رأي | طوفان الأقصى: دروس لم تنته بعد…

بقلم اياد بن مبروك
ماركسي ثوري

مع الساعات الأولى للطوفان صباح السابع من أكتوبر لم تكن صفارات الإنذار الصهيونية وحدها من دوّت في قلب “تل أبيب”، بل إنّ صوت الانفجارات انبعث من قلوبنا،  نحن الآلاف والملايين من الجماهير العربية.
كانت تلك اللحظات العاطفية والوجدانية تكثيفا لقرون من التغييب والتهميش والاضطِهاد. وللحظة واحدة _حين انطلق 5000 صاروخ من غزة _ تأكّدت الوحدة، تلك الوحدة الممكنة التي غُيّبت طيلة سنوات من قبل القوى المهيمنة وبيادقها الرجعية في منطقتنا، لنتناسى في نقطة مفصلية من تاريخنا، حدود سايكس-بيكو واتفاقات الاستعمار المفروضة علينا، ونسترد حقنا في تقرير مصيرنا، ونعلن فلسطين مرة أخرى مركزا لصراعنا مع الامبريالية وحليفها الصهيوني.

من ردّ الفعل إلى الفعل

لم تكن لحظة 7 أكتوبر لحظة انتفاضية فحسب، ضد العدوان الهمجي المستمر منذ 75 عاما وأكثر، ولم تكن ردًا على قصف أو اجتياح أو حصار – رغم وجود كل ذلك –  لكنها كانت بالأساس ضربة استباقية وإعلانا عن لحظة الحرب، وإمكانية للتحكم فيها وفي نسقها، رغم كل الخذلان الواضح واختلال موازين القوى العسكرية والميدانية.
 صار العدو في موقع الرد. وكان عليه منذ ذلك الحين اللحاق بالحدث، بل وكان عاجزا عن الرد “المناسب” أو “المتناسب” مع حجم الضرر الحاصل في صفوفه، وانعكس ذلك خلال مجريات المعركة على قرارات قيادته، واتضح ارتباكها شيئا فشيئا، مع الإحراج الحاصل خارجيا (من حلفائها الامبرياليين وأعدائها الجنوبيين)  وداخليا (من الأصوات التي تتربص بحكومة ناتينياهو أساسا).
ولتعلن المقاومة صراحة تطوّرها التنظيمي (من خلال عمل أجهزتها على مرّ السنوات الفارطة) وقدرتها المتنامية على الخداع الاستراتيجي (الذي تكثف خاصة مع صعود السنوار في قيادة حماس بغزة) و استعدادها المالي والعسكري غير المسبوق لخوض جولة الطوفان (مقارنة بكل المعارك الفارطة مع العدو).

طوفان حقيقي: ليست مجرد ضربة

إن أكثر ما يجعل هذه الجولة مصيرية في سيرورة الحرب طويلة الأمد مع العدو الصهيوني هو الطابع الاستراتيجي الذي اتخذته. فحين توقع الكثيرون انتهاء الحرب – مهما كانت نتيجتها – خلال شهرين أو أقل، استطاعت المقاومة أن تطيلها إلى أربعة أشهر (وربما أكثر). وحين تكون الكفة غير متوازنة تكون إطالة الحرب انتصارا للـ”أضعف” عسكريا وهزيمة للجيش المدجَّج بكل أنواع العتاد والسلاح الأمريكي بالتأكيد.

إضافة إلى ذلك، مثَّل الطوفان تهديدا حقيقيا لوجود الكيان المحتل ولاستمراره، لأول مرّة منذ بداية الصراع.
 وأصبح الحديث عن وجود سلام “دائم” وعن حل للدولتين أمرا هلاميا من قبل وجهة النظر الصهيونية نفسها. وصار الجميع يعلم كون الأرض لا تتسع لغير أهلها.
 هذا “الإرهاب النفسي” الذي تسلَّط سيفا على رقاب “شعب المستوطنين” سيكون له الأثر الواضح مستقبلا (وربما يعكس رقم الفارّين من الأراضي المحتلة خلال هذه الحرب أزمة استحالة الأمان للعدو).
بل الأكثر من ذلك، فقد شاهدنا نزوحا عكسيا من مستوطنات ما يسمى بغلاف غزة ومن الجبهة الشمالية (الجبهة اللبنانية)  وانحسارا ديموغرافيا في الوسط.
ولن تظهر مخلفات الحرب على غزة وحدها (بعد الدمار الهائل الذي شهدته)  بل ستظهر أيضا على كيان الاحتلال (بعد إحصاء الخسائر البشرية واللوجستية والاقتصادية ).

الثورة ليست فكرة رومانسية

ونحن نهلل بانتصاراتنا في هذه الحرب، لم نكن نتوقع خلاف جبن الصهاينة الذي أظهروه من خلال التركيز على قصف المدنيين والعزل داخل قطاع محاصر يبلغ متساكنوه قرابة المليونين وثلاثمائة ألف فلسطيني، ليرتكبوا مجازر استشهد فيها قرابة الثلاثين ألف وجُرح فيها أضعاف هذا العدد، مع عجزه المستمر عن حسم الأمور عسكريا. وهو ما يُجبر ناتينياهو على سدّ أذنيه ومواصلة حرب الإبادة كونه يتموقع في نقطة اللاعودة وكون الهزيمة قد وقعت بالفعل.
لم تكن الحرب -هذه الحرب بالذات- تكتسي يوما حدودا “أخلاقية”، ولم تخضع في أي لحظة من لحظاتها لقيمة ما أو لقانون دولي وإنساني ما (وقد لا تتسع المجلدات للتذكير بمجازر الاحتلال داخل فلسطين وحتى خارجها). لذلك يقف الخطاب الإنسانوي والقانوني الصرف عاجزا عن حل الصراع (والذي يوصفه بالمسألة)، بل الأكثر من ذلك فهو يقف مع الجانب المظلوم ظاهرا ويبرر للجانب الظالم باطنا ويؤبد استمراره.
ليجعلنا في كل مرة أمام محك تبرير المظلومية لشعوب المركز المهيمن، وكأننا في مناظرة حول مسألة تقنية نستعين فيها بمنظومة حجاجية بسيطة نؤكد من خلالها وجهة نظرنا، وكأنّ سيول الدماء المتدفقة وأكوام الأشلاء المتناثرة -في عهد الصورة- تعجز عن تأكيد ذلك.

حاضنة شعبية واسعة وتوسيع للجبهة:

أفصح الطوفان أيضا، عن أسلحة أخرى قد لا يتمكن أصحاب التطور العسكري والتكنولوجي من امتلاكها . فلولا الحاضنة الشعبية الملتفة حول المقاومة الفلسطينية التي استطاعت قبل الحرب وأثناءها التعبئة الشعبية لما وصلنا إلى هذا التاريخ والاشتباكات مازالت متواصلة في أكثر من نقطة داخل قطاع غزة. حاضنة شعبية صنعت لحمتها وارتباطها بجدوى السلاح أساسا من الحصار المفروض طيلة 17 عاما، فكان ذلك محفزا ودافعا للالتحام وللانفجار. وكان سم العدو (الحصار) بذرة لبداية فناءه.
ولم تكن الحاضنة الشعبية الغزاوية وحدها لتكفي، لولا وجود جبهات أخرى (لبنانية ويمنية بالأساس) استطاعت بدورها الانخراط في المعارك والتخفيف عن وطئة العدوان. وإن وجد حزب الله جزء من مشروعيته في تاريخ المواجهات مع العدو (آخرها حرب تموز) فإن التدخل اليمني حشد معه أيضا الكثير من الأنصار شعبيا.
درسيْن رئيسيين إذا: لا كفاح مسلح دون حاضنة شعبية، ولا حربا ممكنة دون أصدقاء وحلفاء.

مركزية القضية في نضالنا السياسي: لم يعد مجرد شعار

ونون الجمع (“نضالنا السياسي”) عائدة حصرا على من اصطف دفاعا عن مصالح جماهيره طيلة عقود وسنوات قولا وفعلا (وإن أخطأ الفعل أحيانا). إذ أننا لا نعتبر شعارات من قبيل “كلنا مع فلسطين” أكثر من مقولات تضع الكل في كيس واحد كُتِب عليه “كلنا وطنيون”. وهي مقولات للتعويم وفك لشيفرات المصداقية، وتمييع لخطوط الفرز والتمايز (وذلك محور آخر للتفصيل وللدقيق وللتوضيح).
نحن، من احتلت فلسطين عندنا مكانة رئيسية للنقاش وللصراع ومربعا للنضال وللتقاطع منذ ستينات القرن الماضي في تونس (وحتى قبل ذلك)، فُرِض علينا من جديد _ بعد انتصارات القضية وانتكاساتها_ النظر في مركزيتها.
فمنذ السابع من اكتوبر، صارت تتلاشى خطوط الفصل بين الطبقي والوطني أكثر فأكثر، لتنصهر سويا في قضية واحدة وفق بوصلة واحدة.
صحنا لأعوام ساخطين حول لوبيات الاقتصاد المتنفذة في بلادنا وهو حال بقية البلدان العربية وحول عمالتها للخارج، فاتضح الآن، وأكثر من أي وقت مضى ارتباطها بمصالح الصهيونية أيضا.
وقفنا لمرات عدة في وجه مؤسسات الإتحاد الأوربي وحرّضنا عليها، لتدخلها في كل ماهو داخلي سيادي، واليوم نجد كلها يدعم حرب الإبادة على غزة.

” جرموا التطبيع إن كنتم صادقين”، ذلك واحد من الشعارات التي رفعناها طيلة سنوات، فاصطذمنا مرة أخرى بذراع إعلامي يتململ ويحمي مصالح المصدرين في اتجاه الكيان، حين “جدّ الجد” وصار الحديث عن تجريم التطبيع قانونا أمرا ممكنا.
تساءلنا وساءلنا دور المؤسسات الثقافية الأجنبية المتظللة ب”كونية حقوق الإنسان”، فإذ بها تتجاهلنا وتعلن الإنسان رجلا أبيضا لا غير وتنفي عن أصحاب الحق حقهم في الحياة.
إن كل هذا وذاك، صار معلوما للكل.
لم يعد الحديث عن فلسطين مجرد “مزايدة” و”شَعبوية” و”قومجية” و”ثورجية” كما اتهمونا دائما، بل صار فصلها عن واقع اظطهادنا، سهما واضحا في صدورنا، وضربا لا لبس فيه لإمكان تحررنا. لتسقط بذلك كل مقولة موغلة في “القُطرية” في مياه البحر المالحة، وليُصبح التفكير في مشروع تحرري وحدوي ضرورة لا خيارا.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !