كرة القدم: لعبة الفقراء التي سرقها الأغنياء

بقلم عيادي العامري
باحث في قسم الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، ومشارك في تأسيس المقهى الفلسفي، ناشط اجتماعي وسياسي.


كرة القدم: لعبة الفقراء التي سرقها الأغنياء

ما الذي يدعو الحزين إلى الغناء؟

وما الذي يأتي بشاعر مثلي إلى احتفال كهذا؟

اللعب.. زيارة قصيرة إلى عالم بديل

ساعتان من المساواة والعدل

فلا ترى فريقا يلعب بأحذية نفاثة مثلا، وفريقا حافيا

ولا فريقا مسموحا له بالركض في طول الملعب وعرضه

وآخر يحتاج لاعبوه تأشيرات ليجتازوا خط الوسط

وعندما تكون الكرة في الميدان فالتسديد مسموح به للفريقين.

تميم البرغوثي

من منا لم يمارس في طفولته كرة القدم؟ ربما ستكون هناك استثناءات بطبيعة الحال، لكن السواد الأعظم ستعود به الذاكرة إلى لحظات شغف حقيقي. تلك الكرة البسيطة التي يملؤها الهواء ويلفّها الجلد هي كل ما كنا نحتاجه لنلعب، وهي كل ما احتاجه العمال في ساحات وشوارع انجلترا في القرن التاسع عشر ليمارسوا هذه الرياضة، والتي كان يناسبها بهذا الشكل أن تُسمّى لعبة الفقراء. ما الذي بقي من لعبة الفقراء اليوم؟! هذا هو السؤال الذي سنحاول الانطلاق منه لفهم الوضعية الحالية التي حوّلت لعبة الفقراء إلى سوق للبيع والشراء بأرقام  فلكية. وللإجابة على هذا السؤال ينبغي علينا زيارة عدة تمفصلات قد تساعدنا في الإلمام بموضوع يبدو بلا ضفاف.

صورة لكرة القدم في أحياء العمال البريطانيين في القرن التاسع عشر

  الاحتراف، مسارات تطور وهيمنة

بوصفها لعبة، لم تتجاوز كرة القدم حيز كونها هواية يمارسها الناس في أوقات فراغهم إلا في أواخر القرن التاسع العشر. في ذلك العصر لم يتجاوز تأثير كرة القدم تلك الأحياء والشوارع الفقيرة حيث تلتقي مجموعات من العمال للعب وتمضية الوقت بشكل لا يكلفهم الكثير من المال. في بداية القرن العشرين، بفضل الشهرة التي بدأت تكتسبها هذه الرياضة إثر نقلها إلى  معظم المستعمرات، عجّلت “عولمة” ذه الرياضة في تحويلها إلى مجال يحتاج للتنظيم، وبالتالي للسيطرة السياسية والقانونية.

 في باريس، ومع بداية القرن العشرين تم تأسيس الإتحاد الدولي لكرة القدم، والذي كان بمثابة عملية مأسسة “لعبة الفقراء” وتحويلها إلى لعبة محترفة تتطلب جملة من الشروط، ولها مقتضيات تنظيمية وقانونية محددة لا يمكن لأي بلد أو فريق أن يتجاوزها تحت أي داع.

 لهذا التحول في طبيعة الشروط التنظيمية والقانونية للعبة مسارات متوازية تنقسم إلى قسمين:

 من جهة، يمكن أن نلحظ التطور التقني والفني الذي تحقق بفضل هذه المؤسسات الدولية والمحلية التي نظمت اللعبة وجعلت منها «نظاما رمزيا» عالميا يفهمه القاصي والداني.

 من جهة أخرى، نجد أن هذه التحولات التنظيمية والقانونية شكلّت أساسا في تحول كرة القدم إلى مجال للهيمنة الرمزية والمادية، يضاف إلى فقدانها الطابع الهاوي والعفوي والشعبي، لتصير مجرد منتوج اقتصادي إعلامي وتسويقي، بل وسياسي يخترق أنسجة الشعوب بشكل يغلب عليه الطابع الاستعراضي والسلعي.

صورة للاجتماع التأسيسي للإتحاد الدولي لكرة القدم في باريس

الكولوسيوم الحديث، الحلبة من جديد

 لكل زمن حلبته الخاصة. فمنذ القرن الثالث قبل الميلاد، في قلب الإمبراطورية الرومانية، كانت الحلبة مكانا لصناعة الفرجة وإثارة الجماهير عبر مشاهدة قتال المصارعين مع خصومهم من البشر أو من الوحوش. إن هذه البنية الفرجوية، لم يتغير فيها الكثير في الجانب المتعلق بالوظيفة الاجتماعية، فمثلما كانت الحلبة مكانا للفرجة،فإنّ ملاعب الرياضة في الزمن الحديث تلعب نفس الوظيفة وتقدم متنفّسا للمواطنين.

 لم يغيّر الاختلاف في طبيعة اللعبة الكثير، تحديدًا تحقيق الوظيفة المتعلقة بخلق مجال للعوام يستطيعوا من خلاله إيجاد متنفس لمصاعب الحياة ولتصعيد العنف بشكل مقبول اجتماعيا في شكل تعصب أو فن أو طقوس انتماء لمجموعة بشرية.

 لم تعد دماء المصارعين هي التي تقوم بإرضاء “المواطن الحديث”، بل صارت الأهداف الجميلة وسرعة اللاعبين وتقنيات اللعب هي ما يثير الجماهير. وهذا التحول في طبيعة اللعبة يناسب تماما الشكل الحديث للإنسان الذي نحتته الحضارة والقوانين المدنية التي تحفظ كرامة اللاعب وسلامة ذوق الجمهور. لكن هذه الإيجابية التي تحظى بها كرة القدم مقارنة بحلبات المصارعة الرومانية لا تخفي شكلا آخر من التشابه. فمثلما يحظى جمهور روما بالحصرية في رؤية أفضل المصارعين، يحظى جمهور أوروبا بوصفها “معقل الامبراطورية الغربية” بشكل من الحصرية التي جعلت منها مركزًا لجلب أفضل اللاعبين إلى ملاعبها، ولهذه “الحصرية” مقوماتها وأسبابها.

 تتعدد الأسباب وتتداخل، لكنها تلتقي في حقيقة مفادها أن باقي دول العالم والدوريات المحترفة لم تكن سوى شكلًا من تجهيز اللاعبين للحلم بالذهاب ناحية الحلبة الرومانية الحديثة. الفالمجال الذي يصير فيه اللاعب مرئيا ومحترفا ونجما بشكل كامل هو الملعب الأوروبي، هناك حيث توجد بيئة مناسبة ليحظى بالاعتراف والتقدير. هذه الهيمنة الأوروبية على صناعة نجوم كرة القدم، وعلى صناعة معايير النجاح والفرجة لم تكن في خطر بالشكل الذي تواجهه اليوم. وربما هذا ما جعل من الاتحادات المحلية للعبة والاتحاد القاري (الاتحاد الأوروبي لكرة القدم) يوجه سهام نقده ناحية من يحاولون بناء “كولوسيوم” خارج أوروبا، وتحديدا دول الخليج بدرجات مختلفة.

 كرة القدم داخل السوق

 يحكم قانوناالعرض والطلب سوق كرة القدم، وهذه العلاقة المترابطة والميكانيكية زادت حدتّها مع ازدياد الحاجة لتحويل كرة القدم إلى منتج بدوره. هذا المنتج يجد لنفسه شريحة كبيرة لتستهلكه. هذه السلعة التي تجد زبائنها في كل حين تجد من يستثمر فيها الأموال الطائلة، فهي وعد دائم بالربح. وهذا ما ينطبق تماما على حال العلاقة بين صناديق الاستثمار الخليجية وبين الأندية الأوروبية. إذ شهدت هذه العلاقة ازدهارا لا مثيل له منذ العشرية الأولى لسنوات الألفية. حيث عمدت دول خليجية ورجال أعمال من جنسيات أخرى لشراء الأندية العالمية. ما يجمع بينهما هو البحث عن ربح مادي في شكل ريعي لا يحتاج لمخاطرات الصناعة وغيرها من قطاعات غير مضمونة. تستعمل دول الخليج (السعودية، الإمارات، قطر)، صناديق استثمارية تابعة للدولة لشراء الأندية، وهذا الشراء لا يعود فقط بالأرباح المادية الطائلة، بل يأتيها بماهو أكثر أهمية، نعني بذلك القوة الناعمة التي تجعل لهذه الدول قدرة تأثيرية كبيرة في قلب أوروبا.

شهدت هذه العلاقة فترات مد وجزر، إذ تنقسم القارة الأوروبية والعقل الإعلامي والرياضي والسياسي الخاص بها بين مساند ومعارض، فبين الأرباح المادية والقوة المالية الوافدة وبين فقدان التبعية التنفيذية والرياضية لرؤوس المال الأوروبية تقع جزر المساندة والمعارضة.

إباّن كأس العالم الذي نظمته قطر، والذي جعلها في مربع ضوء الإعلام الرياضي العالمي، وبعد النجاح الباهر الذي حققته هذه الدولة الصغيرة جغرافيا، ازدادت قناعة القيادة السياسية في السعودية المجاورة لها بضرورة اغتنام الفرصة كاملة واستغلال هذه القوة الأسطورية المعاصرة التي يٌطلق عليها “لعبة كرة القدم”.

 لم يمنع التاريخ ولا الجغرافيا الخاصة بكرة القدم أعظم لاعبي العالم من القدوم للدوري السعودي، أو ’دوري روشن‘ كما تم تسميته، بل توافد اللاعبون تباعًا ناحية الكولوسيوم الجديد، وهذا سيكون أمرًا منتظرا ليس بسبب المال وحده- كما يقول كريستيانورونالدوفي تصريح إعلامي- بل لأن اتحاد كرة القدم السعودي “يمتلك رؤية استراتيجية لتنمية هذه اللعبة في البلاد”.

 قد يكون كلام رونالدو صحيحًا، وقد يكون المال ليس السبب الوحيد لقدومه، لكنه السبب الأساسي الذي يجعل من كرة القدم اليوم مجرد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب. فزمن الأساطير قد ولّى، ليس بسبب فقدان اللاعبين الإيمان بقوة الانتماء لفريق ولراية، بل لأنّ بنُية كرة القدم المحترفة تقوم على تحويل كرة القدم لأمر هامشي أمام المداخيل المالية المخيفة التي توفرها المدارج وقنوات البث وبيع الأقمصة. إن ضغط هذه الموارد وإغراءاتها كافية لتحويل لعبة الفقراء الى  سوق للأثرياء.

 ليس سبب اللعب في أوروبا حُبُّ في نواديها، وليس اللعب في باريس سان جرمان وفاء لروح الثورة الفرنسية، هي فقط اغراء السوق وبحث عن المرئية التي توفرها ملاعب أوروبا، أما عن اللعب في أمريكا فهو ليس بكل تأكيد دفاعا عن الديمقراطية أو تقدير التاريخ الكروي لشعب “الهنود الحمر”.


من الإنصاف بمكان أن لا نلغي الإمكان الكامن في كرة القدم في أن تكون لعبة لها أبعاد إنسانية وتؤسس في شطر منها لأشكال من المقاومة للسلعنة ولرغبة رأس المال المستمرة في جعلها مجرد “حالة اقتصادية”.

الألتراس، ضمير في الملعب

يمثل الجمهور جزءًا من كرة القدم المعاصرة، وتمثل مجموعات الألتراس القلب النابض لهذه الجماهير، ونجد في تاريخ هذه المجموعات أشكالا متعددة من «مبادئ المقاومة» ومن صيغ الانحياز للقضايا العادلة التي تعبر عنها هذه المجموعات بطرق فنية متنوعة ومتعددة.

في الوطن العربي على سبيل المثال، ساهمت هذه المجموعات في تعميق الوعي الشعبي بالقضايا العادلة وفي مقدمة هذه القضايا تلك المتعلقة بالتحرر الوطني من الاستعمار ومن الاستيطان الصهيوني، إضافة لانحيازها المبدئي لقضايا العدالة الاجتماعية، وهذا ما تعزز إبان الثورات العربية حيث مثلت هذه المجموعات صوتا حرا ومقاوما لأجندة السلطة.

تستعمل هذه المجموعات الأهازيج والصور والأغاني لتعبّر عن آرائها وعن انحيازها لكرة قدم تدافع هوية أنديتها ولاعبيها عن قضايا عادلة ومبادئ مضادة لسلعنة كرة القدم.

تنتشر ثقافة الألتراس في العديد من البلدان، وخاصة دول الجنوب، وتنتمي الشبيبة التي تشارك في هذه المجموعات إلى فئات اجتماعية هشة؟  تسعى هذه المجموعات إلى أن تُحوّل المشترك الرياضي ومنصات الجماهير إلى حقل مقاومة حيوية لأشكال القهر والظلم الاجتماعي والسياسي، وهي بذلك تدافع عن  كرة قدم مضادة للسلطة، ولو بشكل جنيني وغير منظم.

ليست الجماهير ومجموعة الألتراس وحدها التي تحاول الدفاع عن هوية مقاومة للسلعنة التي تطال كرة القدم، بل هناك العديد من الأمثلة التي كانت فيها المنتخبات الوطنية ونجوم كرة القدم في صف القيم الإنسانية وفي خدمة القضايا العادلة التي تشكل جوهر الرياضة بوصفها شكلا من المشاركة والمتعة.


دخلة مجموعة أولتراس تابعة لجمهور الافريقي عند مواجهة فريق باريس سان جرمان سنة
2017 : وقد كتب على اللافتة القماشية: “خلقها الفقراء، سرقها الأغنياء”، في إشارة لرياضة كرة القدم

صلاة دروغبا لإنهاء الحرب

لنا في تجربة منتخب ساحل العاج بقيادة نجمه ديديه دروغبا خير دليل على إمكانية المساهمة في إنهاء حرب أهلية (ولو بصفة وقتية)، قسمت البلاد إلى  نصفين.

خلد تاريخ كرة القدم يوم 8 أكتوبر 2005، حيث حقق منتخب ساحل العاج ترشحه الأوّل لكأس العالم، لكن ما جعل ذلك اليوم لا يمحى من تاريخ الإنسانية تلك الكلمات التي قالها ديدييه دروغبا وهو جاث على ركبتيه أمام الكاميرا ومن خلفه جميع “نجوم” ساحل العاج :

“يا رجال ونساء ساحل العاج، في الشمال والجنوب والوسط والغرب، أثبتنا اليوم أن بإمكان العاجيين أن يتعايشوا في سبيل هدف مشترك… أرجوكم ألقوا أسلحتكم”.

كانت تلك الكلمات، وذلك الترشح خطوة عملاقة في نجاح مسار المفاوضات التي تهدف لوقف الحرب الأهلية والمساهمة في عودة السلام لبلد أرهقته الحرب.

بعد عودة المنتخب من كأس العالم، أعلن دروغبا عن رغبة المنتخب الوطني في لعب المباراة القادمة خارج العاصمة أبيدجان، ليتم نقل مكان المباراة إلى ’بواكيه‘ عاصمة المتمردين، في حركة رمزية لتخفيف كل أشكال التوتروللمساهمة في بناء  الثقة بين الأقاليم المتنازعة.

ديدييه دروغبا يلقي التحية على الجماهير في “بواكيه” عاصمة المتمردين

إن نجاح تجربة منتخب ساحل العاج، وتوظيف  نجومية ديديه دروغبا[1]  فيما قد ينفع أمّته ليس سوى بديل ممكن يحتاج من اللاعب الكثير من الشجاعة والنبل والشعور بالانتماء. فهذه المحاولات والنجاحات هي ما يحتاجه “الكولوسيوم المعاصر/عالم كرة القدم” لتصير قصة تستحق أن تروى في المستقبل. فلا مستقبل لما يكون في معزل عن قضايا الشعوب وهمومهم بما في ذلك “نجوم” كرة القدم.


تصميم صورة المقال: تسنيم الولهازي

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !