الجدال حول استقلالية البنك المركزي: السيادة النقدية لا تقتصر على إقراض الدولة

بقلم وليد بسباس
باحث شيوعي

قامت مجموعة من النواب بتقديم مقترح لتعديل القانون الأساسي المنظّم للبنك المركزي، الذي تمّ تمريره سنة 2016 والمعروف بقانون استقلالية البنك المركزي. ولو أنّ هذه المبادرة محمودة بما أنّها تمسّ أخيرا الصنم الذي يمثله البنك المركزي، وعلى رأسه السيّد المحافظ مروان العباسي، إلاّ أنّها تبقى منقوصة في عديد الجوانب. فجوهر مقترح التعديل هذا لا يشير إلاّ لنقطة وحيدة وهي إمكانية التمويل المباشر لميزانية الدولة من البنك المركزي.

على أهميته، يبقى التمويل المباشر نقطة جزئية في السيادة النقدية التي نطمح لاسترجاعها. فالسيادة النقدية أوسع من اختزالها في مسألة التمويل المباشر، لكن اثنتا عشر سنة من التجهيل والتسطيح الممنهج، عبر ما يسمّى الحصص الاقتصادية في التلفزات وفي الراديو وقنوات اليوتيوب، أدّت إلى حالة من الدهشة والذهول والخوف كلّما تكلّم “خبير” من الخبراء في أيّ موضوع من مواضيع الاقتصاد. وعوض المعرفة الحقّة لا نراهم ينطقون إلاّ بروباغندا وبهتانا، وينحسر بذلك هامش المواضيع التي يمكن تطارحها في الفضاء العام وتضيق زوايا تناول هاته المواضيع.

يمثّل موضوع استقلالية البنك المركزي ومقترح التعديل الذي تقدم به النواب أحسن مثال على الحالة التي صرنا عليها: لم يتم تناول موضوع الاستقلالية إلا من زاوية تقنية بحتة ولم يتم الإجابة على ذلك المقترح إلاّ بالبروباغندا والترهيب عبر تلك المقولة البالية: “تحبّوا طبعان الفلوس؟”([1])… سنقوم إذن في هذا المقال بالعودة إلى أصل الأمور: ماهو دور البنك المركزي وماهي المجالات التي تقع أو يمكن أن تقع في مجال اختصاصاته؟ أخيرا، ضدّ خزعبلات الاستقلالية، أيّ مضمون للسيادة النقدية التي تخدم حقًا مصالح الناس؟

1- البنك المركزي: مؤسسة للتحكم في القروض المُسداة للاقتصاد وتوجيهها

البنك المركزي هو مؤسّسة جُعلت لتنظيم عمل البنوك المتمثل أساسا في إسناد القروض، علاوة على التحكم في سعر الصرف. وخلافا للمعرفة العفوية الرائجة، فإنّ البنوك لا تسدي القروض لحرفائها من مدّخرات حرفاء آخرين، بل هي تخلق العملة اللازمة لإسناد تلك القروض. وهو أمر يمكن أن يبدو لنا غريبا بعض الشيء، لكن البنوك هي التي تخلق جزءا هاما من النقود التي يتمّ ترويجها في الاقتصاد. لا يتّسع هنا المجال للعودة إلى تاريخ المنظومة البنكية وكيف تطوّرت لنصل إلى هذه الوضعية السائدة في جميع المنظومات البنكية الحديثة، لكن يكفي أن نُحيل القارئ إلى بعض الكتابات([2]) أو حتى إلى دراسة قام بها بنك إنقلترا (أي البنك المركزي الإنقليزي) سنة 2014([3]).

وعليه، فإنّ دور البنك المركزي هو تنظيم عملية خلق العملة من خلال إسناد القروض لكي لا يتمّ إسناد قروض أكثر ممّا يمكن أن يستوعبه الاقتصاد. ويستعمل البنك من أجل ذلك عدّة أدوات، منها نسبة الفائدة المديرية ونسبة الإحتياطي الإجباري. يقوم مثلا البنك المركزي بالترفيع في نسبة الفائدة المديرية ليكبح عملية إسناد القروض. أما نسبة الإحتياطي الإجباري فهي نسبة يحدّدها البنك المركزي لكي لا يتجاوز حجم القروض المسندة من بنك ما نسبة معيّنة من أمواله الخاصّة، وهذه النسبة تراوحت في تونس بين 1% و10% في السنوات الأخيرة ([4]). كما يستعمل البنك المركزي مؤشر نسبة القروض من الودائع، وقد قام بتسقيفها بنسبة 120% سنة 2018 لمزيد السيطرة على القروض([5]).

علاوة على هاته الأدوات الكميّة، فإنّ للبنك المركزي أدوات نوعية لتنظيم عملية إسناد القروض. فمثلا، خلال جائحة كورونا، شجّع البنك المركزي البنوك التجارية على تسهيل القروض للمؤسسات السياحية وغيرها من المؤسسات التي تضرّرت من الجائحة عبر قبول سندات الديْن لهاته المؤسسات في إطار عمليات إعادة التمويل([6]). وهنا نذكر أن عمليات إعادة التمويل هي الطريقة التي يسند من خلالها البنك المركزي قروضا للبنوك التجارية التي تحتاج إلى السيولة. وتتمّ إعادة التمويل هذه مقابل سندات الدين التي تقوم على أساسها البنوك التجارية بإسناد القروض([7]). وهذه الأدوات النوعية يُمكن أن تُعتبر سياسة لتوجيه القروض نحو قطاعات معيّنة يقوم بها البنك المركزي.

كما يمكن أن تُوجد آليات أخرى لتوجيه القروض نحو قطاعات معيّنة لا تحتكم مباشرة إلى آليات السياسة النقدية التي بيد المركزي. فمثلا فرضت الدولة الفرنسية على البنوك التجارية بعد الحرب العالمية الثانية أن تموّل ميزانية الدولة بمقدار معيّن من الودائع التي توجد لدى البنوك بنسبة منخفضة، وقد مكّنت هذه الآلية الدولة الفرنسية سنة 1960 مثلا من جمع 53.2% من مجموع الودائع الموجودة لدى البنوك وتوزيع 44.8% من القروض للاقتصاد في إطار مخطّطاتها الإقتصادية([8]).

البنك المركزي هو ليس إذن فقط المؤسسة التي تموّل البنوك عند احتياجها إلى السيولة. وليس فقط المؤسسة التي يمكن أن تموّل ميزانية الدولة مباشرة، مثلما كان يحدث ذلك خلال الستينات عبر منحها تسهيلات وحتى قروضا مباشرة، وكما موّل خزينة الدولة مباشرة في ديسمبر 2020 خلال الجائحة. هي علاوة على ذلك، وبالأخص، المؤسسة التي تتحكّم في القروض التي تسندها البنوك كميّا ونوعيّا: هي المؤسسة التي يمكن أن تُوجّه البنوك نحو تمويل قطاعات بعينها وهي التي تتحكّم أيضا في كمية القروض المُسداة من هذه البنوك. وهنا مربط الفرس: تمويل الاقتصاد لا يقتصر على تمويل ميزانية الدولة، وهيكلة الاقتصاد هي رهينة التمويلات -التي تتحول إلى  استثمارات- التي يقوم بها مختلف الفاعلين. فمثلا كان نصيب الخدمات من جملة القروض المسداة للاقتصاد يبلغ معدّل 35%([9]) في الثمانينيّات، إلاّ أنّه بدأ يرتفع شيئا فشيئا خلال التسعينيّات ليتجاوز 55% بداية الألفينيّات ويبلغ معدّل 62% خلال الألفينبّات ثمّ 70% في الفترة 2011-2018. ويقدّم الرسم البياني الموالي فكرة عن تناسب القروض المسداة لقطاع الخدمات مع نصيب هذا القطاع من الناتج الداخلي الخام([10]).

من يقرّر اليوم أين تذهب التمويلات هي “السوق” بناء على ربحية هذا أو ذاك من الاستثمارات المُزمع القيام بها. ولا نتفاجأ إذن إن ذهبت التمويلات نحو القطاع العقاري أو في زراعة الزياتين والطماطم ولم تذهب نحو الفلاحين الصغار الذين ينتجون غذاءنا. ومنطق السوق هو منطق الربحية المباشرة قصيرة المدى، ولا تكترث لاعتبارات أخرى مثل ديمومة المجال الذي نعيش فيه والحفاظ على الثروة المائية أو البحرية والبيئية بصفة عامة أو على صحة الناس وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية.

أما عن المهمة الأساسية الثانية للبنك المركزي، فهي التحكّم في سعر الصرف… سابقا! حيث أنّ سعر الصرف كان يتحدّد في الماضي (أي قبل “الإصلاح الهيكلي”) في مكاتب البنك المركزي بناء على مثال نظري يحدّد قيمة سعر صرف الدينار بالاستناد إلى سلّة من العملات الصعبة المرجعية. أما بعد برنامج  الإصلاح الهيكلي، فقد صار سعر الصرف يتحدّد في سوق الصرف، وسوق الصرف هذه هي سوق تجمع البنوك فيما بينها لتتبادل العملات. ويتحدد سعر الصرف في سوق الصرف على ما يسمّى “قاعدة العرض والطلب”، حيث أنّ ارتفاع الطلب على الدولار مثلا يتسبب في ارتفاع سعره بالدينار التونسي وعليه تنخفض قيمة الدينار، والعكس بالعكس. وهنا كان من المسموح للبنك المركزي أن يتدخل في سوق الصرف بضخ العملة الصعبة لتعديل العرض والطلب وحماية قيمة الدينار، إلاّ أنّ قانون ما يسمّى “استقلالية” البنك المركزي قد قام بقييد هذه الصلاحية.

2- استقلالية البنك المركزي: ما جنته علينا الإملاءات

سنذكّر هنا في هذه الفقرة بما دفع الدولة التونسية إلى تمرير ما اصطلح بتسميته “قانون استقلالية البنك المركزي”، وهو مرتبط أساسا بالمثال النظري الذي يعتمده صندوق النقد الدولي في “الإصلاحات” التي يُمليها على دول الجنوب([11]). يتمثل المثال النظري للإصلاح الهيكلي في أربع معادلات قام بصياغتها الإقتصادي الهولندي جاك بولاك سنة 1957، وكان هدفه منها معالجة اختلال الموازين التجارية الذي يمكن أن تعاني منه بعض البلدان. وقد صاغ جاك بولاك هذا المثال النظري انطلاقا من المعطيات النقدية المتوفّرة آنذاك، وعليه فقد كان المثال النظري نقدويا (Monétariste).

الانكماش النقدي هو جوهر الإصلاحات

ما يقوله المثال النظري هو أنّ جزءا من الكتلة النقدية الموجودة في البلاد ستذهب نحو استهلاك البضائع المنتَجة محليّا، والجزء الآخر سيذهب في استهلاك موادّ مورّدة. وبناء عليه، يقول المثال النظري أنه يجب التقليص في الكتلة النقدية برمّتها. ويتمّ التقليص في الكتلة النقدية عبر التقليص في القروض التي تُسديها البنوك التجارية للاقتصاد. وذلك ما تمّ فعلا في تونس انطلاقا من سنة 1985 ([12])، حيث نزلت معدّل نسبة التطوّر السنوية للقروض المسداة للإقتصاد من نسبة 23% في الفترة الفاصلة بين 1972 و1984 إلى 10% في الفترة الفاصلة بين 1985 و2010، وهو ما يمثل تراجعا بنسبة 56%.

ولئن أدّى التقليص في تطوّر القروض غرضه في التقليص في تطوّر الكتلة النقدية، حيث أنّ معدّل التطوّر السنوي للكتلة النقدية تراجع من 18% بين 1972 و1984 إلى 10.75% في الفترة الفاصلة بين 1985 و2010، إلاّ أنّ هذا التراجع كان له عواقب وخيمة أخرى. فقد أدّى هذا بصفة مباشرة إلى تدهور الاستثمار في البلاد منذ سنة 1984. اذ نزل حجم تراجع حجم الاستثمار -بالدينار القار- بشكل كبير انطلاقا من سنة 1984 ولم يسترجع مستواه لتلك السنة إلاّ بعد 13 سنة، أي في عام 1997. أي أنّ اقتصاد الدولة برمّته شهد تجميدًا مباغتا لمدّة 13 سنة بينما في الأثناء تطوّر المجتمع وعدد السكان ومعهم حاجياتهم. ولم يواكب الاقتصاد هذا التطوّر.

وقد كان ذلك السبب الأوّل في انتشار ظواهر لم تعرفها البلاد من قبل بذلك الشكل: انتشرت البطالة وانتشرت مظاهر الاقتصاد الموازي، وبالأخص بدأ البحر المتوسّط يشهد رحلات “الحرقة” ([13]). ما حدث هو أنّ المجال الرسمي للاقتصاد قد تقلّص ولم يعدّ يتّسع لسكّان البلاد. فوجد عدد متزايد منهم أنفسهم خارج هذا المجال الرسمي ولم يبق لهم من خيار إلاّ البطالة أو الموازي أو الحرقة.

هذا التقليص في حجم القروض المسداة للإقتصاد أثّر كذلك على ميزانية الدولة، بما أنّ الدولة تتقاسم تلك القروض مع القطاع الخاص. فحسب شروط صندوق النقد الدولي، لا يجب أن يؤثر التقليص في حجم القروض المُسداة للإقتصاد على القطاع الخاص، وعليه فإنّه على الدولة أن تمتنع عن الاقتراض لتُفسح له المجال. وقد كان للصندوق ما أراد، وكنتيجة مباشرة لذلك فقد تراجعت موارد ميزانية الإستثمار وتراجعت نسبة مصاريف الاستثمار من مجموع مصاريف الدولة من معدّل 37% في الفترة الفاصلة بين 1975 و1985 إلى 22% في الفترة الفاصلة بين 1987 و1997. ولتتمكّن الدولة من المحافظة على حدّ أدنى من الاستثمار، تمّ الضغط على مصاريف التسيير بالضغط على كتلة الأجور وإيقاف الانتدابات: هذا ما يسمّونه سياسة التقشف!

أخيرا، يجب أن نشير إلى أن تأثير “الإصلاحات” على القروض المُسداة للاقتصاد لم يكن فقط كميا، بل كان كذلك نوعيا بتراجع الدولة عن الاستثمار وترك “السوق” تفعل مفعولها في القطاعات التي تتوجه إليها التمويلات، حيث انخفض مناب المؤسسات العمومية من مجمل القروض المسداة للإقتصاد من 34,5% سنة 1988 إلى معدّل 5% في العشرية 2000-2010. لكن الرقم اللافت للإنتباه هو التراجع الكبير للقروض المُسداة لقطاع الفلاحة (بقطع النظر عن طبيعة الزراعات) من نسب لا تقلّ عن 10% وتتجاوز نسبة 15% لفترة ما إلى نسبة تقارب 4% في العشرية الأخيرة مقابل تضخم قطاع الخدمات (بما في ذلك القروض الفردية) الذي كان يتحصّل على نسب تقارب 35% في الثمانينيّات لكنّه تغوّل ليستحوذ على قرابة 70% من القروض المسداة للإقتصاد في العشرية الأخيرة.

توزيع القروض المُسداة للاقتصاد بين القطاعات

يمكن أن نتمعّن أكثر في العبث الحاصل عندما ندقّق مثلا في قائم القروض المسداة للاقتصاد سنة 2019 ونرى مثلا أن قطاع الخدمات (دون احتساب القروض الفردية) يستحوذ على 12 ضعف (37,1%) ما يُعطى للفلاحة (3,1%) وأنّ القروض الاستهلاكية تبلغ أربعة أضعاف قروض الفلاحة… هذه هي أولويات “السوق”: القروض التي تُعطى للإستهلاك (ونحن نعلم أنها قروض جُعلت لإبقاء الموظفين\ات في دوامة القروض المضمونة) بينما لا يتحصل الفلاحون\ات الصغار على قروض لعدم قدرتهم على توفير الضمانات اللازمة. ونحن نعلم أيضا أن أغلب القروض الموجهة للفلاحة هي قروض مشجعة للزراعات التصديرية، لا للحبوب([14])! 

التخفيض في قيمة العملة: العنف المُمَنهج على البنى الاقتصادية الداخلية

من أجل تعديل الميزان التجاري، يطالب صندوق النقد الدولي بالتخفيض في قيمة العملة. هذا التخفيض، حسب الصندوق، سيقلّص من الواردات ويزيد من الصادرات. حيث أنّ تخفيض قيمة العملة سيتسبّب بصفة مباشرة في الترفيع في أسعار البضائع المورّدة في السوق الداخلية ومن ثمّة سيتقلّص الطلب عليها وتنخفض بذلك الواردات. أما عن تشجيع الصادرات فالأمر أعقد بقليل. حيث تقول المعرفة العفوية الرائجة في هذا الموضوع بأنّ تخفيض قيمة العملة سيخفّض في سعر الصادرات، وبذلك ستكون بضائع تنافسية على الأسواق العالمية. إلاّ أنّ هذا الأمر خاطئ ببساطة، بما أنّ أغلب البضائع التي تصدّرها بلدان الجنوب (مثل تونس) هي مواد أوّلية وفلاحية يتمّ تحديد أسعارها في بورصات عالمية مخصّصة للغرض.

في الحقيقة، إنّ تخفيض قيمة العملة يكون له مفعول على أسعار المواد القابلة للتصدير مقارنة بالأسعار الموجّهة للسوق الداخلية. فهذا من شأنه أن يدفع رؤوس الأموال المحليّة إلى توجيه استثماراتها نحو البضائع التي يمكن أن تحقق لهم الأرباح الأكبر، وهي إذن البضائع القابلة للتصدير. بهذه الطريقة، يتمّ تحويل أغلب الاستثمارات نحو إنتاج سلع موجهة للسوق الخارجية. هذا ما يدفع مثلا المستثمرين الفلاحيين نحو زراعة الزيتون أو القوارص عوضا عن الحبوب. هذه العملية تُسمّى في أدبيات الاقتصاديين “إعادة توجيه مُثلى للموارد”…

يجب الإشارة هنا إلى أنّ مؤسسات التمويل الدولية لم تعد تطالب مباشرة بالتخفيض في سعر الصرف، بل تبثّ “ملاحظاتها” بأنّ سعر الصرف “أعلى من مستواه الحقيقي”. حيث أنّ الاتفاقات السابقة مع صندوق الدولي في 1964 و1986 نصّت صراحة على تخفيض قيمة العملة([15])، إلاّ أنّ الأمر كان مختلفا سنة 2016. حيث أن “استقلالية البنك المركزي” تعني عمليا في موضوع سعر الصرف أن تتراجع هذه المؤسسة عن عملية التدخل في سعر الصرف وألاّ تواصل في دعم قيمة الدينار عبر ضخ العملة الصعبة في سوق الصرف، إلاّ في حالات استثنائية. ويكون بذلك السوق (في هذه الحالة سوق الصرف) هو المحدّد الوحيد لقيمة العملة، وبذلك يتحقق الحلم الليبرالي المتمثل في “حقيقة الأسعار”. وبالنسبة لهم، عندما تتحقق حقيقة الأسعار، سيتمّ التخصيص المثالي للموارد من قِبل المستثمرين، أي أن يحوّلوا استثماراتهم من القمح، الذي لا يدرّ أرباحا كبيرة، نحو القوارص أو الفراولة أو الكيوي أو الزيتون…

وقد كان لهم ذلك. إذ ما إن دخل قانون “الاستقلالية” حيّز النفاذ، حتى نزلت قيمة الدينار بصفة حادّة في فترة قصيرة (-10% خلال ما يقارب شهرين – أنظر.ي الرسم البياني) في ما لا يمكن إلاّ أن نسمّيه هجمة مضاربية من البنوك. حيث أن البنوك، في الوضعية الجديدة التي خلقها القانون الجديد، قامت بالهرولة نحو سوق الصرف لتكديس العملة الصعبة تحسّبا لعدم التدخل المستقبلي للبنك المركزي. فارتفع الطلب على العملة الصعبة بصفة مباغتة ممّا أدّى ميكانيكيا إلى ارتفاع أسعارها، وإذًا نزول قيمة الدينار.

تطوّر سعر الصرف في فترة تمرير قانون “الاستقلالية” (من تقارير البنك المركزي)

لم تقف الأمور عند ذاك الحدّ. إذ أنّ الدينار فقد تقريبا 50% من قيمته أمام الدولار والأورو خلال السنتين المواليتين، وهذا ما تسبّب في تدهور جميع المؤشرات المالية للدولة والمؤسسات العمومية، ممّا أدّى إلى مزيد تعميق سياسات التقشف. فقد ارتفعت مثلا مديونية الدولة من 52% من الناتج الداخلي الخام سنة 2015 إلى 73% سنة 2018 بسبب ارتفاع المديونية الخارجية من نسبة 33% إلى 53%. وكان تدهور سعر الصرف السبب الأساسي لارتفاع المديونية، حيث تسببت خسائر الصرف بصفة مباشرة في ارتفاع المديونية بقيمة 18746 مليون دينار (3936 مليون دينار سنة 2016 و5354 م.د. في 2017 و9465 في 2018).

تطوّر المديونية (أرقام وزارة المالية)
عوامل تطوّر المديونية (أرقام وزارة المالية)

كذلك، فإنّ نزول قيمة الدينار أمام العملات الخارجية الرئيسية قد أثقل كاهل ميزانية الدولة من ناحية خدمة الدين، أي دفع أقساط الديون الخارجية أصلا وفوائد. فقد ارتفعت خدمة الدين من أقل من 6% من جملة مصاريف الدولة في 2015 و2016 إلى أكثر من 13% بعدها. وكان لذلك الأثر المباشر على مصاريف الدولة الأخرى، وخاصة منها المتعلقة بالخدمات الاجتماعية. حيث انخفض مناب وزارة الصحة من جملة مصاريف الدولة في نفس الفترة الزمنية من أكثر من 6% إلى أقل من 5%، وهو ما يمثل انخفاضا بأكثر من 17%.

لكن ما سبق لا يرتقي للخراب الذي لحق المؤسسات العمومية بسبب نزول قيمة الدينار أمام العملات الخارجية، وهو ما تُظهره دراسة قامت بها الباحثة إيمان اللواتي([16]). فمثلا تكبّدت الشركة التونسية للكهرباء والغاز خسائر صرف تقدّر بـ1500 مليون دينار خلال الفترة 2016-2018، ممّا عمّق مديونيتها. أما الصيدلية المركزية، فقد تكبّدت خسائر صرف بقيمة 374 مليون دينار، ممّا طرح أرضا نتيجتها الصافية من +144 مليون دينار في 2017 إلى -234,6 م.د. في 2018. علاوة على ذلك، وبما أنّ 80% من شراءات الصيدلية المركزية بالعملة الصعبة، فإنّ مديونيتها لدى مزوّديها ارتفعت بـ75% من 2015 إلى 2017 لتصل إلى مبلغ 1100 م.د… لا يجب أن نبحث طويلا عن المسؤول عن فقدان الأدوية منذ 2018: إنها “استقلالية” البنك المركزي!

3- مقترح التنقيح: ما له و ماعليه… وأيّ سيادة نقدية نريد؟

فلنعد إلى مقترح التنقيح الذي قدّمه نوّاب كتلة ’الخطّ الوطني السيادي‘ . هذا المقترح يركّز بالخصوص على جانب واحد، وهو إمكانية أن يقدّم البنك المركزي تسهيلات للخزينة، أي بلغة أخرى أن يُتاح للبنك المركزي تقديم قروض قصيرة الأمد لميزانية الدولة بنسب منخفضة وبسقف لا يتجاوز نسبة معيّنة من الناتج الداخلي الخام. هو مقترح محمود في حدّ ذاته، لكنّه -ونظرا لما سبق ذكره- منقوص بعض الشيء ولا يلمس إلاّ جانبا وحيدا من السيادة النقدية التي وُضعت بين أيادي البنك المركزي “المستقلّ”. ما رأيناه أعلاه هو أنّ استقلالية البنك المركزي تعني شيئا واحدا: أنّ صلاحياته توضع بين أيدي “السوق”: صلاحية تحديد سعر الصرف، صلاحية تحديد كمية القروض المُسداة وصلاحية توجيهها نحو قطاعات دون أخرى. وهي صلاحيات أشمل بكثير من إمكانية الإقراض المباشر للدولة.

ما نحيّيه في هذا المشروع هو أنّه يخدش صنم استقلالية البنك المركزي، لكنّه بعيد كل البعد عن إسقاطه بما أنّه يكتفي بتناولها من زاوية تقنية بحتة. وهذا أمر عاديّ نظرا لما لحق الخطاب السائد -وحتّى خطاب بعض القوى الراديكالية- من تشوّهات ليبرالية في علاقة بالعملة. هذه التشوّهات تتلخّص في أنّ البنك المركزي هو جهاز تقني بحت وأنّ العملة مُحايدة في الاقتصاد، أيّ أنّ ضخ العملة ليس له أيّ تأثير على الحركة الاقتصادية عدا خلق التضخم، وهي النظرة النقدويّة (Monétariste) للإقتصاد. هذه النظرة هي التي هيمنت على الخطاب الاقتصادي منذ السبعينيات، ضاربة عرض الحائط بكل التجارب السابقة في القرن العشرين، من تجربة الـ’نيوديل‘ الأمريكية إلى الثلاثين المجيدة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مرورا بتجارب اللحاق في الستينيّات ببلدان الجنوب: كلّها طُبّقت فيها التعاليم الكينيزية في ضخ العملة في الاقتصاد عبر التداين لإنجاز المشاريع والاستثمارات في القطاعات الاستراتيجية والبنية التحتية.

يقول الاقتصادي الماركسي علي القادري([17]) في هذا الصدد:

“ففي الاقتصاد الرأسمالي، ليست الحركة الاقتصادية هي التي تخلق الحركة المالية، بل الحركة المالية هي التي تضع الأرضية لتَوسع السوق وتستبق الحركة الاقتصادية لتفتح المجال لها. زيادة عرض النقد من خلال عملية الائتمان يعني تحفيز  الحركة الاقتصادية. فأنت تقترض حين تريد أن تبدأ مشروعًا، أي أن تحصل على الائتمان أولًا ثم تشغّل المال. فالرقعة النقدية هي التي تخلق الأرضية الأساسية للتوسع الاقتصادي. البنوك عمليًا – بالامتيازات التي تكتسبها من البنك المركزي ومن خلال التجزئة المصرفية – قادرة على خلق النقد من لا شيء.”

لكن النظرية النقدويّة تقول عكس ذلك تماما، ونبقى حبيسي الإيديولوجيا والخرافة: خرافة الحريفيْن اللذيْن يتنافسان على شراء خبزة، وكلّما زادت الأموال بين أيديهما كلّما ارتفع ثمن الخبز في المزاد العلني بينهما([18])… ولا يخطر ببال أحد من هؤلاء “المخرّفين” أنّ المخبزة يمكن أن تصنع خبزة أخرى مقابل الأموال الإضافية، وتتحرك بذلك عجلة الانتاج، ويدخل ناس آخرون في الدورة الإقتصادية ويخرجون من حالة الإقصاء المجتمعي التي تفرضها عليهم البطالة… لأنّ النقود رابط اجتماعي مثلما يؤكد ذلك الأنثروبولوجيون وحتى بعض الاقتصاديين الذين لم يخضعوا للفكر المهيمن. وهو ما يؤكد زيف مقولات الخبراء التقنويين ودعاة ترك البنك المركزي تحت سيطرة “تقنيّين”: هذا ما يسمّونه استقلالية البنك المركزي. هذه الإستقلالية هي خضوع السيادة النقدية إلى معادلات مبهمة وضعها اقتصاديون لم يثبت التاريخ يوما صحة مقولاتهم، لكنّها تسبّب الدمار أينما تمّ تنفيذها: شمالا وبالخصوص جنوبا.

وما خير دليل على إفلاس هؤلاء الخبراء إلاّ ردودهم على مشروع مقترح التنقيح الذي قدمه النواب رغم أنّه، كما رأينا، لا يتميّز بطموحه الكبير ولا يمس بصفة جوهرية من صنم الاستقلالية. إجابتهم الوحيدة هي أنّ هذا التغيير سيفتح الباب نحو “طبع العملة بصفة محمومة من الدولة لترضي الشعب وسيخلق ذلك حالة من التضخم الكبير”. ما يقصدون به بـ”طبع العملة” هو الإقراض المباشر من البنك المركزي للدولة. هي إجابة لا تكشف إلاّ على جهل هؤلاء: لم يسجل التاريخ زمن انعدام استقلالية البنوك المركزية (أي قبل الثمانينيّات والهجمة الليبرالية) أيّ سلطة معتوهة قامت بطبع العملة بالطريقة التي يصفونها. وحالات التضخم الكبير درسها بعمق الاقتصادي الأمريكي راندال راي -وهو أحد أعلام النظرية النقدية الحديثة- وأسبابها هي إمّا أزمة كبرى (مجاعة، حرب أهلية،…) أو اختلال كبير لميزان الدفوعات، أي عمليا عند أزمات العملة الصعبة([19]).

إسقاط صنم “استقلالية البنك المركزي” يعني استعادة السيادة النقدية من جميع جوانبها. أوّلها السيطرة المباشرة على سعر الصرف مثلما كان الحال تقريبا في جميع بلدان العالم قبل الهجمة النيوليبرالية، وثانيا، وبالخصوص، استعادة السيطرة على عملية خلق العملة: فلتبق البنوك إن لزم الأمر، لكن لا يمكن أن يتواصل هذا العبث في توجيه القروض نحو قطاعات غير منتجة للثروة الحقيقية (أغلب قطاعات الخدمات…) أو مستنزفة للعملة الصعبة (قروض السيارات، إنشاء المركّبات التجارية الكُبرى…) أو مستنزفة للثروة المائية (الفراولة والقوارص والتمور الموجهة للتصدير…) أو تُكرّس المضاربة وتسهّل تبييض الأموال مثل القطاع العقاري([20])، بل ونسنده في هروبه إلى الأمام نحو البناء العشوائي البشع في زمن نحتاج فيه إلى الاستثمار بقوّة في بناء لائق إيكولوجي وناجع طاقيا (أي لا يحتاج لا مكيفات ولا أجهزة تدفئة)… الفرق بين هذه الاستثمارات وتلك التي نطمح إليها هو في أنّ الأولى هي استثمارات مضمونة الربحية وعلى المدى القصير، والثانية هي غير ربحية بالمعنى النقدي للكلمة بل هي ذات قيمة بشرية وبيئية… أي في كلمة: ذات قيمة اجتماعية.

دور السلطة السياسية الوطنية الحقة اليوم هو استعادة السيادة النقدية لتوجيه الاستثمارات نحو قطاعات استراتيجية من أجل ضمان سيادتنا الغذائية، وضمان بيئة قابلة للعيش للتونسيات والتونسيين في مستقبل قريب سيأتينا بمخلّفات التغيّر المناخي على أراضينا ومياهنا. في توجيه الاستثمارات نحو بنية تحتية مائية وكهربائية مستدامة. في توجيه الاستثمارات نحو قطاع الصحة لتلبّي حاجيات المجتمع، خصوصا وهو متجه إلى التهرّم([21])… في كلمة: إستعادة السيادة النقدية هي نزعها من بين أيدي السوق التي لا تتوجه إلاّ نحو القطاعات الربحية على المدى القصير ولا يعترف إلاّ بالقيمة النقدية لتعود بين أيادي سلطة شعبية حقّة، ديدنها القيمة الاجتماعية قبل كل شيء، تضع المخططات اللازمة لتعيد للاستثمار العمومي حجمه اللازم ليشمل القطاعات الحيوية والتي تتطلبّ تخطيطا مركزيا (صحة ونقل وتعليم وماء وطاقة…) وتمكّن الفلاحين\ات من التمويلات اللازمة (بعد تمكينهم من الأراضي) دون قيود بيروقراطية لتحقيق سيادتنا الغذائية، وتمنع كلّ تمويل لأيّ نشاط يستنزف مقدّراتنا المشتركة في سبيل أقلية لا هدف لها سوى تكديس الأرباح.


[1] عندما يسخر المغرور من يده المشلولة: “تحبو طبعان الفلوس؟” أو سياسات الوصم الساذج في خدمة التقشف. موقع إنحياز، 2021.

[2] مثلا:

1- La Monnaie: Un enjeu politique, Les économistes atterrés, Editions Points, 2018.

2- Modern monetary theory, a primer on macroeconomics for sovereign monetary systems, L. Randall Wray, Palgrave McMillan, 2012.

[3] Money creation in the modern economy, Bank of England

[5] Banques – Nouveau ratio Crédits/Dépôts: Les enjeux et les implications. Il Boursa.com

[6] BCT – Refinancement à un mois des banques: Nature et conditions du collatéral éligible. Il Boursa.com

[7] مثلا، إن أسند البنك “أ” قرضا بـ100 دينار إلى المؤسسة السياحية “ب”، فإنّهما يرتبطان بعقد يسمّى “سند الدين”. لمّا يحتاج البنك إلى السيولة من البنك المركزي، فإنّه يتقدّم إليه بسند الدين ذلك مقابل القرض التمويل الذي يطلبه. بصفة عامة، لا يموّل البنك المركزي البنك “أ” بكامل المبلغ، بل يقوم بإعطائه 100د مع خصم (décote) نسبة معيّنة من قيمة سند الدين (مثل عملية الرهن) لكي لا يستسهل البنوك المرور إلى عملية إعادة التمويل

[8] ذُكر في “La Monnaie, Un Enjeu Politique” – Les économistes atterrés ، الصفحة 73:

“Après la seconde guerre mondiale, les pouvoirs publics français ont mis en place un système efficace de financement public. Destiné au départ à assurer la reconstruction de l’économie, ce système a ensuite largement contribué au financement de sa modernisation. La première étape a été la création du <<Circuit du Trésor>>, composé de la Caisse des Dépôts et des Consignations, des Caisses d’épargne, de La Poste et du Trésor Public. Ce circuit, contrôlé par l’Etat, a occupé une place centrale dans le système de financement de l’économie. Les banques sont tenues de souscrire aux bons du Trésor à hauteur d’une proportion -appelée <<Plancher>>- des dépôts qu’elles sont elles-mêmes recueillis auprès de leurs clients. En 1960, le circuit du Trésor collecte 53,2% des liquidités et distribue 44,8% des crédits à l’économie; à partir de l’épargne populaire ainsi centralisée, l’Etat peut financer l’économie à prix très réduit, pendant que la Banque de France garantit les dettes publiques, voire procure des avances à l’Etat à taux zéro”

[9] عدى إشارات مخالفة، جميع الأرقام الموجودة في هذا المقال مأخوذة من تقارير البنك المركزي التونسي.

[10] أرقام نصيب قطاع الخدمات من الناتج الداخلي الخام من هنا

[11] صندوق النقد وذاكرة الإصلاحات المفقودة: الأسس النظرية للإصلاح الهيكلي. موقع إنحياز

[12] يجب التذكير هنا أن المحادثات بين الدولة التونسية وصندوق النقد الدولي انطلقت منذ سنة 1983 و كانت أوّل نتيجة لها رفع الدعم عن الخبز، ممّا أدّى إلى ثورة الخبز نهاية 1983 وبداية 1984

  • [13]Larbi Chouikha et Kamel Labidi, Le fléau de la débrouillardise, Le Monde Diplomatique, Juillet 1993
  • Larbi Chouikha et Kamel Labidi, La Tunisie, sans filet, dans le grand jeu de la libéralisation économique, Le Monde Diplomatique, Juillet 1993.

[15] Sophie Bessis, Banque Mondiale et FMI en Tunisie, une évolution sur trente ans, Éditions du CNRS, 1987.

[16] Louati Imen., Ben Rouine Chafik., FMI : Impact de la dévaluation du dinar en Tunisie. Observatoire Tunisien de l’Economie. Briefing paper n°11,  2021.

[17] المؤسسات المالية الدولية والمديونية والحرب: مقابلة مع علي القادري، موقع حبر، 2019.

[18] أنظر.ي مثلا حلقةفلوسناحول التضخم.

[19] Randall Wray: A primer on Macroeconomics for sovereign monetary systems, Palgrave McMillan, 2015.

[20] Mhamed Mestiri, Le secteur immobilier suspecté par la banque centrale de Tunisie? Nawaat, 2017.

[21] منذر سوودي، تهالك الصحة العمومية وتهرم المجتمع: منحنيان يتقاطعان في مأساة، موقع إنحياز، 2022.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !