رأي | التوجهات الاقتصادية في المنطقة العربية: بين مقاربات برجوازية الدولة العميلة و النظرة الدونية للإنسان العربي

بقلم: إلياس بن عمار
نقابي – عضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة

استرعى انتباهي خبر متعلق بجدول تخفيف الأحمال الكهربائية للمحافظات المصرية .و قد تعجبت منه نظرا  لزمن الخبر ( فيفري 2024) و الذي يعتبر كهربائيا فصل تراجع للاستهلاك مقارنة بالذروة الصيفية التي تميز منطقتنا على عكس مناطق أخرى في العالم. ولما تمعنت في الأسباب زاد تعجبي لأن الغاية أقبح من الفعل : قطع الكهرباء اليومي عن ملايين المصريين بهدف توفير كميات من الغاز الطبيعي للتصدير و إنعاش خزينة الدولة من العملة الصعبة !!!

هذه السياسة المعتمدة من النظام المصري هي تطبيق عملي للمقاربات النيوليبرالية المقترحة من الدوائر الرأسمالية العالمية و على رأسها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي . فتوفير كميات من العملة الصعبة سيكون مآله في النهاية إما دول الشمال بصفة مباشرة عبر توريد تجهيزات أو حتى محروقات لتشغيل المحطات الكهربائية ( دورة عبثية ) أو غير مباشرة عبر تسديد الديون المتعلقة بالدولة المصرية لصالح مؤسسات مالية مرتبطة أساسا بدول الشمال أيضا.

كما تظهر أيضا هذه السياسة سلوك الحكومات العربية تجاه مواطنيها: فهم يوفرون الطاقة للآخر ( الرجل الأبيض أساسا) الذي يحتاج لكهرباء  يمكن للعربي الاستغناء عنها لأنه في نظرهم لا يعيش في القرن الواحد و العشرين و إنما مازال حبيس قرون خلت حيث الكهرباء – هذه المادة الأساسية في عصرنا – يمكن الاستغناء عنها.

إن متخذي القرارات وصناع السياسات في بلداننا العربية  لا يبالون أن يعيش الانسان العربي حياة كريمة يتمتع فيها بالحد الأدنى من الخدمات والضروريات المميزة لعالمنا في هذا العصر وعلى رأسها توفير الكهرباء على مدار ساعات اليوم. فالأولى بالنسبة إليهم تعبيد الطريق للاستثمارات الأجنبية وتوفير حاجيات الانسان الغربي القابع في الضفة الشمالية للمتوسط أو على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي و تلبية رغباته الاستهلاكية حتى لو كانت مفرطة.

ومن أجل ذلك يتم التضحية بكل شيء: غاز، بترول، ماء، طاقات متجددة وحتى غذائنا وثرواتنا الفلاحية مع توفير كل الامكانات التي تتيح للمستثمرين تصدير كل هذا بداية من الحوافز المالية وتجهيز البنى التحتية والإعفاءات الضريبية و في النهاية يتم تصنيفنا عبر مؤسسات  “إيديولوجية ” كمناطق آمنة للاستثمار أو دول نجيبة في سداد ديونها بينما يبقى الانسان  (أثمن رأسمال في الوجود على حد تعبيرماركس) مهانا و محروما…وهنا نتساءل ما هي الغاية من الدولة الوطنية إذا لماذا قمنا بطرد المستعمر ؟؟

لقد كرست ما يسمى بـ”النخبة العربية الحاكمة” أو بمعنى أدق برجوازية الدولة العميلة خاصة منذ سبعينات القرن الماضي سياسة تبعية للغرب وقضت على الآمال التي علقت على الدولة الوطنية وبعض الانجازات التي حققتها عند مرورها بالتجارب شبه الاشتراكية المميزة لعقدي الخمسينات والستينات من القرن المنقضي. وهي تمثل حلقة الوصل  لتمرير سياسات الدول الغربية في منطقتنا و صاحبة الوكالة على مشاريع الاستعمار الجديد في مقابل ما تتلقاه من دعم لتبقى الماسكة بزمام الأمور علاوة على التقرب من دوائر رجال الأعمال و التمتع بالامتيازات الظاهرة والخفية منها.

إن ما يقوم به النظام المصري هو نسخة مما تقوم به أنظمة أخرى في بلداننا العربية: فتونس مثلا تعد لمشروع ربط كهربائي مع إيطاليا هدفه – كما تعلن الحكومة التونسية – تصدير الطاقات المتجددة والاستفادة من سوق الكهرباء الأوروبية لتخفيض كلفة الطاقة الكهربائية بينما يتم التغافل على ان التصدير ستعطى له الأولوية عند حاجة البلاد لتوريد الكهرباء من أوروبا. عندها ستضطر الحكومة لقطع الكهرباء عن مواطنيها لضمان وصول الطاقة للضفة الأخرى.

كما تتجهز جل الأنظمة في منطقتنا لتصدير الهيدروجين الأخضر – رغم الأزمة الطاقية التي تعيشها بعض الدول كالمغرب و مصر و تونس – مع اعتماد نفس سياسة تغليب مصلحة الأوربي على العربي. هذا الهيدروجين الذي سيضمن لأوربا تعويضا عن مصادر الطاقة التي توردها من روسيا بالإضافة لموارد مائية إضافية ( تصدير الماء افتراضيا) من بلدان تعيش جفافا متواصلا ومهددة بالعطش خلال العقود القادمة ( نفس الدائرة العبثية).

في مقابل لا نجد ما يمكن أن تكسبه شعوب المنطقة من هذه المشاريع رغم الحديث المطنب حول آفاق التشغيل و امكانات استفادة الشركات المحلية منها لكن كل هذا مجرد كلام أثبتت التجارب تفاهته ولعل اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الموقعة من بعض دول المنطقة العربية أكبر دليل على ذلك: فقد تم استكمال القضاء على النسيج الصناعي لهذه الدول لمصلحة الشركات الأوربية كما تعمقت التبعية ولم تفلح في خلق مواطن الشغل المزعومة و القضاء على البطالة.ولعل المسارات الثورية التي اندلعت بداية من أواخر سنة 2010 أكبر رد عليها وعلى مقولات المنفعة المتبادلة التي تبررها.

وهنا لسائل أن يتساءل : لماذا و في ظل السعي المحموم لتبني مشاريع الشراكة و فتح الأسواق مع أوروبا وتحرير المبادلات التجارية معها يتم التغافل عن تضمين حرية التنقل لبلدان المنطقة العربية إلى أوروبا كما هو معمول به للعديد من الدول الأخرى أم أن هذا يعتبر من المحظورات التي لا يمكن التحدث فيها؟ : فالمواطن العربي يعاني من إجراءات القهر التي تعتمدها بلدان أوروبا للسفر إليها وهي تقوم في نفس الوقت بانتقاء العمالة التي تناسبها وتناسب احتياجاتها علاوة على  أنها تحمل بلداننا العربية مسؤولية حماية شواطئها من الهجرة السرية وغير المنظمة. فالحرية الاقتصادية تقتضي حرية التنقل لضمان شروط التكافؤ والمساواة في المعاملة.

هذه التساؤلات حتما غير مدرجة ضمن أجندا الماسكين بزمام الأمور في منطقتنا عند التفاوض مع الجانب الآخر حول ” المشاريع المشتركة ” لأنها ستثير استياء الحكومات الأوروبية وتكشف نزعتها العنصرية والمتعالية في التعامل مع شعوبنا العربية. لكن الأكيد أن ما  تحاول أوروبا أن تخفيه في هكذا محادثات  كشفه موقفها مما يحدث في غزة حيث يقدم الانسان العربي الفلسطيني قربانا للتقرب للحركة الصهيونية ولمحو عقدة الذنب لديها فيما لا تزال برجوازيتنا العميلة المتمثلة في كبار موظفي الدولة وأصحاب الأعمال أسرى للسردية الاستعمارية التي تجعل من بلداننا مجرد حدائق خلفية للغرب متعللة باختلال موازين القوي لكن في الحقيقة فإن هذه النخبة هي المشكل ومركز العطالة الأساسي المتسبب في حالة الضعف والوهن التي تعيشه بلداننا.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !