رأي | كيف نفهم الدولة ؟

بقلم عادل الحامدي
كاتب تونسي أصيل ولاية القيروان، صدرت له خمس روايات، وهي ‘الأخدود الذي صار نهرا’ سنة 2018، ‘أرغفة الذلّ’ سنة 2018، ‘سبب للحياة سبب للموت’ 2019، ‘وحيد الساق’ سنة 2020، ‘سفر الى الينابيع’ سنة 2021.



ثمة أسئلة ” حائرة “، معلقة في فضاء البهتة التاريخية حيال كل ما نتعرض له في حياتنا ومعاشنا اليومي من مؤامرات، حمى الله طارحيها  شر الحيرة والبهتة.. وساذجة لحد يضحك ويبكي.. منها السؤال المصيري: وين هي الدولة ؟ أين هي أجهزة الدولة؟ لماذا لا تحارب هذا الغلاء الكاسح؟ لماذا لا تتحرك لحماية ” مواطنيها ” منه وتحفظ ” قدرتهم الشرائية “..؟ الذي ينتهي بتقرير أشد خطورة هو: ما عندناش دولة.. أو : لو كانت عندنا دولة.. رانا كنا في الخير للعنكوش …هل ذلك افتراض حقيقي؟  
إن الإجابة التي تمنعنا حالة البهتة التاريخية حيال أي وضع نجد أنفسنا متورطين فيه من استيعابها هي  الإجابة التي عادة نكرهها ونخشاها كل الخشية، لأن نخاف أن يأخذنا منطق الإجابة نحو حالة من العراء المخيف، ويقول منطوقها البسيط المعلن أن الدولة موجودة وتمارس صلاحياتها و بمنتهى القوة..، وأجهزتها تعمل بكفاءتها القصوى لتقوم بدورها ومهمتها الطبيعيتين اللتين وجدت من أجلهما الدولة.. باعتبارها أصلا تطورا لمفهوم العصابة الناهبة للثروات والمحتكرة لها، وباعتبارها التاريخي كجهاز طبقي يمثل التعبيرة السياسية عن الهيمنة البورجوازية على الإقتصاد واحتكار الثروات والجهاز الحامي لها بقوة النار والحديد والقوانين التي شرعتها وسنتها تلك البورجوازية ذاتها ..

حاليا، انتهت الدولة للحل النهائي لأزمة التداخل بين دورها الأصلي، كجهاز حامي للبورجوازية وخادم لمصالحها،  ودور آخر مفترض منها القيام به ومنسوب لها رغما عنها، هو دور الراعي الإجتماعي للفئات الهشة والحامي لخبزة الفقير، ويتمثل هذا الحل في  ” تزعبيطة ” داوية، يقوم بها حمارها المثقل، تخلصها من جميع الأعباء الإجتماعية التي كبلت بها نفسها وعملت من خلالها على القيام بعملية تزوير فاشل لمهام أجهزتها.. فليس ترك الناس في قبضة الندرة والاحتياج والغلاء الماحق لكافة المواد الأساسية بالأمر المهم عندها، لأنه أصلا، عندما تعود الدولة لمراجعة مهامها الأصلية التي وجدت لخدمتها، ليس واحدا من مهامها، والوزير الذي قال مرة أنه ليس من مهام الدولة توفير الشغل والآخر الذي قال ليس من مهام الدولة محاربة الفقر والثالث الذي عاب على الناس أنهم يريدون من الدولة أن تتدخل لتعديل حالة الأسواق بأن التجارة لها طبيعة تنفر من كافة أشكال القيود، فلا مجال للجم الشراهة نحو الربح بلجام المبدأ، لم يفعلوا شيئا غير التعبير الأمين  عن تصور وفهم صحيحين لماهية الدولة ومهامها، فهي ليست أمنا ولا هي والدنا أو راعينا الحنون الذي لا ينام الليل إلا بعد أن يتأكد أن الشعب بات متعشيا، وإلا بعد أن يتأكد أن بغلة العراق قامت من عثرتها وأكملت سيرها نحو وجهتها،  الدولة، مثلما اتضح لنا أخيرا، لا  تبالي بسد الحاجيات ولا توريد ما يلزم منها لتغطية النقص أو إقامة مشاريع محلية لإنتاجها، ويكفيها التذرع الواهي بأن هناك محتكرين حكموا على المواد بالندرة، وعلى أسعارها بالصعود نحو المستوى الخرافي الذي نعيشه، بينما الفهم الصحيح لواقع الأزمة الحالية يقول أن ” الاحتكار هو ابن الندرة وناتج عنها وليس مسببا لها ولا فاعلا أوليا فيها، وتشمل قائمة التذرعات القول بأن الالغاء شبه التام لكافة ميزانيات الدعم الإجتماعي يعود لكون ” الدولة فالسة وما عندهاش فلوس “.. في استحضار مضجر للذريعة الكلاسيكية التي اعتادت أبواقها ترديدها من زمن أعوام سبعين..” الاعباء الثقيلة التي على كاهل الدولة” والتي لم نر منها مشروعا عموميا واحدا منذ عشريات بحالها، الدولة عادت إلى أصلها وهي لم تعد تبالي بالناس.. فلا هي منهم ولا هم منها.. ولا همومها كانت جزء من مشاغلها، الدولة جهاز طبقي معادي لهم

في المثال التونسي، كانت مرحلة ما بعد الاستقلال الصوري، الذي أمّن تزوير حقيقته بورقيبة وغيبها تماما عن الناس، حقلا لتجربة إدخال نمط من الإنتاج شبه التعاوني  جديد على الواقع التونسي، أو ما تعارفنا على تسميته بتجربة التعاضد، لم تكن في حقيقتها غير مرحلة لتأهيل القوى العاملة تمهيدا لإدخالها دورة الإنتاج الرأسمالي كجملة من الرتوس وقطع الغيار في دواليبه، لإنهاء الوضع البدائي المنفصل عن دورة الإنتاج المدولن الذي تتحكم فيه الرساميل وقوى السوق للنمط الإنتاجي في تونس، وانتهت باستعجال قوى السوق انتهاء تلك المرحلة، بعد أن هددت المتغيرات العالمية التي تدفقت تأثيراتها للداخل التونسي، بتحولها لتجربة اشتراكية صريحة، فانقلبت الحية على ابنها البار احمد بن صالح، وجيء على نحو مستعجل برجل البنك الليبيرالي الهادي نويرة، الذي تكافئه الدولة بوضع صورته على أوراقها النقدية، على النخر الذي أحدثه في بنية اقتصاد ناشيء  كان يوسعه أن يتخير لنفسه وجهة بعيدة عن وجهة إقتصاد الربح وتكديس الثروة، بنشوء الكمبرادورات العائلية التي أيقظت نزعاتها الخسيسة للربح والإستحواذ المعمم قوانين افريل 72 الليبرالية. لكن سياسة نويرة كانت عرجاء وانتهت بجملة من التأزمات الإجتماعية  نعرفها جميعا، لم يكن معها مفر من القيام بعملية تعويم لها، حفاظا على النمط الاقتصادي الفاسد والتابع الذي نشأ و حفاظا على مصالح ” العائلات المتربحة منه التي غدت  مافيات قائمة بحالها. فجاء ” المعوم ” الكبير محمد مزالي  بالتعريب والهوية والتصالح مع الاسلاميين، لكنه بقيامه بذلك فتح بواية تناقض هووي معهم.. بين الدولة الليبرالية التي تعمل على تعرية النساء وإخراجهن للعمل، كأسلوب فعال لضمان استفادة نظام رأس المال من  جهد وعرق الجميع، رجالا ونساء،  والرؤية المحافظة  للإسلاميين، التي مخ هدرتها تجسيم الرؤية الشرعية لوضع النساء في البلاد، بأرجاعهن للبيوت وفرض التحجب، كانت معركة تافهة وزائفة، ورغم أن هذا التناقض والتجاذب  المتناميين لم يطمسا أبدا المسألة الاجتماعية، مثلما رأينا في أحداث الخبز 1984، بل زادا في تعريتها وتأكيد الصبغة المنافقة للدولة  الاجتماعية التي لم يبق منها بفعل قوانين افريل وسياسات نويرة الانفتاحية  غير هيكل خاوي، فإن الإسلاميين صعدوا من مواقفهم وأوشكوا على التعبير صراحة عن طموحهم هز أركان الدولة البورجوازية التي أقامها بورقيبة، وإقامة دولة الشريعة بدلا منها،  فكان الحل الأمني البوليسي الذي أمنه نظام الجنرال طامسا للأزمتين معا .        
المهمة الطبيعية للدولة والتي على مرتزكها هذا اتخذت صفة شركة حارسة لجملة من المصالح هي : الحفاظ على مصالح أصحاب الثروة وتمكينهم من مزيد الحماية و النفوذ، وسحق الأغلبية منزوعة الحقوق التي تتناقض مصالحها جذريا مع مصالح تلك الطبقة.. عبر الاداءات والرقابة والخنق الاداري والمحاصرة البوليسية، لهذا يبدو جليا أن السؤال عن غياب ” محير ” للدولة يمثل سذاجة لا برء منها تلهث خلف سراب اسمه ” البحث عن الدولة العادلة ” التي ليست غير وهم رومانسي في أذهان العجزة.

الدولة جملة من الأجهزة السلطوية، بفعل القانون والقوة المباشرة،  تمثل التعبيرة التنفيذية عن سلطة الأقوى ومهمتها هي إبقاء القوي قويا باعطاءه جميع مقومات التنفذ المالي والمعنوي والقانوني، والضعيف ضعيفا بخنقه بحزمة من الشروط التعجيزية ثم معايرته بضعفه وعجزه عن ” المنافسة ” وأن العلة الكبرى فيه هو.. هو الفاشل عن الفهم وعن العمل… فلا ذنب للدولة في ما صار اليه من حال بئيس.

وثمة جماعة يزعمون أنهم مع مصالح الأغلبية المقموعة معيشيا، وفي نفس الوقت يطالبون بإصلاح جهاز الدولة.. أي هم ببساطة كأنهم يطالبونه بأن بتجرد من طبيعته ويتخلى عن مهامه الأصلية الذي وجد من أجلها.. هؤلاء رجل مع الكادحين ورجل مع النظام ..يتارجحون في حلقة متوسطة بينهما، إن كان هناك في الأفق شيء من الإمتيازات، فهم في صف الدولة دون نزاع. وإن ادلهمت السماء بغيوم الأزمات المعيشية، فهم في طليعة الفرقة الكادحة المتضررة، هم في  الحقيقة المحموعة الأخطر على الإطلاق لأنهم عندما تحين اللحظة المصيرية التي يوضع فيها مبرر وجود جهاز الدولة على محك السؤال تراهم أول من يهرع لنجدته ويمده بمبررات البقاء… وأكثر المبررات التواء وأشدها كفاءة في تحصين وجود جهاز “الدولة”  هو الإنطلاق من مبدأ أنه لا بد لنا من حاكم، وأن الحياة من غير حاكم هي عبارة عن فوضى مطلقة، ثم يمرون نحو مطالبات لا تنتهي بالتحسين والترقيع والتلفيق.. وإيهام البشر دوما بأن الأمور في ” طريق التحسن ” مع الدولة، و بأن بؤسا أخف وطأة من بؤس آخر..

وهكذا لا مفر في ظل الدولة من التقلب الأبدي بين بؤس وآخر… ثم التذرع بأن تلك حدود “الدولة ” وتلك إمكانياتها.. ثم كيل التهم والملامات على المفقرين الذين ليس لهم وعي ولا يتجاوبون مع برامج الدولة ويفضلون الكسل ويكرهون العمل ومصاحبة الكفار. فلا تراهم أبدا يلقون شيئا من الضوء على حقيقة الدولة.. هنا هي بالتحديد “دولة بورقيبة ” الفشلام الكبير.. دولة العماء المطلق عن كافة حقائق الدنيا وتزوير كل شيء.. فأنتجت بشرية بعقل معوق تعتقد أنها مركز الكون والأولى في كل شيء والرائدة في كل إنجاز ، وصيرت من التوانسة الشعب الأعظم في فنون الترهدين والبيع والشراء واستحواذ العقل التجاري عليه، فلا يعسر عليه بيع أي قضية، حتى لو كانت قضية معاشه هو بالذات .

وعندما حصل ما في الصدور في 17 ديسمبر 2010 . انكشفت كذلك قدرة هذه البشرية التي تشوه ادراكها .وتلوث فكرها بالبروباغاندا الدولانية. على ممارسة كافة أحابيل النفاق ” والترهدين ” لضمان بقاء حقائق بؤسنا خافية عنا نحن بالذات..” احييني اليوم واقتلني غدوة”،  فيعتمون على الدولة وماهيتها ودورها في إنتاج بؤس البشرية.. بمعنييه المادي والرمزي، ويعدون بيوم يجد فيه بؤساء الدنيا ومفقريها.. بشكل إعجازي لا منطق فيه ولا معقولية… دولتهم الإجتماعية الراعية الحنونة.. في الوقت الذي تنعم قطعانها القائمة عن فعالية أجهزتها.. أي مستخدميها من موظفي إدارة وحاملي سلاح وأبواق دعاية وأجهزة تشريع مأمورة، الطبقة التي افتكت تسمية “الزواولة ” أو البورجوازية الصغيرة الحالمة بالترقي وذات الخلفية  الاجتماعية المتدنية،  المتقلبة  في النطاق القائم بين  البورجوازية الكبيرة والمهمشين.  فهي تطلب بروح من يحلم ببلوغ مكانة ا تلك البورجوازية الكبيرة، وتشكو بروح من يعيش عذاب المهمشين وبؤسهم، لكنها عندما تحظى بالرفاهية  تدير لهم الظهر وتنكرهم تماما، فليست طبقة الزواولة الدولانية غير سارقة لهموم المهمشين وطامسة لمعاناتهم، وعلى الدولة، المعبر السياسي عن هيمنة  البورجوازية الكبيرة، رعايتها وايلائها  بالعلف الوافر في إسطبلاتها الحصينة.. فدولابها هكذا يدور بكامل فعاليته ، وتحت حيطان تلك الإسطبلات يموت المفقرون جوعا وبردا ويأسا.. من الغلاء ومن الندرة ومن القمع العائد بأشكاله التي تبرع فيها بورجوازية الدولة كل البراعة، ولا يهمهم  ذلك الفقير والتهميش المعممين إلا نفاقا.. وحتى إن ماتوا .. فالموت حق على الجميع.. ما يهم ” الوسطيين الاصلاحيين ” من حثالات الطبقة الوسطى من البورجوازيين الصغار هو “هيبة الدولة ” وحضور الدولة، التي لا تعني شيئا غير الحفاظ على وضع بقاءهم مستخدمين أذلاء.. يأكلون العلف الدولاني وينامون في إسطبلاته.. نمطا حياتيا أبديا لا يبغون عنه بديلا.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !