مزيد إحباط هذه الجماهير وإبعادها عن نصرة القضايا النبيلة؟

وقِس على ذلك في مواضيع وقضايا أخرى. فمثلًا، أثارت زيارات الرئيس الأخيرة إلى البنك المركزي، ثمّ إلى البنك الوطني الفلاحي، تفاعلًا إيجابيا في الأوساط الشعبية التي ذاقت الأمَرَّيْن من سياسات البنوك وصلف مسؤوليها. لكن، ورغم الإشارات السليمة لسعيّد حول تقصير القطاع البنكي العمومي في خدمة الشعب واقتصاد البلاد، إلّا أنّه ظَلّ مركّزًا أكثر في خطابه على الجانب التقني و”الأخلاقي” في الموضوع، أي على مسألة “الفساد”. بينما يُفترض أن يعرف – وإن لم يكن يعرف يجب أن يكون هناك من حوله من يعرف – أنّ المسألة هي مسألة سياسات أكثر من كونها قرارات خاطئة تخصّ هذا الشخص أو ذاك. وقد تجلّى ذلك أكثر في موضوع البنك الفلاحي، فرغم أنّه انتقد بوضوح نزوع هذا البنك العمومي إلى إقراض “كبار الحيتان عوض صغار الفلاحين” – في تنكّر لمهمته الأصلية عند تأسيسه وإلى درجة أنّ تمويلاته للفلاحين لا تتجاوز 6 بالمائة – ورغم نقده لوجود قوانين تسمح بذلك (خلال اجتماعاته مع وزرائه)، إلّا أنّه لا يجرأ على القيام بما يفترض المنطق القيام به: أن يأمر أو يدعو على الأقل إلى تغيير هذه القوانين.

والحقّ أنّ سبب ذلك يعود إلى التذبذب الفكري لسعيّد. فهو كشخص قادم من الطبقة الوسطى، التي انتفعت من “المصعد الاجتماعي” (الذي شبع موتًا) لـ”دولة الاستقلال”، والمعتنق للأوهام الليبرالية حول “المنافسة النزيهة داخل اقتصاد السوق”، غير قادر على إدراك أنّه لا أمل يُرجى في “رجال الأعمال”. وأنّ نقده لـ”الاستثمار الذي لا يريد أن يتشجّع” يظلّ سطحيًا ولا يلامس باطن الأمور، طالما لم يفهم أنّ رأس المال اذا كان “جبانًا” في مطلق الأحوال (بما في ذلك في بلدان المركز الرأسمالي “المتقدم”)، فهو في بلدان الجنوب المُخلَّفَة (أي المدفوعة دفعًا نحو التخلّف من قبل القوى الاستعماريّة) جبانٌ وتابعٌ و”غير وطنيّ”، وبالتالي لا يمكن التعويل عليه بتاتًا. وهذا ليس حكما أخلاقيا أو اتهامًا بـ”خيانة الوطن”. بل هو وصفٌ موضوعي لطبيعة رأس المال في بلدان أطراف المنظومة الرأسمالية المعولمة، مبنيٌّ على معطيات وعلى تحاليل عميقة لمفكّرين كبار في منطقتنا مثل سمير أمين ومهدي عامل وفرانز فانون وغيرهم، وعلى أعمال مدرسة عريقة في الاقتصاد السياسي هي ’مدرسة التبعيّة‘.

ويمكن قول نفس الشيء تقريبًا عن موقف سعيّد من موضوع المهاجرين غير النظاميين مثلا، واقتصاره عمليًا على انتهاج “الحلّ الأمني” تجاههم دون تقديم بديل فيما هو سياسي (تغيير بنية العلاقات التابعة مع الاتحاد الأوروبي). فلو كان جادًا بحقّ في نقده لـ”النظام العالمي الظالم” للمهاجرين، لبادر إلى دراسة طبيعة العلاقات الاقتصادية المكرّسة لتبعيّتنا للأوروبيين والأمريكان وغيرهم، وخاصة إلى سنّ سياسات جديدة تُحرّرنا من هذه التبعية (خاصة في مجالات السيادة الغذائية، والسيادة الطاقية والسيادة النقدية) وتضمن حياة كريمة لشبابنا “الحارق”، وتعاملًا أكثر انسانية مع اخواننا من جنوب الصحراء. عوض ذلك،  تواصل دولتنا الالتزام بحراسة حدود أوروبا تحت عنوان “محاربة عصابات الاتجار بالبشر”، بل وتمضي قدمًا في تكريس تبعيتنا لأوروبا ونهبها لنا عبر الاحتفاء مثلا باتفاقيات “الاستثمار في الطاقات المتجدّدة” من أجل نقل الكهرباء إليها لحلّ أزمتها عوض التفكير أوّلا في ضمان اكتفائنا الطاقي.

 إذا اكتفينا فقط بتحليل الخطاب “الاقتصادي الاجتماعي والسيادي” للرئيس، وتغاضيْنا مؤقّتا عن مسألة الحرّيات العامة والديمقراطية (التي يعتقد بعض أنصاره أنّها “ترفٌ”) والتضييق على الإعلام والأحزاب وغيرها (لأنّ المجال لا يتسع وتستحق نقاشا خاصا بها)، نصل مجدّدًا إلى الاستنتاج التالي:

رغم بداية التحرك البطيئ لسعيّد نحو بعض المسائل الأساسية (مثل “استقلالية البنك المركزي” وتحويل وجهة البنوك العمومية لصالح البرجوازية والسيادة الغذائية والخ)، إلّا أنّ أداءه مازال متّسمًا بنفس القصور: الاكتفاء بالنقد السطحي وعدم تقديم بديل جذري وعمَلي كفيل بتغيير الواقع. وهو ما يعني عدم تحقيق مطالب الطبقات الشعبية في الشغل والعيش الكريم في أجَلٍ منظور. والأخطر هو ما قد يفضي إليه ذلك من تفاقم الإحباط والخيبات واليأس من كلّ خطاب، حاضرًا أو مستقبلا، حول “العدل الاجتماعي والسيادة الوطنية”.

 ومن هنا ضرورة التذكير بأحد أهمّ دروس التاريخ: أنّ الجماهير هي من تصنع مصيرها بنفسها، عبر تنظّمها الذاتي اقتصاديًا وسياسيًا من أجل مصالحها، لا عبر اتّكالها على قائدٍ مخلّص أو زعيم مُلهم قد يخطئ وقد يصيب. خاصّة إذا تعلّق الأمر بقائد لا يعرف الاستماع إلى غيره ولا يمتلك رؤية استراتيجية بديلة ولا يمتلك أدوات للتخطيط والتنظيم والتعبئة من أجل تغيير الواقع.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !