أطفال الجبل الأحمر: العنف كأحد أشكال التعبير

بقلم عمر مرزوق

ثار الجدل قبل فترة حول مقطع فيديو تم تداوله على وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة من أطفال الجبل الأحمر(حيّ شعبي بالعاصمة) وهم بصدد تصوير مقطع غنائي (راب) باستعمال أسلحة بيضاء وآلات حادة. وفيما توجهت سهام النقد وصيحات الاستياء في أغلبها إلى ذوي الأطفال على تقصيرهم في حماية طفولتهم، يحاول موقع انحياز في هذا التقرير تقّصي الأسباب البنيويّة وراء هذه الحادثة.

شهدت إذن وسائل التواصل موجة سخط عارم عند مشاهدة أطفال يحملون سكاكين بصدد الغناء والتلويح فيما بينهم بهذه الأدوات الخطرة. وفُتح الباب الافتراضي على مصراعيه للتأويل على الرغم من خطورة الفضاء العام على الأطفال أنفسهم. بين من يُحمّل المسؤولية للأولياء على إهمالهم لمحيط أبنائهم وما يفعلون خارج المنزل، وبين من يرى في التناقض بين الأجيال منطقه الوحيد في تفسير هذه الظواهر ويكتفي بالتحسّر على أخلاق الأجيال السابقة وورعها الديني الذي اختفى بظهور جيل الألفية الثالثة. وهناك الشق المألوف الذي ينهي كلامه دائمًا بالتحسّر على انجازات بورڨيبة. كما لم تخلُ التعليقات من عبارات الوصم الاجتماعي والتعالي كما جرت عادة بعض التونسيّين في مواجهة الداء بالداء.

مجموعة من أطفال حي الجبل الأحمر وهم بصدد تصوير مقطع غنائي (راب) باستعمال أسلحة بيضاء وآلات حادة

ما حدث فعلا ؟

 أفادنا موسى (شاب من أقارب أحد الأطفال) أنّ الصغار في ذلك الحي مولعين جدا بموسيقى الراب. ممّا دفعهم في أكثر من مرة إلى كتابة وتصوير مقاطع مشابهة دون نشرها. “هذه المرة كان رهان الأطفال أكبر” يقول موسى، واصفًا عملية اتفاقهم مع المصور (شاب في الثامنة عشر، يقطن الجبل الأحمر رفقة والديه ويشّق طريقه حديثا في عالم الراب) الذي توّلى القيام بالتصوير والمونتاج. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المصوِّر تعرض للايقاف في اليوم التالي لانتشار الفيديو، ودامت مدة ايقافه  ثلاثة أيام بحثت معه خلالها السلط الأمنية، بإذن من الادارة الفرعية للوقاية الاجتماعية، الحوافز التي دفعته لتصويرهم، ثمّ وقع إطلاق سراحه بعد التأكد من عدم وجود نية الإستغلال الرقمي للأطفال. كما تدخّل مندوب حماية الطفولة وتعهّدت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السِّن بكفالتهم ومتابعة وضعياتهم. كما تم في 8 ماي الفارط استقبالهم في مقر الوزارة صحبة ذويهم وتمكينهم من اشتراكات سنوية مجانية في الدورات التكوينية التي ينظّمها المركز الوطني للإعلامية المُوّجهة للطفل. وأتاحت لهم الوزيرة أمال بلحاج موسى التسجيل المجاني للراغبين منهم في المعهد الوطني الموسيقى. أمّا على المستوى المحلي، فقد تدخل كذلك رئيس الشبيبة الرياضية للعمران (الفريق المحلي، يلعب في الرابطة الثانية لكرة القدم)، وتكفّل بتوفير مساعدات هامة تراوحت بين الإحاطة النفسية والمادية بهم وذويهم. ولكن هل هذا يكفي ؟

الدولة الراعية قيد الانقراض

من المعلوم أنّ أطفالا لم يتجاوزوا الرابعة عشر سيكون محيطهم الاجتماعي مؤثرا جدا في تكوينهم النفسي والمعرفي والجسماني. وهذا ما يدفع للتساؤل حول مدى تدخل الدولة في تشكيل معالم هذا المحيط باعتبارها مُشرِفًا على هندسته الاجتماعية بالأساس. موقع انحياز اختار هذه المرة القيام بزيارة ميدانية إلى الجبل الأحمر وسؤال متساكني الجهة مباشرة حول هذا الموضوع.

في سؤالنا للأهالي حول ارتياد أبنائهم رياض الأطفال من عدمه، كانت الإجابات متقاربة. فبعيدا عمّن يعتبرون مهمة رعاية الأطفال أمرا حصريًا للنساء وسببا كافيا لبقائهّن في المنزل، تراوحت الإجابات بين سببين يتيمين وراء حرمان أبنائهم من رياض الأطفال.

إذ يشكو مكرم (صاحب مطعم شعبي) من تركّز الرياض في منطقة فرانسفيل وهي المنطقة الفاصلة بين الجبل الأحمر و باب العسل وكان يسكنها المعمر الفرنسي أيّام الاحتلال. وهي مخصصة حاليا حسب قوله للفئات الميسورة. يعتبر مكرم المسافة بعيدة نسبيا سيرا على الأقدام بالنسبة لأغلبية متساكني الجهة، الأمر الذي تؤكده أرقام وزارة الطفولة لسنة 2019. إذ يبلغ عدد الرياض المرّخصة في منطقة العمران، التي تجمع كلً من العمران وفرانس فيل والجبل الأحمر وحيّ الزياتين وحيّ الرمانة ورأس الطابية، 10 فقط؛ خمسة منهم في فرانسفيل.

من جهته، يعتبر علي (دهّان) أن ترّكز رياض الأطفال بتلك الشاكلة فيه الكثير من التمييز، باعتباره مدخلا للتساؤل حول عناصر الأمان والرعاية التي تستقطب بها فرانسفيل معظم الرياض والتي تحول دون تمتع العديد من السكان بخدمات الروضة رغم حاجتهم إليها.


السبب الثاني الذي تواتر كثيرا في إجابات الأهالي كان غلاء الأسعار. إذ يؤكد معظمهم أن جودة الرعاية لا تتوفر سوى بثمن باهظ بعد انعدام توفرها في العمومي. الروضة العمومية التي كانت تحت إشراف البلدية في السابق تقريبا تشهد انقراضًا في جميع أنحاء البلاد. ويقتصر تدخل الدولة حاليا في إطلاق مبادرات تسعى لإدماج أكثر ما يمكن من الفئات الهشة في التغطية قبل المدرسية عبر برنامج ‘روضتنا في حومتنا‘ الذي تقدّر المنحة فيه لكل طفل بـ70 د. وحتى هذا لم يكن كافيا لرفع أرقام المنخرطين من الرياض الخاصّة في هذا البرنامج إذ لا يتجاوز عددها الربع من بين 6000 روضة خاصّة نشطة على امتداد الجمهورية.

أمّا على صعيد النشاط الثقافي بالجهة، أشاد سكّان المنطقة، عكس ما قد يكون متوقّعا،  بالمجهودات التي يبذلها العاملون بدار الثقافة ابن زيدون رغم قلّة الإمكانات المادّية واللوجستية. إذ حافظ هذا الفضاء على حيويته نسبيًا رغم ضعف التمويل الذي تأثر بعديد القرارات الحكومية بعد الثورة، من بينها حل اللجان الثقافية سنة 2012. والذي رغم ما يبدو من شرعية لاتخاذه في تلك المرحلة،  لما شهده من زبونية سياسية وتلاعب بالمال العّام قبل الثورة، إلّا أنّه  أثّر سلبا في سهولة تمويل الأنشطة الثقافية، ناهيك عن حجمها.

ويمكن سحب هذا التقييم تقريبا على جميع المدارس ومؤسسات التربية العمومية التي توكَل إليها مهمة تربية الناشئة وتأطيرها النفسي والمعرفي. إذ تشكو في معظمها من نقص فادح في المعلمين ومن خيارات التقشّف المفروضة من قبل المؤسسات المالية الدولية. فتراجع الخدمات العمومية، الذي يُعتبر الأطفال أهم ضحاياه، هو نتيجة تخلي الدولة عن القطاعات الاجتماعية الإستراتيجية على غرار الصحة والتعليم لفائدة الخوّاص، وحرمان الطبقات الشعبية تدريجيا من رعاية الدولة تحت وطأة الإملاءات وشروط التداين.

العائلة، ذبيحة النظام الاجتماعي

يستغرب العم صالح وهو معلم ابتدائي بالمنطقة، تتلمذت أجيال عدّة في صفّه، حجم التعليقات التي هاجمت عائلات الأطفال. لأنّ الأطفال حسب قوله ليسوا نتاجًا حصريًا للعائلة إلا بالنسبة لمن يحوّلون أبنائهم إلى سجناء في المنزل بما يعنيه ذلك من صعوبة مستقبلية في التواصل مع العالم الخارجي. ويضيف العم صالح انطلاقا من تجربته في التعليم أنّ التربية السليمة لا تتحقق إلا بتوافر عديد الشروط،  مُعتبرًا الوقت أهمّها. ويؤكد أن وقاية الناشئة من الخطر المحدِق بهم يتطلب إيلاء الوقت الكافي للتواصل معهم ومتابعة هواياتهم، وليس هذا الحال بالنسبة لأغلبية الشرائح الاجتماعية النشطة في تونس نظرا لمشاكل التنقل واكتظاظ الطرقات وطول ساعات العمل، ومؤخرا الطوابير لاقتناء المواد الأساسية، التي أصبحت تستغرق الكثير من وقتهم. ويشبِّه محدّثنا حالة الهيجان التي أصابت الجمهور الفايسبوكي وجعلته يطلق أسوأ النعوت في حق الأولياء، بطقوس “الذبيحة”، التي تطال العائلة باعتبارها النظام الاجتماعي الأضعف في المنظومة. ولا تعبّر الإدانة الأخلاقية التي يحترفها روّاد الفايسبوك سوى عن عجزهم على نقد المنظومة بأسرها، حسب قوله.

هل صار الشكل أكثر بلاغة ؟

 الأمر الأكثر خطورة هو إنكار حقيقة أن موضوع الأغنية وكلماتها بعيدا عن الشكل كان إيجابيا، حتى يستحيل بالسمع فقط فرزها عن إحدى محاضرات التنمية البشرية التي يسمعها الجميع من الجميع. إذًا ما الحاجة للسكاكين وماذا كان  الدافع وراء تعمّد استعمالها رغم تناقضها مع ما يغنّونه؟ هذا كان إحدى الأسئلة التي توجهنا بها لأهالي الحي وكانت الإجابات فعلا عميقة المعاني.

إذ يرى حمّة (حلاق بالحي) أن التناقض بين الشكل والموضوع أصيل ومتجّذر تقريبا في كل ما تفعله البشرية اليوم. الأشياء تتحول مقلوبة عند إظهارها، وخاصّة على وسائل التواصل الحديثة، معتبرا أنّ الانتخابات دليل قاطع على ما يقوله. بينما رجّح محمد الطيب، وهو من الطلبة القاطنين بالحيّ، أنّ التأثر الشديد لهؤلاء الأطفال بالأجيال السابقة لهم يجعل حملهم للسكاكين بمثابة التحدّي. “نحن أيضا نستطيع أن نقوم بما تفعلونه”. لذلك نظرا لصغر سنّهم يعفيهم محمد الطيب من هذا التناقض، لأنهم بكل بساطة لا يفكرّون في العواقب كشخص ناضج.

من جهته، ذهب حاتم وهو صاحب إجازة في علم الاجتماع ويملك الآن محل بيع مواد غذائية في نهاية حيّ الزياتين، إلى فكرة مثيرة: مفادها أنّ العنف وأشكال التعبير عنه – باختلاف أعمار الذين يعبّرون عنه وفيما شهد عليه من أمثلة في الحيّ- هو في أغلبه يعّبر عن رغبة في التأكيد على هوية “ولد الجبل”. وأراد إثبات ذلك بمجرّد البحث في محرك غوغل عن كلمة الجبل الأحمر، فلم يظهر شيء عدى أخبار الجرائم. هي هوّية موصومة وهامشية حسب قوله، تشكّل ملامحها المعروفة رواية الصفحات الأمنية. إذ يٌنظر إليهم كأنفار لا كمواطنين لهم ما لغيرهم وعليهم ما على غيرهم. ولكن هذه الهوية رغم سلبياتها كانت حاضنة ثقافية متماسكة للعديد من أشكال التمرد على هيمنة المركز كما قال، ولكنها أصبحت مؤخرا أداة الكثيرين اليوم في دخول الإستعراض، مستشهدّا بمغّنيي الراب الناجحين على غرار سامارا وعلاء.

يعود الأطفال بعد أيّام إلى مقاعد الدراسة وكلهم ثقة أنهم قادرون على استغلال الفرصة على أكمل وجه، حتى يثبتوا للجميع أنّ الإجرام والانحراف هي ظواهر تقترن مباشرة بضعف الإمكانات وغياب التأطير، وفور توفر هذه الظروف ستتحرر الطاقة الكامنة في تلك الأرواح اليافعة وسيكون معظمهم بحاجة أقل إلى العنف وبحاجة أكثر للإبداع.

م: لم يشأ الموقع في هذا التقرير ذكر الاسماء كاملة، وخاصة أسماء الأطفال، لما يمكن أن يلحقهم من ضرر نفسي، ويشكر في هذا العمل جميع الذين قام بمحاورتهم على تعاونهم واستقبالهم.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !