الأمن الغذائي والسيادة الغذائية: يكمن الشيطان في المفاهيم

تعود جذور مفهوم “الأمن الغذائي” إلى المؤتمر العالمي للغذاء الذي أقيم في روما سنة 1974 واقتصر تعريفه على فكرة أن “لكل رجل وامرأة وطفل الحق غير القابل للتصرف في أن يتحرر من الجوع وسوء التغذية لكي ينمي قدراته الجسدية والعقلية إنماء كاملا ويحافظ عليها” (تقرير مؤتمر الأغذية العالمي، 1974). في مرحلة موالية، نصّ إعلان روما حول الأمن الغذائي العالمي سنة 1996 على المفهوم بكونه: “الوضعية التي يتمكن فيها كل الناس في كل الأوقات من الحصول على الغذاء الكافي ماديا واقتصاديا وأن يكون الغذاء آمنا ومغذيا لتلبية الاحتياجات الغذائية والأطعمة المفضلة وذلك لضمان حياة نشطة وصحية”.

من السهل جدا ملاحظة سكوت هذا التعريف العالمي للأمن الغذائي على طريقة الحصول على الغذاء الكافي. كما أن مؤتمرات روما وإعلاناتها قد التأمت في مراحل حرجة من تاريخ النظام الرأسمالي حين أصبحت فضائعه ظاهرة للعيان من خلال أزمته الهيكلية التي انطلقت سنة 1972 وخلّفت وراءها المجاعات والأوبئة.

لم يكن هذا السكوت سهوا أو جهلا بل تماشى بمثالية مع “روح العصر” التي صدحت بمبادئ العولمة (ذلك الاسم الجديد والناعم للإمبريالية) والتبادل السلعي الحر بين الدول والتكتلات وفتح الأسواق المحلية لرياح التغيير التي آنت لها اللحظة التاريخية كي يطول هبوبها القطاع الفلاحي والمنتجات الغذائية.

تميزت الفترة الفاصلة بين المؤتمر والإعلان بالتغلغل في نظام الغذاء العالمي الذي تلى أزمة النفط الأولى سنة 1973. انقضت “الثلاثون سنة المجيدة” التي سادت فيها سياسات رعاية الدول للاقتصاد في مراكز رأس المال العالمي وانطلقت مرحلة أُطلق عليها اسم “الليبرالية الجديدة” والتي أعلنت طغيان قوانين السوق على الاقتصاد العالمي. كنا قد تحدثنا سابقا عن الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (GATT) والتي كانت دورتها الثامنة والختامية في الأوروغواي بين 1986 و1994 فاتحة لتأسيس المنظمة العالمية للتجارة. خلال هذه الدورة، تم رفع الاحتراز عن نقاش الإنتاج الفلاحي فانبثقت أول اتفاقية متعددة الأطراف مخصصة للقطاع الزراعي. تم تبني هذه الاتفاقية من قبل المنظمة العالمية سنة 1995 وكانت من أهم مرتكزاتها الرفع التدريجي للدعم على الإنتاج الفلاحي وعلى الصادرات وتخفيض الرسوم الجمركية على الحواجز أمام التجارة العالمية في المواد الفلاحية.

في خضم هذا التغول الرأسمالي العالمي، انبثقت حركة طريق الفلاحين – ViaCampesina سنة 1993 كي تكون صوت الفلّاحة على الصعيد العالمي. تعرّف هذه الحركة نفسها بأنها: “حركة عالمية تجمّع ملايين القرويين والعمال الزراعيين بلا أرض والسكان المحليين والرعاة والبحّارة والمهاجرين العاملين في الزراعة وصغار ومتوسطي الفلّاحة والنساء القرويات والشباب المزارع حول العالم. تعتمد هذه الحركة على حس صلب من الوحدة والتضامن وتدافع عن الفلاحة القروية والسيادة الغذائية”. تبنت هذه الحركة مجموعة من المبادئ ونادت بها من خلال إعلان مون سنة 1993 والتي تتلخّص في:

  • حق الفلّاحة الصغار في أن يقتاتوا من الريف وذلك عبر ممارسة حقهم الأساسي في تحديد وترسيخ منوال التنمية الريفية.
  • الحق في فلاحة متنوعة تضمن بصفة أولوية صحة جيدة وغذاء ذا قيمة عالية لكل البشر حول العالم وذلك على قاعدة الاحترام العميق للبيئة من أجل مجتمع متوازن ووصول فعلي إلى الأرض.
  • حق كل بلد في تحديد سياساته الفلاحية حسب المصالح الوطنية والمشاركة الحقيقية للفلّاحة.

انطلقت هذه الحركة في نضالها العالمي حتى بلغ عدد المنظمات المنتسبة إليها 182 منظمة توزعت في 82 بلدا كي تمثّل أكثر من 200 مليون فلاح وفلاحة. وانبثق عن هذه الحركة واحد من أهم المفاهيم الفكرية والسياسية المتعلقة بالفلاحة وإنتاج الغذاء ألا وهو مفهوم “السيادة الغذائية”. عرّفت حركة طريق الفلاحين مفهوم السيادة الغذائية في مرحلة أولى خلال قمة الغذاء التي نظمتها منظمة الغذاء والزراعة بروما عام 1996، بأنها “حق الشعوب في الغذاء الصحي والملائم ثقافيا من خلال أساليب سليمة بيئيا ومستدامة، وحقها في تحديد طعامها والنظم الزراعية المناسبة للظروف الخاصة بها”.

ثم في مرحلة لاحقة، تم تنقيح هذا التعريف كي يكون أكثر شمولية وذلك من خلال وثيقة نييليني التي انبثقت عن المنتدى  الدولي للسيادة الغذائية  المنعقد في قرية نييليني بمالي سنة 2007: “حق الشعوب والمجتمعات المحلية والبلدان في تحديد سياساتها الخاصة بالزراعة والعمالة الزراعية وصيد الأسماك والغذاء والأراضي بطريقة ملائمة بيئيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا لظروفها. ويشمل الحق في الغذاء وإنتاج الغذاء أن لجميع الناس الحق في النفاذ لغذاء آمن ومغذ ملائم ثقافيا والنفاذ لموارد إنتاج الغذاء والقدرة على إعالة أنفسهم ومجتمعاتهم. تولي السيادة الغذائية الأولوية لحقوق الناس والمجتمعات المحلية في إنتاج الغذاء واستهلاكه، سابقا للاعتبارات التجارية والأسواق العالمية”.

وتفصّل الحركة مبادئ السيادة الغذائية في سبع نقاط أساسية:

  1. التشديد على كون الغذاء حقا أساسيا من حقوق الإنسان والحرص على إدراجه في الدساتير.
  2. إجراء الإصلاح الزراعي الذي يمكّن الفلّاحة بلا أرض وخاصة النساء منهم من الأراضي كي يفلحوها.
  3. حماية الموارد الطبيعية واستغلالها بشكل مستدام مع الحفاظ على التنوع البيولوجي خارج سياسات الملكية الفكرية.
  4. إعادة تنظيم تجارة المواد الغذائية باعتبار الغذاء أولا وقبل كل شيء مصدرا للتغذية وثانيا كسلعة تجارية مع حرص السياسات الفلاحية الوطنية على إعطاء الأولوية لتوجيه الإنتاج نحو الاستهلاك المحلي والاكتفاء الذاتي الغذائي. كما يجب ألا تزاحم الواردات الغذائية المنتجات المحلية وألا تؤثر في الأسعار.
  5. القضاء على عولمة الجوع التي أنتجتها الشركات متعددة الجنسيات ورأس المال المضارب عبر السياسات الاقتصادية المفروضة من قبل منظمات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
  6. تحقيق السلم الاجتماعي عبر تحرير البشر من العنف والتمييز والتهميش من خلال استخدام الغذاء كسلاح.
  7. تحقيق الديمقراطية الجذرية التي تسمح لصغار الفلّاحة بالمشاركة في صياغة السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية.

لئن تخصصت حركة طريق الفلّاحين في مقاربة حقوق الإنسان وأحسنت اقتحام دوائر الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية، فإن السيادة الغذائية مسار دون نهاية يسعى إلى فتح طريق للفلّاحة من أجل التحكم الاجتماعي وأخذ القرار حول المسائل المتعلقة بالغذاء (عايب وبوش، 2019).

إن الرأسمالية عاجزة على حل مسألة الغذاء في العالم إذ تحكمها قوانين قيمة تولي التبادلات المالية والموازنات التجارية أولوية على حساب القيمة الاستعمالية للغذاء ألا وهي التغذية من أجل رخاء البشرية وإعادة إنتاج نفسها وتواصل نوعها. إذن فإن الطريق الاشتراكية هي السبيل من أجل تحقيق سيادة المنتجين الفعليين للغذاء على الموارد الطبيعية وسيادة المستهلكين على غذائهم وسيادة الدول على سياساتها الاقتصادية وخاصة الفلاحية منها وسيادة المجتمع العالمي على علاقاته الثنائية. يستوجب تحقيق هذا المسار صناعة أجندة سياسية من أجل مشروع سيادة وطنية يرمي إلى إنجاز تنمية ممركزة على الذات ويرتكز على فك الارتباط من الاقتصاد العالمي والتضامن بين دول سيادية عبر مبادلات نِدّية (أمين، 2017).

إن الانتقال بمشروع السيادة الغذائية من بوتقة حقوق الإنسان إلى ميدان الحراك الاجتماعي يقتضي تكوين هيمنة ثقافية مضادة تحملها “حركة حركات” حسب تعبير ماكس آيل تجمع في صلبها مناضلين ومناضلات يلتقون على مبدأ معاداة الرأسمالية وتشبيك الصراعات الفلّاحية والبيئية والمناخية والنسوية المضادة للإمبريالية بغاية التحرر الوطني والإنساني.

“قمحي لا ينقسم”، ملف من إعداد: محمد سليم بن يوسف، هيثم ص. ڤاسمي، وليد بسباس.
مراجعة: إيمان اللواتي
.


المراجع

Habib Ayeb and Ray Bush, Food Insecurity and Revolution in the Middle East and North Africa, Anthem Press, 2019.

Samir Amin, La souveraineté au service des peuples suivi de L’agriculture paysanne, la voie de l’avenir!, CETIM, 2017.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !