رأي | تهالك الصّحة العموميّة وتهرّم المجتمع: منحنيان يتقاطعان في مأساة

بقلم منذر سوودي
مدافع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية

سلّطت أزمة كورونا الضوء على مسألة السياسات الصحية المتبّعة من قبل مختلف دول العالم. وتباينت التوجّهات بين حكومات وضعت الصحة في أعلى سلّم الأولويّات على حساب الأنشطة الاقتصادية وبين حكومات خيّرت عدم وضع حواجز على عجلة الإنتاج على حساب صحة مواطنيها ومواطناتها.

وقد وقعت وطأة الجائحة على سكان تلك الدول بدرجات متفاوتة، ولعلّ العمر من بين محدّدات تلك التفاوتات، فوفقا لتقرير لمنظمة الأمم المتحدة حول تأثيرات الكورونا على المتقدّمين في السنّ مثّلت نسبة الوفيات من جائحة كورونا خمسة أضعاف المعدّل العام لكل الشّرائح العمرية.

رغم ما سبق ذكره إلّا أن العلاقة بين التقدّم في السنّ والحالة الصحية ليست اكتشافًا وليدًا لجائحة كورونا. اذ تعتبر منظمة الصحة العالمية أنّ التقدم في السنّ مرتبط بتراجع تدريجي في القدرات البدنية والعقلية، بالإضافة إلى تزايد احتمال الإصابة بالأمراض والوفاة في النهاية[1]. وهذا ما يجعلنا نقوم بمحاولة لمقارنة بين مستقبل التغيّرات الديموغرافية في تونس وما تنتهجه الدّولة في علاقة بالسياسات الصحية.

في تونس، وفقًا للإسقاطات الديموغرافية (التوقّعات المستقبلية) الّتي أنجزها المعهد الوطني للإحصاء خلال سنة 2015، يتضّح أنّ السّنوات القادمة ستحمل تغييرًا جليًّا في الهرم العمري، اذ سيتضاعف عدد السكان المنتمين للشريحة العمرية البالغة 60 سنة فما فوق إلى الضّعف. فبعد أن كانت تمثل نسبة هذه الشٍّريحة خلال سنة 2014، تاريخ آخر مسح أنجزه المعهد، 11.7% من إجمالي عدد السكان، ستبلغ نفس النّسبة 22.6% في سنة 2041، أي بنسبة تطوّر تفوق الـ93%.

وتجدر الإشارة إلى أنّه وفقا لنفس التوقّعات فإن معدّل الحياة عند الولادة سيرتفع ليبلغ 79.5 سنة لدى الذّكور و82.4 سنة لدى الإناث خلال سنة 2044، بعد أن كان المعدّل لا يتجاوز الـ74 سنة لدى الذكور والـ79 سنة لدى الإناث خلال سنة 2014.

إنّ هذه التغيّرات الديمغرافية تنبئ بتوسّع الشّريحة الّتي تعتبر المستهدف والمستفيد الأوّل من سياسات الصحة، وذلك باعتبار علاقة ترابط بين التقدم في السّن وقابلية الإصابة بالأمراض، خاصّة منها الأمراض المزمنة على غرار مرض السكّري ومرض ضغط الدم وغيرهم.

في مقابل هذه التوقعات المستقبلية في علاقة بالتركيبة السكانية، والّتي ستحمل تأثيرًا مباشرًا على قطاع الصحّة، يُطرح السؤال التالي: أيّ توجّهات ستنتهجها الدولة للتّأقلم مع هذه التغيّرات؟

أصدرت وزارة الصحة مخطّطا للسياسات الوطنية للصحة 2030. لم يحتو هذا المخطط على أرقام واضحة ومفصلة حول ما ستكون عليه البنية التحتية والموارد البشرية والتجهيزات ببلوغ تلك السنة بما يمكّن من تقييم مدى تطبيق الأهداف المرصودة، بل حمل توجّهات عامة من قبيل العمل على تقريب الخدمات الصحية من المواطنات والمواطنين وإرساء أكثر عدالة في الولوج لتلك الخدمات.

إن الأرقام المسجلة خلال السنوات الأخيرة تظهر تناقضا تامّا بين تلك التوجهات والأهداف المرصودة من جهة والمستقبل الّذي يتجه نحوه واقع الصحة العمومية من جهة أخرى. تشير المعطيات إلى أنّ قطاع الصحة يسير في تناغم مع السياسات العامة للدولة، والّتي تنتهج خيارًا مرتكزًا على إجراءات التّقشف والتقليص من كتلة الأجور والخفض من الإنفاق العمومي؛ وذلك في إطار الاتفاقات الّتي أبرمتها مع الجهات المانحة على غرار صندوق النقد الدولي.

وفقًا لآخر خارطة صحيّة نشرتها وزارة الصحة سنة 2019، يمكن ملاحظة أنّ الخط الأوّل من البنية التحتية للصحة العمومية، والمتكون من المستشفيات المحلية ومراكز الصحة الأساسية، قد شمل تطوّرا بسيطا بين سنتي 2011 و 2019، حيث تمّت إضافة مستشفى محلي وحيد ليصبح العدد 110 مستشفى محلي خلال سنة 2019 مقابل 109 مستشفى خلال سنة 2011. أمّا بالنسبة للمراكز الصحة الأساسية فالملاحظة الأولية قد توحي بتقدم ملحوظ، اذ بلغ عددها خلال سنة 2019 الـ2161 مركزا مقابل 2091 مركزا خلال سنة 2011 أي بنسبة تطور تفوق الـ4%، إلّا أن هذا التطور ورغم إيجابيته الظّاهرية يعتبر تطورًا سلبيّا، فقد بلغ عدد السكان لكل مركز صحة أساسية 5358 ساكنًا خلال سنة 2019 بعد أن كان 5301 خلال سنة 2017؛ أي أن كل مركز صحة أساسية ألقي على عاتقه مسؤولية 57 ساكنا إضافيا خلال ثلاثة سنوات فقط.

يُعتبر الخط الأول للصحة العمومية المسؤول المباشر عن ضمان الصحة العمومية للفئة العمرية البالغة من السّن 60 عاما فما فوق، باعتباره موجّها للتعامل مع الأمراض المزمنة أساسا.

بالنّسبة للخطّين الثاني (المستشفيات الجهوية) والثالث (المستشفيات الجامعية) فالوضعية تعتبر أكثر قتامة، ففي حين لم يتغيّر عدد المستشفيات الجامعية وبقي يضم 32 مستشفى جامعي، تراجع عدد المستشفيات الجهوية من 33 مستشفى جهوي خلال سنة 2011 إلى 31 مستشفى خلال سنة 2019 أي بنسبة تطور سلبية تفوق الـ6-%.

أما بالنّسبة للموارد البشرية لوزارة الصحة فالأمر لا يختلف كثيرا. اذ أنّه في الوقت الّذي ارتفع فيه عدد الأطبّاء العامّين من 3314 خلال سنة 2017 إلى 4425 خلال سنة 2019، تراجع عدد أطباء الإختصاص من 3339 إلى 2318 خلال نفس الفترة أي بخسارة حوالي الثّلث (30.57-%).

أمام هذا التقهقر في القطاع العام من ناحية البنية التحتية والموارد البشرية تجدر الإشارة وأنه خلال نفس الفترة بين 2011 و 2019 شهد القطاع الخاص طفرة من حيث المؤسسات (المصحات الخاصة، مراكز التصفية، المخابر…). فقد بلغ إجمالي العدد 2976 مؤسسة خلال سنة 2019 بعد أن كان يعدّ 2406 في 2011، أي بنسبة تطور تفوق 23%.

إنّ تراجع خدمات القطاع العام أمام تقدّم ملحوظ للقطاع الخاص ليس حصرًا على قطاع الصحّة فقط، ففي كل القطاعات انتهجت الحكومات المتتالية نفس السياسات تحت مسمّى “الإصلاحات” والّتي ترتكز أساسا على تقليص كتلة الأجور من خلال تجميد الإنتدابات وتسريح الموظفين العموميين. وفي علاقة بالأطبّاء، كان وزير الصحّة قد أصدر في 2018 منشورا (تطبيقا لمراسلة رئيس الحكومة يوسف الشّاهد) تحفّز الأطباء على المغادرة “الطوعية” للوظيفة العمومية، وهو ما يمكن أن يفسّر تضاعف نسبة التطوّر السالب في عدد أطباء الإختصاص بين الفترة الممتدة طوال السنة الّتي سبقت إصدار المنشور (10-%) والسّنة الّتي تليه (22.9-%).

يحدّد الهرم العمري للسكان توجّهات الإنفاق العمومي في الدولة ولو بنسب متفاوتة بين دولة وأخرى حسب التوجهات الإقتصادية العامة الّتي تنتهجها تلك الدول، لكن الثّابت أن الثلاثة محاور العامة للإنفاق: التربية والتكوين، الاستثمار، والصحة، مرتبطة بالتقسيم العمري، فاتّساع قاعدة الهرم العمري تقتضي توجّها لتدعيم قطاع التربية والتكوين، في حين أن إتساع وسط الهرم يدفع نحو توجيه مزيد الإنفاق في الإستثمار، أمّا الهرم العمري المتهرّم يعتبر دافعا لمزيد تدعيم قطاع الصحة، حيث كما أشرنا سابقا تُعتبر هذه الشريحة المستفيد الأكبر من قطاع الصحة.

قد يوحي هذا المقال بطريقة مباشرتيّة أنّ المتقدّمين في السنّ يمثّلون الحلقة الأكثر إستهلاكًا في الاقتصاد باعتبارها فئة غير منتجة كالشباب والكهول، وفئة ليست في مرحلة تنشئة وتحضير للإندماج في سوق الشغل والإنتاج كالأطفال. إلّا أن تلك القراءة تعتبر سطحية، ففي مجتمعنا اليوم الّذي وصل فيه نمط الإنتاج إلى إستغلال الإنسان وسرقة جلّ وقته سواءً من خلال ساعات العمل أو من خلال السّاعات الطّرفية للعمل (ساعات التّنقل للوصول لمكان العمل، ساعات تجهيز مستلزمات العمل… إلخ)، أصبحت تربية الأطفال وتنشئتهم تُلقى شيئًا فشيئًا على عاتق الجدّات والأجداد، وبذلك يكون لهم دور مفصلي في صناعة الجيل القادم الموجّه لصناعة الثروة، أي أنّه لا يمكن تغييب دور المسنّين في الإنتاج الاقتصادي ولو كان ذلك الدّور غير مباشر.


[1] مفهوم التقدم في السن (الشيخوخة) “من المنظور البيولوجي، يحدث التقدم في السن نتيجة تراكم طائفة واسعة من أوجه التلف في الجزيئات والخلايا مع مرور الزمن. وهذا ما يؤدي إلى تراجع تدريجي في القدرات البدنية والعقلية، وتزايد احتمال الإصابة بالأمراض والوفاة في النهاية. وهذه التغييرات ليست خطية وﻻ متسقة، وتكاد ﻻ ترتبط بعمر الشخص بحساب السنوات. والتنوع الملاحظ في التقدم في السن ليس عشوائيا. فإلى جانب التغيرات البيولوجية، غالبا ما يرتبط التقدم في السن بأحداث أخرى تطرأ في الحياة مثل التقاعد، والانتقال إلى مسكن أنسب، ووفاة الأصدقاء والشريك.” من موقع منظمة الصحة العالمية.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !