إلغاء الديون لا يكفي

بقلم فاضل قابوب
أستاذ الاقتصاد في جامعة دنيسون بالولايات المتحدة الأمريكيّة ومدير المعهد العالمي للإزدهار المستدام وخبير في تصميم السياسات العامة لتعزيز السيادة النقدية والاقتصادية في الجنوب العالمي

تحية من كيتو عاصمة الإكوادور، مركز العالم!
أنا هنا مع مجموعة صغيرة من الزملاء من مختلف بلدان الجنوب لورشة عمل حول الديون والتنمية. كانت بداية جهد تعاوني رائع ستخرج نتائجه إلى النور خلال الأشهر القادمة (سأتحدث أكثر حينها عن هذا الموضوع). وكانت فرصة رائعة لزيارة ميتاد ديل موندو (وسط العالم) في نقطة الطول الصفر على خط الاستواء (التي حددها السكان الأصليون ما قبل الإنكا بدقة مثل دقة نظام تحديد المواقع بالجي بي أس ووضعوا علامتها على جبل كاتيكويا، والتي تعني “الذي يتبع القمر”)، حيث قمنا بالتناوب للعثور على توازننا المثالي والاستمتاع بعينات من أفضل الشوكولاتة والقهوة الإكوادورية.
أحد النقاط الرئيسية التي ناقشتها خلال ورشة العمل هي أن جميع الجهود الجارية لإعادة هيكلة أو تقليل أو حتى إلغاء الديون الخارجية لبلدان الجنوب لن تكون كافية لتحويل هياكل اقتصادنا والقضاء على الأسباب الجذرية التي تؤدي إلى التداين الخارجي في المقام الأول. الديون الخارجية هي أعراض لإشكاليات هيكلية أعمق يمكن تلخيصها في ثلاث مجالات رئيسية: العجز الغذائي والعجز الطاقي وتدنّي القيمة المضافة في القطاع الصناعي ( ).

اتفاقيات لندن لعام 1953

مثال جيد على بلد قد مر في نفس الوقت بعملية إلغاء كبيرة للديون وباستثمارات استراتيجية من خلال منح بدلاً من قروض لدفعها لتصبح قوة صناعية هو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
احتفلنا هذا العام بالذكرى السبعين لاتفاق إلغاء الديون الألماني التي تمّ في إطار ما سُمّي باتفاقيات لندن في 27 فبراير 1953. نلاحظ أن الاتفاق الأصلي شمل إلغاء الديون الألمانية تجاه إيران وسريلانكا وباكستان وجنوب أفريقيا وناميبيا وزامبيا وبوتسوانا وأنغولا، وبعد 1953 انضمت دول أخرى من الجنوب بإلغاء ديون ألمانية أخرى (بما في ذلك الدائنون في القطاع الخاص): مصر والأرجنتين وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكمبوديا والكاميرون وغينيا الجديدة ومالاوي وزامبيا وزيمبابوي. هذا ما يُسمّى حقّا إلغاء ديون!
في ذلك الوقت كانت إجمالي الديون الخارجية لألمانيا 30 مليار مارك ألماني وهو ما كان يمثل حوالي 25٪ من ناتجها المحلي الإجمالي. لم تكن ألمانيا تقترب حتى من المعايير التي تجعلها تُصنّف اليوم من ضمن دول العالم الفقيرة المثقلة بالديون الحالية (HIPC). مع ذلك، كثير من الدول التي قامت بإلغاء ديون ألمانيا هي اليوم مصنّفة ضمن تلك الفئة (أي الدول الفقيرة المُثقلة بالديون).

ألغت اتفاقيات لندن 15 مليار مارك ألماني، أي ما كان يمثل 50٪ من مجمل ديونها. وحتّى باعتبار سعر الصرف في تلك الفترة الذي بلغ أدنى مستوياته بـ4.2 مارك ألماني للدولار الواحد، فإن المبلغ الملغى يعادل ما يقارب 40 مليار دولار في عام 2023. سيكون المبلغ ضعفه (80 مليار دولار!) إذا اعتبرنا سعر الصرف قبل الحرب العالمية الثانية عندما تم الحصول على معظم الديون( ).
إلغاء الدين في عام 1953 كان شرطًا ضروريًا ولكنه لم يكن كافيًا لدفع ألمانيا نحو أن تكون القوة الاقتصادية التي صارت عليها بعد الحرب العالمية الثانية. أن يُمنح بلد ما إعفاءً من بعض الديون دون أن يُعطى الأدوات اللازمة لتسلق سلسلة القيمة العالمية للصناعة يعتبر متنفسا لشخص محاصر في حفرة عميقة بإعطائه بعض الطعام والماء ليبقى أسبوعًا آخر، لكن دون تزويده بالحبال والسلالم التي يحتاجها حقًا للهروب من الموت المحتوم. ببساطة، ما يبدو كفعل سخي ولطيف هو في الواقع فعل قسوة متعمد. هذا بالضبط ما قامت به دول الشمال العالمي مع كل أزمة ديون في دول الجنوب.

من مورغنثاو إلى مارشال

إذا قرأت المقال الممتاز لإيريك س. راينيرت بعنوان “الفقر المتزايد في ظل العولمة: خطط مارشال وخطط مورغنثاو كآليات لتقسيم الدخل العالمي (الرابط)، ستكتشف حقيقة مخفية حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. صمم وزير الخزانة الأمريكي السابق هنري مورغنتاو الابن خطة تسمى خطة مورغنتاو في عام 1943 لإزالة الصناعة الألمانية وتحويلها إلى “دولة رعوية” تفتقر للطاقة والغذاء والتكنولوجيا، وهي دولة لا يمكن أن تشن حربًا أخرى أبدًا. بمعنى آخر، كانت الخطة هي جعل ألمانيا دولة نامية مُستعمرة بُنيويّا، وتعتمد بشكل دائم على الغرب. هل يبدو ذلك مألوفًا؟
تم تنفيذ خطة مورغنتاو فور انتهاء الحرب واستمرت حتى عام 1947 عندما تم إيقافها فجأة، واستبدالها بخطة مارشال المعاكسة تمامًا لها، والتي وصفها إيريك س. راينيرت بشكل صحيح بأنها خطة تصنيع بدلاً من خطة مالية (مساعدة). تم تصميم خطة مارشال بشكل صريح لإعادة قدرات ألمانيا الصناعية إلى مستوى عام 1938 وتمهيد الطريق لتكون قوة صناعية مزدهرة اقتصاديا ويمكنها مواجهة التهديد السوفياتي. ونرى جميعنا اليوم نتائج تلك السياسة.
يجب أن نذكر أن خطة مارشال كانت تمثل حوالي 5٪ من ناتج الولايات المتحدة المحلي في ذلك الوقت. بتكلفة تقريبية لأكثر من 1.5 ألف مليار دولار (بالدولارات الحالية لسنة 2023)، وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت تكلفتها مرتفعة جدًا وبعد الأزمة الاقتصادية التي سبقتها والتي سُمّيت بالكساد الكبير. لذا عندما يقول شخص ما من حكومة الولايات المتحدة إن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل تعويضات المناخ اليوم، لا يمكننا إلاّ التنديد بكذبهم المفضوح. في سياقنا الحالي، يمكننا على الأقل أن ننتظر نوعًا من المعاملة المتناسبة، واستعمال هذه السابقة التاريخية لدعم مطالبنا في ما يخص الديون الاستعمارية وديون المناخ: دول الشمال مدينة نحو شعوب الجنوب بديون المناخ والديون الاستعمارية والديون ما بعد الاستعمارية!

في الختام، يجب أن نناضل من أجل إلغاء ديون دول الجنوب وتوجيه استثمارات استراتيجية (عبر منح وتعويضات بدلاً من قروض) في السيادة الغذائية والزراعة البيئية والطاقات المتجددة وسياسات التصنيع ذات القيمة المضافة العالية. لمزيد من المعلومات حول ذلك، يمكنك قراءة هذا التحليل الممتاز من صحيفة “ذا جارديان”، “رأي ذا جارديان حول المعجزة الاقتصادية الألمانية: لقد بُنيت على إلغاء الديون!”
نتمنّى إذن لألمانيا عيد إلغاء ديون سعيد بمناسبة الذكرى السبعين لاتّفاق لندن! وتحية خاصة للنشطاء الشجعان في “الديون من أجل المناخ” الذين لديهم الآن فروع في جميع أنحاء العالم، يدعون فيها ألمانيا لرد الجميل بخصوص إعفاءها من الديون الذي تلقته من الجنوب العالمي، ولتقود الشمال العالمي في هذا الصدد في سياق أزمة المناخ.

الرابط الأصلي للمقال : هنا

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !