رأيْ | انسحاب محمّد عبّو… أو انهزام خطاب “محاربة الفساد” من داخل منظومة فاسدة



لم أشاهد – لضيق الوقت – الندوة الصحفية التي استعرض خلالها محمّد عبّو حصيلة مشاركته في الحكومة، وشرح فيها أسباب فشلها في “محاربة الفساد”، قبل أن يُعلن استقالته واعتزاله العمل السياسي. لكنّي قرأت ملخّصًا لها وتابعت ما كتبه بعض الأصدقاء المتحسّرين حولها.

بداية، وحدهم الحمقى أو ضيّقي الأفق من يستطيعون الابتهاج أو الشماتة في مثل هذه المواقف. فرغم كلّ الاختلافات الممكنة والفعليّة مع الرجل، يجب التنويه بنزاهته وانسجامه مع نفسه ومبادئه المُعلَنة عمومًا. فالأمر يتعلّق بإنسان ميسور الحال اختار منذ شبابه الانخراط في النضال السياسي لأهداف نبيلة تتعلّق بتصوّر معيّن لـ”إصلاح أوضاع البلاد”، ودفع في سبيل ذلك ثمنًا غاليًا في عهد الديكتاتورية، وقتما كان العديد ممّن يشتمونه اليوم إمّا يتمعّشون من التزلّف للسلطة أو في أفضل الأحوال يبتلعون ألسنتهم جُبنًا. ومن هذه الزاوية يجدر ابداء الاحترام للرجل وللعديدين ممّن كانوا معه في حزبه أو حتى في الحكومة المنصرفة.

إلّا أنّ الإقرار بما سبق لا ينفي ضرورة استخلاص الاستنتاجات الضروريّة.


تفكيك وهم “محاربة الفساد” من داخل منظومة فاسدة

إنّ استقالة عبّو وإعلانه الهزيمة أمام “منظومة الفساد”، تؤكّدان إلى حدّ كبير ما سبق وعبّرتُ عنه مرارًا – إلى جانب عدد من الرفاق في اليسار الجذري- من وجهة نظر. وهي عبارة عن استنتاج لا يدلّ بصراحة على درجة عالية من الذكاء أو القدرة على الاستشراف. ومفاده أنّه لا يمكنك أن تبني مشروعًا سياسيا يبغي التغيير الجذري لواقع متعفّن بخطاب “مكافحة الفساد” أو “إنفاذ القانون”. ولا يعود سبب هذه الاستحالة إلى خلل في عزيمة عبّو ومن معه أو لعدم نزاهتهم، بل مردّه أساسًا الخلل العميق في تركيبتهم الإيديولوجية (رغم أنّهم لا يملّون من إعلان براءتهم من الإيديولوجيا، فيما هم غارقون فيها بعلم أو بدونه). ولا شكّ في أنّ هذا الخلل مرتبط بالخلفية الاجتماعية والوعي الطبقي لأصحابه. فالتيّار حزب يمثّل شريحة من البرجوازية الصغيرة ذات وعي “وطني واجتماعي ديمقراطي” زائف؛ وهو زائف تحديدًا بسبب اعتناقها الساذج للإيديولوجيا الـ(نيو)ليبرالية في بلد شبه مُستعمَر.

وتتسّم هذه الرؤية الإيديولوجية الخاطئة لحزب التيّار وقيادته، والتي تتكثّف في شعارهم الأثير “مكافحة الفساد”، بأمريْن:

1- رؤية ليبرالية ساذجة خاضعة للشروط الإمبريالية

من جهة أولى، هي رؤية ليبرالية منضبطة تمامًا لمعايير الإمبريالية ومؤسساتها المالية الدولية. وبالتالي فإنّها قاصرة عن رؤية الأسباب البنيوية للفساد وهي أساسا في الانخراط التبَعي في منظومة رأسمالية معولمة تخصّص لبلد كتونس موقعا طرفيًا، بل وهامشيًا (لا يعني ذلك أنّه غير مهمٍ لها)، يكون فيه مجرّد سوق لصرف مراكز هذه المنظومة لفائض انتاجها في كلّ المجالات (من الصناعة والتكنولوجيا الحديثة، للخدمات وقريبا الفلاحة) وكذلك سوق لما يتوفّر فيها من مواد أوّلية (من الفسفاط والملح، وما تبقّى من نفط وغاز وصولا إلى الغنيمة الأكبر مستقبلا: الطاقة الشمسية…). هذه العلاقة التبعيّة مع مراكز المنظومة هي “الفساد الأكبر” المولّد لـ”الفساد الأصغر” (الرشوة، استغلال النفوذ، تضارب المصالح، عدم تطبيق الأحكام القضائية، هدر المال العامّ والخ) الذي لا يرى عبّو ومن معه أبعد من مداه ولا يتحدّث عن سواه.

 فتونس بلد صغير لا تتبّع دولته سياسة تهدف أساسا إلى ضمان الحدّ الأدنى من السيادة والاعتماد على الذات وحماية الطبقات الأضعف (وهذه ليست سياسة اشتراكية صرف بالمناسبة، بل يكفي أن تكون ليبراليًا ذي توجّه وطني للتفكير فيها). أي عبر سياسة حمائية تشجّع ما أمكن من صناعة موجّهة للاستهلاك الداخلي بالأساس، وتشجيع صغار الفلاحين على البقاء بأرضهم وأن تكون السيادة الغذائية هي محور القطاع الزراعي، وإبقاء الدولة سيطرتها على الثروات الطبيعية والقطاع البنكي وعلى قطاع التوريد وتخصيصه للأساسيات لا الكماليات، مع حماية المؤسسات العمومية في القطاعات الحيوية بعد إصلاحها وتخفيف كاهلها ما أمكن. أي باختصار أن تخطّط الدولة لكلّ جوانب الاقتصاد (لا يعني ذلك الغاء المبادرة الفردية الحرّة) بما يسمح بأن تكون أولوية الإنتاج هي تلبية الحاجيات الأساسية الداخلية. في دولة دون سياسة مماثلة لا يمكنك أن تتوقّع غير ازدياد البطالة والفقر والجريمة والتفاوت الطبقي والتطرّف الديني والخ. ومن ثمّة سيحاول كلّ فرد أو مجموعة إيجاد سبل لخلاصهم، كُلٌ حسب قدراته وامكانياته المتاحة. والفساد الإداري – الذي حاول عبّو محاربته – هو بمعنى ما احدى استراتيجيات “ضمان البقاء” التي سيلجأ إليها من وهبته الظروف موقعًا في إدارات الدولة أو مؤسساتها العمومية (طبعا هناك من لن يكتف بضمان البقاء بل سيسعى للإثراء والتحوّل إلى مسدي خدمات).

 وأمّا الفساد الاقتصادي والسياسي (أي تجاوزات رجال الأعمال والأحزاب السياسية ووسائل الاعلام)، والذي حاول كذلك محاربته، فهو مسألة أخرى يجب فهم أُسسها البنيويّة قبل التفكير في محاربتها.

ومن نافلة القول أنّ اتبّاع سياسة “سيادية حمائية تخطيطية” لن يقضي تماما على الفساد الإداري (ولا حتى في أفضل دولة اشتراكية ثورية)، لكن سيكون مدخلاً ضروريا للتقليل من حدّته ومحاصرة أصحابه. وبصراحة، أرى أنّ مكان شخص كمحمد عبّو، كوزير لمقاومة هذا الفساد بالذات، سيكون جدّ مناسب في حكومة تتبنّى رؤية استراتيجية بالمعنى المذكور أعلاه (خاصّة فيما يخصّ مقاومة هدر المال العامّ ومحاربة استغلال النفوذ والبيروقراطية والخ).

 أمّا بالنسبة للفساد الاقتصادي، والسياسي المرتبط به، فلا يمكن أن تحاربه أصلاً، لكونه ضمن “البصمة الوراثية” للدولة التي تعلن نيّتك اصلاحها وجعلها “قويّة وعادلة”. فالسياسات الاقتصادية والخارجية لهذه الدولة هي الفساد الأكبر، الذي ينتج الفساد الأصغر الذي تسعى لمحاربته. وبالتالي، لا يمكنك أن تزعم محاربة الفساد، وأنت في حكومة ذات خلفية ليبرالية لا تمانع في أن تلعب دور جهاز رعاية مصالح وكلاء وسماسرة (الكمبرادور) لدى البرجوازيات الامبريالية (كالتي كان على رأسها الفخفاخ وكلّ من أتى قبله منذ 14 جانفي وما قبله صعودًا الى الهادي نويرة). وستكون بالضرورة إمّا منفّذًا ومسهّلًا لهذه السياسات، أو في أفضل الأحوال كما نرى اليوم، محاربًا فاشلًا لطواحين الهواء، والنتيجة واحدة في كلتا الحالتين.

فرجال/نساء الأعمال الفاسدين كالمبروك والقروي وغيرهم ممّن تحميهم النهضة ومن والاها في الائتلاف الطبقي الحاكم، هم التعبيرة الأبرز لهذه الدولة التابعة لمراكز المنظومة ونتيجتها الطبيعية. وما الخطاب الجديد لحزب عبّو عن “محاربة الريْع” كرديف لمحاربة الفساد، سوى محاولة بائسة من فئات أخرى من نفس الطبقة البرجوازية الكمبرادورية لاقتسام الكعكة مع من احتكروها حتى اليوم (أساسا بسبب استفادتهم من قربهم من الممسكين بالسلطة خلال العقود الماضية). ووراء هذا الخطاب تقف كذلك نفس المؤسسات المالية التابعة للمراكز الامبريالية، التي لا تمانع في أن يستفيد سمسارة جُدد من فتات الكعكة طالما ستستحوذ هي على النصيب الأكبر منها عبر ما ستتيحه لها قوانين مثل “تحسين مناخ الاستثمار” و”اتفاقية الأليكا” وتغيير قانون مليكة الأراضي الفلاحية للأجانب (التي يدافع عنها الفخفاخ) وغيرها من آليات للابتلاع التامّ لاقتصاد البلاد وثرواتها (ومن ثمّة كما نرى التحكّم في قرارها السياسي). ولهذا نرى أصحاب هذا الخطاب يوجّهون سهامهم حصرًا لـ”احتكار الدولة” لبعض القطاعات، أو لهيمنة بعض العائلات البرجوازية على قطاعات أخرى. لكنّهم لا يهتمّون بتاتًا لحقيقة احتكار البرجوازية بفئاتها المختلفة، وهي أقلّية في المجتمع، للثروة ووسائل انتاجها على حساب أغلبية الشعب ومقابل التفريط في سيادة البلاد وخيراتها ومستقبل شعبها.

“لا يمكنك اقتلاع الصخر بمعول من خشب

من جهة ثانية، تتسّم رؤية عبّو وحزب التيّار الديمقراطي بأنّها إصلاحية مُغرِقة في القانونية. وهذه إحدى أهمّ مشاكل الفكر السياسي لليبراليين الساذجين. فهم يعتقدون أنّ باستطاعتهم محاربة المنظومة واسقاطها بأدواتها. فالقانون الذي تحسّر عبّو على عدم القدرة على “إنفاذه” هو تعبير عن ميزان القوى الطبقي والسياسي في مرحلة تاريخية ما. وبما أنّه يحارب الفئات التي كانت الأكثر قربًا للدولة ومؤسساتها على مدى العقود الماضية، فهو بلا شكّ سيكون في مواجهة ترسانة قانونية ومؤسسة قضائية نشأت في أحضانها. كما تدعّمت هذه الصلات الوثيقة في السنوات الأخيرة بعد أن أوكلت الشريحة الأقوى بهذه الطبقة الكمبرادورية المهيمنة حماية مصالحها لحركة النهضة. وعندما نعلم أنّ الأخيرة سيطرت على السلطتين القضائية والتشريعيّة خلال العقد الأخير، نفهم لماذا تستبسل في الدفاع عنها، فهي بحاجة لابتزازها مقابل ما تقدّمه لها من حماية. كما لا يجب أن نستبعد أن نراها يومًا تُضيّق عليها تحت شعار “محاربة الفساد”، اذا ما فَرض عليها أسيادها الامبرياليون أو الاقليميون ذلك من أجل مصالحهم.

وبسبب ما سبق ذكره، فإنّ المعركة غير متكافئة بالضرورة، ولا يمكن أن تغيّر من نتيجتها الضربات التكتيكية “تحت سقف القانون”، التي حاول أن يوجهّها عبّو لخصومه، قبل إعلانه انهزامه. ففي مواجهة العصابات البرجوازية المسيطرة على أغلب مفاصل الدولة والإدارة والاقتصاد والإعلام، والمسنودة خارجيا، لا يصلح النهج الإصلاحي أو القانوني.

ختامًا، بغضّ النظر عن مصير محمّد عبّو وحزبه (الذي أعتقد أنّ مازال له دور إيجابي يمكن أن يلعبه ان استفاق من تيهه الإيديولوجي)، يُثبت ما جرى مجدّدًا أنّه لا يمكن هزيمة المنظومة من داخلها. بل أنّ الخيار الوحيد هو الثورة عليها من أجل اسقاطها وبناء الجديد على أنقاضها. ولهذا السبب بالتحديد يجب أن يدرك من اعتراهم الإحباط من مشهد استقالة عبّو واعتزاله العمل السياسي أنّ مشكلتهم تكمن في عدم إدراكهم لطبيعة المنظومة التي يحاربونها. ومدخل هذا الإدراك هو الفهم النقدي لأساسها الاقتصادي اللاوطني والتابع لمراكز المنظومة الرأسمالية المعولمة. وهذا الأُسّ العميق لا يُقتَلَع بالانتخابات أو بوهم الإصلاح، بل بالنضال المرير من أجل ثورة وطنية ديمقراطية ذات أفق اشتراكي وحدوي من أجل تحرّر بلادنا وخلاص شعبها. وعندها سيدركون بالتأكيد أنّ “الثوري لا يستقيل أبدًا”، كما أعلن من قبل الثائر الخالد أرنستو جيفارا.

حول نفس الموضوع: اقرأ: رأيْ | مكافحة الفساد: الخطاب الإيديولوجي للبرجوازية الصغيرة والهيمنة الإستعمارية


أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !