رأي | عن أزمة البحث العلمي في تونس

مجموعة العمل من أجل البحث العلمي

تمر الجامعة التونسية بأعمق أزمة منذ تأسيسها. فمنذ حوالي خمس سنوات تصاعدت وتيرة الاحتجاجات والاضرابات في صفوف الأساتذة الجامعيين، وكذلك في صفوف الدكاترة الشبان وطلبة الدكتوراه.

في حقيقة الامر لم تكن الأزمة وليدة الأمس، بل إن جذورها تضرب عميقا حتى فترة التأسيس، و لم تكن سياسات الترويكا ومن بعدها الائتلاف اليميني الحاكم إلا سببا قادحا لهذه الأزمة، حيث غاب الإصلاح المنشود بعد الثورة ووجد الباحثون الشبان والباحثون الجامعيون أنفسهم أمام مشروع ممنهج لتدميرٍ الجامعة العمومية والتفريط فيها.

مشروع يتمعش منه – إلى حين- قطاع طفيلي وفوضوي لا يرتقى حتى أن يكون تعليما جامعيا خاصا، لاعبا دوره القذر في مزيد تأزيم الوضع إلى حين أن تنضج الظروف للخروج علينا بالحل السحري ألا هو في إباحة التعليم العالي والبحث العلمي للرأسمال الأجنبي. وهي المرحلة التي تلوح نذرها الآن.

إن الجامعة تضطلع بمهمة طلائعية وتأسيسية في المجتمع، فهي أحد أهم الفضاءات التي يقوض فيه (معرفيا) القديم والسائد، ليؤسس على أنقاضه مجتمع الغد. وتؤمن الجامعة هذا الدور عبر وظيفتي التعليم العالي و البحث علمي. إن الجامعة التونسية لم تضطلع يوما بهذا الدور، مع حفظ بعض الاستثناءات الفردية لهذا الفريق أو ذاك.

لقد قد انكبت مجموعة من الباحثين الجامعيين و الباحثين الشبان (الذين شاركوا في تحركات طلبة الدكتوراه والدكاترة سنة 2017) على دراسة هذه المسألة من جوانبها التقنية والسياسية، و انتهت هذه المجموعة إلى قناعة أن النضال العفوي لا يؤدي إلا لإحباط الحركة، فلا ممارسة ثورية دون نظرية ثورية. وعليه أعلن مؤخرا عن بعث “مجموعة عمل من أجل البحث العلمي” كفضاء منظم و مرن للنضال السياسي و الميداني و كمجموعة تفكير من أجل انقاذ البحث العلمي في تونس و اقتراح السبل لإعادة تأسيسه على قاعدة خيارات وطنية.

لقد ارتكز عمل “مجموعة العمل من الأجل البحث العلمي” على مساءلة المعطيات التي توفرت لها (رغم صعوبة النفاذ إلى المعلومات المحينة ذات الطابع الاداري والمالي) للوقوف على الأسباب الهيكلية لأزمة البحث العلمي.وسوف نقوم بنشر ما توصلنا إليه تباعاً في سلسلة من المقالات. وفي هذا المقال سنحاول رصد الملامح العامة لأزمة البحث العلمي في تونس من خلال الإجابة عن سؤال: أين نقوم بالبحث العلمي في تونس؟

1– منظومة إشراف أم متاهة ؟

تستحوذ وزارة التعليم العالي و البحث العلمي على قرابة 70 % من المخابر والوحدات العلمية(انظر دليل الهياكل والمشاريع البحثية 2017-2018)، تليها وزارتا الفلاحة و وزارة الصحة، ثم نجد بدرجة أقل وزارات الدفاع والداخلية الشؤون الاجتماعية والشباب والرياضة. وقد تقاسم هذه الوزارة في حكومة الشاهد السيد الوزير سليم خلبوس الذي سوق على أنه تكنوقراط لنجده الآن “تحيوا” للنخاع، والسيد خليل العميري من حركة النهضة كاتبا للدولة للبحث العلمي.

إن ما يطبع منظومة البحث العلمي في تونس (التابعة لوزارة التعليم العالي) هو تعدد وتضخم الهياكل المركزية المشرفة عليها:

·         إدارة عامة للبحث العلمي

·         إدارة عامة لتثمين البحث

·         إدارة عامة لتعاون الدولي

·         وكالة وطنية لتشجيع البحث العلمي

·         لجنة وطنية للتقييم

و إضافة لهذه القائمة يوجد مجلسين استشاريين تحت رئاسة الحكومة (معطلين)، و إدارة بحث علمي بوزارة الصحة، و أخرى بوزارة الفلاحة، و الأكاديمية التونسية للعلوم و الآداب تحت اشراف وزارة الثقافة.

أما السمة الثانية للبحث العلمي فهو تعطل هذه الشبكة الإدارية المفصلة أعلاه وعدم التناسق بين مكوناتها، مما يشي بأن منظومة البحث العلمي تحولت إلى حلبة لاقتسام النفوذ السياسي في الدولة، و لا علاقة لها بالمنظومات الإدارية الناجعة و الشفافة التي يمكن التعويل عليها لتأسيس بحث علمي يكون قاطرة للاقتصاد الوطني و الانعتاق الاجتماعي وتحرير الانسان في وطننا من أغلال الأفكار البالية.

 2- تمويل البحث العلمي:”الماء إلي ماشي للزيتونة السدرة أولى بيه”

إن السمة البارزة في علاقة بالتمويل هي الفقر المدقع الذي تعرفه منظومة البحث (التابعة للتعليم العالي)، حيث خصصت الوزارة في ميزانية 2019 ما يقارب 135.065 مليون دينار للبحث العلمي و هو ما يمثل 8% فقط من الميزانية الجملية للوزارة أي 0.33% فقط من ميزانية الدولة لسنة 2019، و هذا ما يعني أن نسبة الانفاق على البحث العلمي في تونس لا تتجاوز 0.1% من الناتج الداخلي الخام و هي نسبة أقل بعشرات الأضعاف مما يمثله البحث العلمي في الكيان الصهيوني أو كوريا الجنوبية ( أكثر من 4%)، بل إن تونس متخلفة في هذا المجال عن المغرب وأثيوبيا الذي يمثل البحث العلمي في كل منهما ما يقارب 0.6% (إحصائيات صندوق النقد الدولي).

إن اهدار هذه الميزانية الضعيفة في تعهد الشبكة الإدارية “المتاهة” المذكورة أعلاه هو الخاصية الثانية للتمويل العمومي للبحث العلمي, حيث لم يتجاوز نصيب مخابر البحث الجامعية (الفضاء الفعلي الذي يحتضن البحث و النشر العلمي) ال 26 مليون دينار في سنة 2015 لينحط إلى 14 مليون دينار في 2017 (Docteurs tunisiens et employabilité : entre mythes et réalités – Business News – 28/11/2017).

 إن هذا التمويل لا يرتقي حتى لمقدار الميزانية المرصودة للساعات الإضافية في التعليم العالي في نفس الفترة و التي ناهزت 36 مليون دينار في 2016 و 24 مليون دينار في 2017. إن البحث العلمي في تونس يعرف تفقيرا ممنهجا و مخططا له أدى إلى ضعف الموارد البشرية من تقنيين مختصين وباحثين متفرغين مع اهتراء البنية التحتية في مخابر البحث و ضعف تجهيزها بل حتى سوء تصرف فيما وجد من تجهيزات علمية ثقيلة (انظر تقرير مشروع دعم نظام البحث العلمي والابتكار لسنة 2013 للخبيرة إيمانويل حسان), مما يؤدي في آخر المطاف إلى هجرة الكفاءات العلمية بمختلف شرائحها العمرية إلى الخارج.

أما السمة الثالثة للتمويل فهي انعدام الاستثمار الخاص في البحث العلمي في تونس، و نقدر أن ذلك يعود للطبيعة الطفيلية للرأسمال المحلي الذي لا يخاطر بالاستثمار في مجال يتسم بالتعقيدات الإدارية و تنعدم فيه الحوافز المالية العمومية، أما الرأسمال الأجنبي فلا تغريه الوجهة التونسية بما يكفي (رغم توفر الكادر العلمي الكفء) ليخاطر بضخ الاموال فيها خاصة مع وجود أقطاب بحثية دولية جذابة.

إن ضعف التمويل العمومي و الخاص دفع بعديد الباحثين و المخابر إلى بحث عن التمويل الخارجي في إطار مشاريع شراكة مع مخابر في الاتحاد الأوروبي أساسا. إن عدم التكافؤ المادي و التنظيمي بين المنظومتين الوطنية و الأوروبية يؤدي بالضرورة لخلق تبعية الباحث التونسي, في بحثه, لخيارات توجهات المخابر البحثية الأوروبية, خاصة في علاقة بالأبحاث التطبيقية, ليتحول التعاون في أغلب الحالات إلى مناولة علمية مفروضة على الجانب التونسي الطرف الأضعف في الميزان.

خلاصة:

إن البحث العلمي في تونس يعاني من سياسة واعية لتخريبه وافراغه من مضومنه. سياسة حولته إلى فضاء لاقتسام النفوذ السياسي والاداري داخل شبكة معقدة من الهياكل المركزية والجهوية المشرفة والتي تستنزف أغلب التمويل المرصود للبحث العلمي في ميزانية الدولة دون أن يكون لها مردود واقعي. إن هذه السياسية أدت بنا إلى فقدان الامن العلمي و التكنولوجي فأصبحت البلاد غير قادرة على مجاراة التطور العلمي و التكنولوجي في أغلب الميادين. إن الوضعية تتطلب انقاذا و ليس اصلاحا. و الانقاذ يبدأ بهدم المنظومة الحالية و تعويضها بمنظومة اشراف و تسييروتنفيذ ناجعة و تستجيب لمتطلبات الأمن العلمي و التكنولوجي.

و للحديث بقية…

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !