العمارة وبيت الصفيح


بقلم عادل الحامدي
كاتب تونسي أصيل ولاية القيروان، صدرت له خمس روايات، وهي ‘الأخدود الذي صار نهرا’ سنة 2018، ‘أرغفة الذلّ’ سنة 2018، ‘سبب للحياة سبب للموت’ 2019، ‘وحيد الساق’ سنة 2020، ‘سفر الى الينابيع’ سنة 2021.

لم يكن في الأمر أي خطأ، ولا كان في تلك الحركة المشهودة تعديا على أحد. فقط الجيران البلداء لم يكونوا قادرين على  فهم المرمى والدرس  منها، لقد أقيمت العمارة الجديدة لحساب السيدة البورجوازية التي تمتلئ نفسها بالأحزان القديمة لغاية كفكفة دموعها وترميم حالتها النفسية والعاطفية، بعد جملة من حالات الطرد التي تعرضت لها من قبل الجميع، حيث ينبغي أن تقام  بالضبط، في الموقع الأشد خصوبة من الأرض المتنازع عليها والمكان الأشد ملاءمة للمزاج، سريع التعكر، للسيدة المدللة ذات الروح المكلومة. خلف العمارة تمتد حقول غناء حافلة بالموارد، بينما لا تبدو حالة الشاغل القديم للأرض وصاحبها الأصلي، الذي كان مقيما في مسكن متواضع في نفس المكان الذي أقيمت عليه عمارة السيدة، وألقى به  المقاولون  الأربع الذين أشرفوا على تشييدها وتحصينها، هو وعائلته، في الناحية المقابلة من الطريق في بيت ضيق من الصفيح  تمتد خلفه سبخة ومستنقع، غير تفصيل صغير وتافه في اللوحة الجديدة التي كان المقاولون يقومون برسمها بعناية فائقة للمنطقة برمتها. كانت غايتهم جعل السيدة البورجوازية وعمارتها مثالا ونموذجا. وإذا عجز الجيران عن استيحاء ذلك المثال واتخاذه قدوة و النسج على منوالها والتعلم منها  فذلك لعلة خلقية ونفسية وعقلية كامنة فيهم  تجعلهم لا يستأهلون غير بيوت الصفيح مسكنا أبديا لهم. 

اثنان من هؤلاء المقاولين الأربعة كانا عجوزين هرمين يمتلآن خبثا وخسّة ويعانيان من بطالة وشيكة ومعمّمة، لرغبة الناس عن خدماتهم فيما يرغبون فيه من إنشاءات جديدة، إذ كان الجميع يسارع بطردهم ويرفض عروضهم لما انكشف من أمرهم وما صار معروفا عنهم من ميل للغش والسرقة. ووجدا في مهمة المساهمة في إقامة العمارة الجديدة للسيدة ما يسترجعان به شيئا من الألق والمهابة القديمين، والمقاول الثالث كان شابا يافعا خارجا لتوه من معركة طاحنة  انهزم فيها شر هزيمة ويريد استعادة قواه بأي طريقة، وسبق أن كانت لجده مشاحنات وخصومات دامية مع البعض من أجداد السيدة البورجوازية  قتل خلالها العديد منهم وملأها عليه حقدا. فتطوع للمساهمة – بل أجبر عليها- مع المقاولين العجوزين والمقاول الرابع واسع الحيلة والمطامع، دفعا لدينه وتكفيرا عن الذنب الذي ارتكبه جده ضد جدها. أما المقاول الرابع فكان الأشد شراسة ومراميه كانت الأشد خبثا، كان هدفه من إقامة العمارة مراقبة الجميع والسيطرة على المكان برمته وجعل السيدة حارسا شخصيا لمصالح مقاولاته ووكيلا لها، مقابل أن يوفر لها كافة وسائل الحماية، كان طماعا شديد الطمع في ما في الحقول الغناء القائمة خلف العمارة من موارد. فحول العمارة بمن فيها إلى حارس له، والتقى ذلك مع رغبة السيدة التي لها جنون قديم للتحوز والفتك، فمثلا بتلك الصورة  الكلب العقور الذي لا يكف عن النباح والعض وجروه النجيب السائر على هديه. 

وكم كانت تمتلئ نفس السيدة غيظا وحنقا كلما تذكرت أو شاهدت أحد أبواب بيت الصفيح أو نوافذه تفتح عند ناصية الطريق المقابل في الوقت الذي تهم هي فيه بفتح  إحدى الشرفات العالية للعمارة لتبديل الهواء والسماح بدخول أشعة الشمس. كانت تبدو لها أعينهم منغرزة في الشرفة  تجوس في زواياها وتطلع على تفاصيلها وتبحث عن نقاط الضعف فيها لتهاجمها منها. فمثلت لها تلك النظرات المتخيلة تعديا أليما منهم على خصوصياتها وتهديدا لسلامتها. وتتساءل بحرقة : لماذا ينبغي لبيت الصفيح أن تكون له أبواب ونوافذ مطلة على الطريق؟ ما حاجة هؤلاء للشمس والهواء؟.. ما الذي يمنع مقاوليها الأربع، بما لهم من قوة وبأس، من فرض الإغلاق التام لأبواب  بيت الصفيح ونوافذه بشكل دائم ونهائي فتستريح من نظراتهم الإقتحامية المصوبة على شرفتها والمطلعة على تفاصيلها؟ رغم أن البعض ممن استمعوا لشكاويها  قد سألوها مرارا: هل لديك دليل واحد على أن  أحدا من عائلة بيت الصفيح كان يتجسس عليك ؟ فتتلعثم السيدة في الرد لكنها لا تلبث أن تنفجر صارخة في الجميع وتتهمهم بمعاداتها والتآمر عليها، فليس من الضروري أن ترى عينا مطلة من أحد تلك الأبواب أو النوافذ تتابعها في شرفتها. بل يكفي أن يكون هناك، في الناحية المقابلة من الطريق، بيتا يفتح أو نافذة تغلق، ليكون ذلك مصدر خطر وتهديد ماحق لها.. إنهم يكرهونني..جميعهم يكرهونني.. أرى البغض في نظراتهم من بعيد. يؤزم نفسيتي ذلك. فيرد عليها البعض: طبعا هم يكرهونك لأنك افتككت بيتهم وطردتهم لبيوت الصفيح، فكيف تطمحين للعيش آمنة..  فتمد السيدة لسانها لقول القائلين.. وترد بجرأة نادرة أن البيت في الأصل كان لجدها الأكبر  الذي عاش هنا في غابر السنين، ولا تفتأ تستنبط الحلول بمعية عرابيها الأربعة للإتيان بالمزيد من الاسمنت والآجر لفرض السد النهائي والتام لكافة الفجوات في بيت الصفيح  التي قد تتسلل منها النظرات لشرفتها ويأتيها منها الخطر .

وللسيدة حكاية أخرى قديمة مع ساكني بيت الصفيح، لأنها تعتقد اعتقادا أعمى أن جدها القديم الذي سكن هناك بالضبط في أزمنة قديمة، تحديدا في الموقع الذي يشغله ساكنو البيت عند الناحية المقابلة من الطريق، قد أسقط في أحد الأيام قطعة نقدية من فئة الخمسة دنانير. وقبل موته كلف أبناءه وأحفاده بالبحث عن القطعة النقدية لأن فيها سرا عميقا. فكانت لا تكف كل يوم عن النزول من عمارتها، بعد أن تغلق شرفتها، وتشرع بالتهويم والحفر هنا وهناك بحثا عن القطعة النقدية الضائعة. وعندما  يضيع منها الجهد عبثا ولا تظفر من القطعة بطائل، تشرع اللعنات تتطاير من فمها وتتهم أهل بيت الصفيح بأنهم عثروا عليها أخفوها في أعماق سحيقة تحته. وتهددهم بجلب جرافة والشروع بتقويض الأسس الهشة لبيت الصفيح بحثا عن قطعتها اللعينة.

ولما لم يكن لأهل بيت الصفيح، بعد أن أُلقي بهم بعيدا عن بيتهم الأصلي القديم، من امتداد جغرافي يمثل شريانا مغذيا لبقائهم، غير السبخة العقيمة والمستنقع الآسن وراءهم، هداهم التفكير للشروع باستنباط حلول مبتكرة للحفاظ على حياتهم. فربوا في حوشهم الصغير الضيق بعض الأرانب ليستفيدوا من لحمها وزرعو شيئا من البقول والغراسات. لكن السيدة في عمارتها، ودرءا للسأم في حياتها، كانت بدورها تربي قططا كبيرة وكلابا شبه متوحشة. ولمتعتها الشخصية كانت في أحيان كثيرة تفتح لها بوابات العمارة وتطلقها على أهل بيت الصفيح  وتتسلى بالإستماع لأصوات صرخاتهم الفزعة  المذعورة. وهذه القطط والكلاب لم يكن يحلو لها، لدرء السأم عنها هي الأخرى، غير الإغارة على بيت الصفيح وأكل ما يربونه من أرانب وإفساد من يزرعونه من نبات . فلم تترك لهم زرعا ولا ضرعا ولا رطبا ولا يابسا. وفي كل مرة يهم أهل البيت بمقاومتها فتفاجئهم بعدوانيتها وهجماتها الشرسة. فتعرضت عين أحدهم للفقئ بسبب هجمة ضارية من قط حقود. وقطعت يد طفل بفعل نهشة من كلب عقور. وبترت ساق طفلة لأن قطيعا من الكلاب هاجمها وهي في الحوش تسقي النباتات. وبقرت بطن امرأة مسنة وهي نائمة لأن القطط الضارية للسيدة أنشبت فيها مخالبها. امتلأ حوش بيت الصفيح وفناؤه بالمصابين والمشوهين. لكن عندما عرفت السيدة أن أهل البيت قاوموا قططها وكلابها وضربوا بعضهم،  فكرت في حل نهائي يريحها منهم . فاقترحت على المقاولين الأربعة أن يسمحوا لها، بدلا من إضاعة الوقت في اقتحام البيت وخوض معركة تفصيلية مع أهله بحثا عن المعتدين على كلابها وقططها، أن يتركوها تأتي بدبابة وتنصبها قبالة البيت، على المسافة الصفر منه. ثم بطلقة واحدة من مدفع الدبابة، تقوض البيت على رؤوس ساكنيه، فتستريح منهم ويخلو الجو لها ولكلابها وقططها لتفصل واقع المنطقة كلها على مقاسها ومقاس حلفائها الأربعة .

 لكن أخبار ما اعتزمت السيدة البورجوازية، التي عادت نفسها تمتلئ بالأحزان القديمة، القيام به ، يبدو أنها تناهت لأسماع أهل بيت الصفيح، فعسر عليهم  تقبل حقيقة أنهم سيصيرون هكذا سريعا لقمة سائغة رخيصة ولحما مفروما في فم قذيفة الدبابة التي تنوي السيدة نصبها قبالة البيت، عند المسافة صفر، حيث وقتها ومن تلك المسافة، لن تبقي الطلقة الماحقة  في البيت حجرا على حجر ولا أثرا لبشر بعد أن تنسفه نسفا. كان الأمر سيكون ميتة رخيصة أو إجلاء أشد منه رخصا من البيت، إن فكروا في الهرب من الدبابة، يمثل منتهى الإذلال والعبث بأبسط معنى لحياتهم، تنهي به السيدة زمنا طويلا من الغطرسة، بالسيطرة النهائية على كل شيء. هي ورفاقها الأربعة المتواطئين معها. هكذا صار الأمر بالنسبة لأهل بيت الصفيح، الذين  فقأت منهم الأعين وقطعت  الأيدي وبترت السيقان وبقرت البطون، ليس أمر مفاضلة بين أن يموتوا أو أن يحيوا . بل أي كيفية سيموتون بها؟ ليلة من الاجتماعات السرية بين مجموعة من شبان العائلة يبدو أنها حسمت في ذلك الأمر.

إنك تدهشني جدا أيها الأخ ..ولا أكاد أجد سببا لاحترام ما تقول. هل تظن أن شعور أهل بيت الصفيح بالضعف حيال عتو السيدة البورجوازية ودبابتها المنتصبة قبالته  سيمنعهم من المقاومة؟ هل سيعصمهم الصمت من الموت؟ إنهم عائلة فقدت كل شيء ويئست  من كل شيء، وتدافع عن آخر ما تبقى لها من مقومات الشرف. فلا معنى هنا للسؤال عن النتيجة. لن يغلبوا الدبابة، لكنهم غلبوا خوفهم.. وفي إحدى الغرف الضيقة في بيت الصفيح كانت تدور مناقشة حامية  بين  ذلك الشاب ذو العينين اللتين تتقدان حماسا وهو يصغي لتحذيرات أمه  أن لا يقترب من السياج العالي الذي يسور عمارة السيدة.. ونظرتها يملؤها الارتياع.. إياك أن تذهب.. اياك أن تذهب.. ستموت هناك .. الحيطان عالية.. وقطط السيدة وكلابها شديدة التوحش.. وأنت شبه أعزل حيالها،  وما تقوم به  سيكون انتحارا عند تلك الحيطان.. لقد أُتخمنا فقدا، ولم نعد نريد المزيد منه، حسنا يا أمي.. يرد الشاب بحنو، سأطيعك وأشفق على مخاوفك من الفقد.. وأحاول ما في وسعي أن لا أذهب ..لكن ماذا سنصنع حيال تلك الدبابة؟ وحيال الهجمات التي لا تنقطع للكلاب والقطط؟ التي تشتد شراسة يوما إثر يوم.. أرى في نظراتك الفزع الشديد، هل خمنت يا أمي  ما انتوينا أن نفعله بالسيدة ؟ إنك تعرفين تماما، لكن يشل حماستك  تكرر الخذلان والخيبات، و سنفعلها هذه المرة ولن نبالي بما سيأتي، سنداهمها في عمارتها بالذات، ونشتبك في صراع مع كلابها وقططها، ونرد لها الصاع صاعين، وإن استطعنا  قتلنا منهم ما نقدر وعدنا بما نمسك منهم في الشكارة.. ونقايض السيدة إطلاق سراحهم مقابل الكف عن إيذاءنا وإبعاد دبابتها عن ساحة البيت .

لنقذف بهم في السبخة .. لنردمهم في المستنقع، هم وبيتهم الصفيح وما أمسكوه من قطط وكلاب.. زمجرت السيدة في وجه أعوانها تعلن عن قرارها النهائي بعد سماعها نبا الهجوم الذي شنه على تخوم عمارتها جماعة من أهل البيت.، يالهم من وحوش ضارية، إذ اعتدوا على قططي وكلابي البريئة وهي تتنزه  في الحقول المتاخمة لبيتهم، لقد كانت مجرد حفلة رقص، لكن تبا  لهم ولتلك الكلاب ولحفلة الرقص،  لن أقايض، لن أقايض، لن أقايض، وليرح الجميع في جناح ذبابة، حملوا الاسمنت والآجر لسد فتحات البيت.. لا حق لهم في أن يروا الشمس أو يستنشقوا الهواء، وإليّ بالجرافة  لتقلب عاليها سافلها، فلا حق لهم في أرض يمشون عليها أو يقيمون فيها بيتا. إليّ بالعقبان تغير عليهم طائرة وتشبعهم نقرا.. وهكذا كان الأمر بمنتهى الاختصار.. أغار الجماعة على تخوم العمارة وعادوا بكلاب وقطط كثيرة أشبعوا بها شعورهم بالنقمة وثأروا بها للمهانات القديمة. لكن البيت كله غدا في قلب العاصفة، بعد أن كان على شفا القذف في غيبات المستنقع، لأن غضبة السيدة لما عدته تعديا على حرمة عمارتها لا غفران له كانت عبارة عن حالة جنون مطبق، ليأتي الموت إذن.. الآن أو غدا فهو كان آتيا لا محالة.. قذفت الدبابة  حممها فاندكت أركان البيت، وجنح الموت وحلق عاليا في السماء الصلعاء، صار للموت أجنحة ملتهبة، أُطلقت جميع العقبان من شرفات العمارة المنيفة على بيت الصفيح المسكين وأمعنت في ساكنيه نقرا وبقرا. تعرت السماء فوق الرؤوس، وانصب منها على بيت الصفيح مطر من الحديد الساخن المذوب .

ماذا سيفعل الآن أهل البيت ورعاته؟ بعد أن اشتعلت تحتهم الأرض وفوقهم السماء؟ من سيصغي لصوت اللوعة الصادرة من صدورهم المختنقة؟ من سيرى أنهار الدماء النازفة من شرايينهم؟ لقد جلبتموها على أنفسكم، صاح جماعة المقاولين وتابعيهم في أهل البيت موبخين مؤنبين.. لو سكتتم وامتنعتم عن فتح أبوابكم ونوافذكم ولم تتلصصوا على شرفات السيدة وأعدتم لها القطعة النقدية الضائعة وسمحتم لكلابها وقططها بالقليل مما كنتم تربونه من أرانب لكنتم الآن في الخير والخمير. لكنه كان بيتنا، وطردونا منه، ولم نفعل غير محاولة العودة إليه، إلى بيتنا القديم، هيهات…ذلك تاريخ طوته الأحداث وجرفته معها المياه التي تتدفق دون انقطاع تحت الجسر وفوقه. كأنكم تعيشون خارج التاريخ، لم يعد ثمة من مكان للحكمة في هذه الأرض. عرف الشاب المتحمس أخيرا أن ما حدث كان أمرا لا رجعة فيه، وأن الأمر ليس غير تنازع دموي على كتابة تاريخ البيت والعمارة والطريق الفاصل أو الواصل بينهما، و سواء أطلقوا ما في حوزتهم من قطط وكلاب أو تركوها حبيسة في مخابئهم فلا شيء سيخفف من السعار الذي انتاب السيدة الملتاعة. إنها لا تريد شيئا أقل من تمزيق لحمهم بيديها، والإنفراد وحدها بكتابة تاريخ البيت والعمارة والطريق والفضاء الذي يمتد خلفها وملكية حقوله الخصيبة وموارده التي لا تنتهي.  لتكن إذن مبادلة الموت بالموت، واللوعة باللوعة، ولينته عهد الانخداع بأن  بوسع بيت الصفيح أن  يظل قائما بجوار العمارة المدججة. لينتفض أهله انتفاضتهم الأخيرة قبل الهمود النهائي لأحدهما، فإما هم  وحدهم وإما العمارة وحدها..لكن ما من جوار ولا وهم بأنه سيكون بينهما يوما جوار. لم يكونا كذلك أبدا. وهذه المعركة كانت آتية لا ريب فيها وكانت على الدوام تطاردهم  أصوات انفجاراتها المكتومة. لكن كان كل مرة يخمدها ويؤجل اندلاعها الخوف والتردد والأوهام المتمكنة من ساكني بيت الصفيح. فالسيدة طوال زمن مجاورتها لهم لم يكن لها من همّ غير دفعهم نحو المستنقع وإغراقهم فيه. فما الذي أخطأ فيه الشاب المتحمس عندما شفى شيئا من غليله بأن كال لكلاب السيدة وقططها عدة ضربات مؤلمة قبل أن تداهمه هي، من شرفات عمارتها  التي يحرسها مقاولوها الأربع، بالضربة التي توقعها منها؟ 

   يا للملاعين أبناء بيت الصفيح الحقير..كيف يفعلون ذلك بنا ؟ والعينة صاحبة العمارة النتنة، كيف تفعل ذلك بنا.. لقد تعرفا إلى بعضهما أخيرا، والتقيا في مساحة شديدة الضيق، وعرفا ما يستطيع أحدهما أن يفعل بالآخر وما من سبيل إلى التوقف.. تبودلت النظرات في العينين مباشرة وعرف كلاهما ما يختمر في أعماق غريمه وإلى أي مطاف سينتهي هذا كله. قالت الأرض لا نهاية لهذا الأمر. سنقاوم حتى آخر نسمة منا، فما الموت غير خيار منا لحياة أخرى مداها أبعد من هذه، وقالت السماء كذلك لا نهاية لهذا الأمر، سيظل  الحديد المذاب ينصب مني على الأرض حتى أصاب بالعماء ولا أعود أميز بشرا من حجر. وقالت الأرض والسماء باطل الأباطيل باطل. اللعنة على العمارة ومن فكر في إقامة العمارة ومن جلب السيدة البورجوازية وأسكنها العمارة. لكن بيت الصفيح اختفى تماما ولم يعد له وجود يؤشر على وجود بشر يعيشون فيه. لأن هؤلاء البشر صاروا أكثر من أحياء يمشون على الأرض ويأكلون الطعام، صاروا عروقا متمددة ضاربة في أعماقها، فما عاد بهم من حاجة لبيوت الصفيح التي لا تقيهم حرا ولا قرا. وعندما هم الوسطاء الذين قضوا أياما يتوسلون للسيدة البورجوازية كي توقف قطعانها عن الذبح والقتل، بمد أياديهم كي يمسكوا بشيء من أيدي هؤلاء الذين تيبست مفاصل الأصابع منهم وهي تقبض على أديم الأرض، في التحام أبدي به، لم تصل الأيدي مطلقا إلى بعضها وظلت معلقة في الهواء، لأن الأصابع منهم تفتت سريعا ووقعت غبارا منثورا.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !