رأيْ | ترويض نضال الشباب في تونس والجنوب العالمي

ملاك الأكحل باحثة وصحفية مستقلة. من مؤسِّسات المجلة الأدبية الرقمية أسامينا.

المقال الأصلي باللغة الإنجليزية.

ترجمة حمزة إبراهيم.


قدّمتُ خلال مداخلتي، بورشة إقتصاد سياسي، معرفة، تضامن، تحرّر: من آسيا إلى إفريقيا في تونس العاصمة، إثنوغرافيا حول ورشة “بناء الكفاءة” النيوليبيرالية، مُركّزةً على الطريقة التي يتم بها تعميق اندماج “مجتمع مدني” جنوبي ذي مفهوم ضيّق داخل دوائر تمويل يهيمن عليها الشمال العالمي وأشكال إنتاج معرفة مُصَمَّمة لترويض نضال الشباب. عادة ما يكون بناء الكفاءة مقرونا بـ”حملات التوعية ” – خطابان يستندان إلى سمات استشراقية بالنقص والإختلال للتأكيد على كون تونس والتونسيين “متأخرون” أو “بصدد الإلتحاق”، وبذلك كونهم بحاجة لوصاية ومعرفة الغرب (مجتمعه المدني في حالتنا) للوصول إلى حالة وهمية من “الإكتمال”. هذه الورشات “المجانية” تساهم في تعزيز احتكار الغرب لإنتاج المعرفة، وذلك بجلبها مجموعة من “أفضل الممارسات” لتُطَبَّق في بلدان الجنوب العالمي. في نطاق هذه التدوينة سأتحدث فقط عن بناء الكفاءة.

بناء الكفاءة يفترِض أنّ الفاعلين المحليين يعانون من نقص في المهارات وأيضا من نقص في الكفاءة في علاقة بالتنظّم في المجتمع المدني. إجابةً على هذا الخلل تقترح منظمات المجتمع المدني معالجة هذا النقص بتنظيم ورشات بناء كفاءة يتم فيها تدريب الفاعلين المحليين. عادة ما تقام هذه الورشات في نزل، وتكون خاضعة لعملية فرز أولي: يتم أخذ بيانات سيرة ذاتية ورسائل ترشح بعين الإعتبار من قبل من يُعْتَقَدُ أنهم أكثر دراية بتسيير المجتمع المدني.

يرتكز تحليلي على ورشة بناء كفاءة شاركتُ فيها كمتربّصة بين جويلية وسبتمبر 2017 لتعلُم كتابة مُذَكّرَة سياسات. الورشة المُسمَّاة “مخبر السياسات (We Gov) تمكين منظمات المجتمع المدني بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا في صنع السياسات”[1] نظمتها الجمعية التونسية “مؤسسة أثر للبحوث والتنمية” تحت تسيير المنظمة غير الحكومية الإيطالية المدعوّة “مجموعة المتطوعين المدنيين”[2]. موّل الورشة الإتحاد الأوروبي.

تقريبًا كلّ مُيَسِّري الورشة كانوا تونسيين يعملون بمنظمات دولية أو كمستشارين لمنظمات غير حكومية تونسية. أغلب المشاركين كانوا من الطلبة والعملة الشُبّان ولا تتجاوز أعمارهم الثلاثين. كانوا معتادين على مثل هذه الورشات وحضروا العديد منها. بعضهم سبق لهم أن التقوا في ورشات مماثلة في تونس. المشاركة في هذه الورشات – سواء في تونس أو في الخارج – تُعتَبر إضافة يزيّن بها الشخص سيرته الذاتية، كما تتيح له الفرصة للسفر واللقاء بـ”قياديين” من جميع أنحاء العالم. عديد المشاركين راكموا “الفرص” – أي حضروا ورشات متعدّدة حول محاور مثل “بعث المشاريع” أو “الحوكمة”- ما أعطاهم الفرصة للسفر حول العالم، إلى أوروبا وأيضا أمريكا الشمالية أو آسيا. الشباب المشاركون كانوا في مجملهم من خلفيات طبقة عاملة أو طبقة وسطى دُنيا، ويفتقرون بذلك للنفاذ لرأس المال الإقتصادي والإجتماعي. أغلبهم متخرجون من الجامعات العمومية التونسية، خاصة في اللغة والحضارة الإنجليزية. الشخص الوحيد المتخرج بالخارج كان صاحب شهادة ماجستير سنة واحدة من الجامعة الأوروبية، حيث تحصل على منحة دراسية. بالنظر إلى حالتهم الإجتماعية التي عادة ما تكون هشّة يبدو من الواضح لِما يشارك هؤلاء الأفراد في حدث كهذا. هنالك جاذبية الكسب الإجتماعي بالإندماج داخل عالم التنمية و”المجتمع المدني” الرسمي. هذا العالم يعطيهم إمكانية ارتقاء اجتماعي هامّة وأيضا فرصة ليحظوا بالإعتراف.

خطاب بناء الكفاءة يدّعي فتح الطريق نحو تنويع “النخب”. لكن ومثلما يبيّن ذلك إيف دوزالي[3] لا يمكن فصل رهانات التدويل عن إعادة-إنتاج التراتبية الإجتماعية والطبقية في الفضاءات الوطنية. تشتغل هاته الورشات لدمج (أو إعادة-دمج) النخب السياسية والإقتصادية داخل الخطابات والممارسات الغربية المتعلقة بـ”الحوكمة”، والتي تنحتُ بدورها المشهد السياسي التونسي. وهي تراهن على أن تحكم هذه النخب الجديدة الطموحة بالطريقة التي تعلّمتها.

تعرَّف المشاركون على سلسلة مفاهيم نيوليبيرالية مثل اللامركزية والقيادة وتخطيط أصحاب المصلحة[4] مترابطة في محور شامل – “الحوكمة”. منذ البداية، تمّت التفرقة بين السياسة والسياسات، وهي ثنائيةٌ حصرت المحتوى الإيجابي في المفهوم الثاني وحده. مثلما فسّر ذلك المُيّسر الأساسي للورشة، السياسيون غارقون في الإيديولوجيا وبذلك تنقصهم الموضوعية، أما محلّلُو السياسات فهم يهتمون بالأمور التقنية، عبر ما يسمّيه “إيديولوجيا عقلانية، مبنيّة على الدراية والخبرات، مقاربة ناجعة”.

في هذه الورشة تَعَلَّمْنَا أنّ التصويت والتداول السياسي عاملان غير مهمّان تماما في اختيار السياسات العمومية. فهذه الأخيرة فوق الإعتبارات السياسية، هي تحت حكم العقلانية والتقنية. الديمقراطية التمثيلية هي مجرّد شكليّة، يلعب السياسيون على العواطف والمشاعر للحصول على الأصوات ويتركون الأمور الجدية لأصحاب المصلحة: الدولة والمانحون والمجتمع المدني.

يبدو لي أنه ليس من الصدفة أن يكون الجمهور المستهدَف من قبل هذه الدورات جمهورا شابًا. هذه حصص تدريب سياسية متنكرة في ثوب الإحتراف وتحصيل الكفاءات. تُعلِّم الشباب أنه في سبيل الحصول على شيء من السلطة لا يوجد غير طريق التوصيات والمطلبيّة، لا طريق الصراع طبعًا. هذه أيضا خطوة أولى في عملية تحويل النضال إلى مهنة بما يتماهى غالبا مع إبقاء الأوضاع على ما هي عليه.

طبعا المشاركون ليسوا منخدعين؛ إنتقدوا أحيانا الطابع المستورد لـ”أفضل الممارسات” التي تم تدريسهم إيّاها خلال الورشة. في الحقيقة لم يُقدّم أيٌّ منهم مذكرة سياسات تعبّر عن خيبة أمل من تدريب لم يحقق أهدافه. لكن رغم المراوغات يبدو لي أنّ الواقع التحتي يفيد بأنّ هؤلاء الأفراد راكموا التدريبات، وهي بالأساس تَعَلُّم لُغَةٌ ومنهجيَّةٌ، من غير الضروري الإقتناع بها كشرط لتطبيقها واستعمالها وتدعيم هيمنتها.

دورات التدريب هذه ليست إلا قطرة صغيرة في بحر الحَكَمانية[5] النيوليبيرالية. رغم ذلك فهي تلعب دورا إدماجيا جوهريا في الحفاظ على هذا النظام. بتدريب الشباب المهتم بالشأن العام أكثر فأكثر في ورشات وتدريبات قيادة وسياسات عمومية، تساهم المنظمات التي تقف وراء هذه الأنشطة في تقوية الهيمنة السياسية للنيوليبرالية باستبعاد أشكال أخرى للعمل السياسي وتجريدها من الأهليّة. هي أيضا إستعمارية-جديدة بقدر ما هي تدعم علاقات سلطة غير متكافئة بين الشمال العالمي والجنوب العالمي: واحد في دور المُعلِّم الأزلي والآخر في دور التلميذ الأزلي.

هذه الدينامكية تُصْدِي الهيمنة الإقتصادية التي تمارسها المؤسسات الدولية المشرفة على حفظ النظام النيوليبيرالي (الإتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي، البنك العالمي) التي تشرط قروضها بتطبيق برامج تعديل هيكلي وسياسات تفرض اعتماد المعايير الأوروبية. مثل مهمة التحضير (جلب الحضارة) الإستعمارية، تُعلَن هذه السياسات دائما باسم المصالح العليا للبلاد أو باسم التطور الإقتصادي. وفي ظلّ انكشاف الهيمنة العنيفة المختفية وراء البلاغة طيلة العقود المنقضية، علينا بالحذر من الجاذبية المتواصلة التي تمثّلها هذه “الفرص المجانية” لشباب يتوق إلى الإعتراف.

إنّه لمصيري أن نلفت النظر للأجندة السياسية التي ترتبط بها مشاريع الحوكمة هذه.  وذلك عبر نقد ديكولونيالي (مناهض للإستعمار) مقترن بإذاعة إمكانيات أخرى للفعل، وخاصة للفعل الجماعي. فهذا النقد مصيري للتصدّي للهيمنة الخبيثة لخطاب الحوْكمة ودوره في ترويض النضال الشبابي.


[1] Policy Lab (We Gov) Empowering Middle East and North African Civil Society Organizations’ Participation in Policy Making

[2] (Gruppo di Volontariato Civile GVC)

[3] Ives Dezalay

[4] Stakeholder mapping

[5] Governmentality

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !