رأي | دستورٌ ملغوم وسيناريوهات لا ينفع معها خيار “أخفّ الضرريْن”

بقلم غسان بن خليفة

بداية وجب التذكير ببعض “البديهيّات”:

  • بالنسبة لمن يعلنون انحيازهم لقيم العدالة الاجتماعية والسيادة الشعبية والوطنية (خاصّة ممّن يتبنّون المنهج المادي التاريخي والجدلي (أي الماركسي) الثوري)، يفترض أن تكون عدسة قراءتهم لمختلف الأحداث والقضايا: مصلحة الطبقات الشعبية في تناقضها الرئيس مع البرجوازية الكمبرادورية ومن ورائها الامبريالية والصهيونية، أي بعبارة أخرى: أفضل الشروط من زاوية الصراع الطبقي والوطني بالقُطر والمنطقة.

  • لا تُقرَأُ النصوص ولا يُتعامَل معها بمعزل عن السياق الذي كُتبَت ونُشرَت فيه. ولا تشذّ الدساتير والقوانين عن هذه القاعدة. وتختصّ الأخيرة بكونها تعبيرٌ عن ميزان القوى القائم لحظة كتابتها.

  • من مميّزات النصوص المؤسّسة (دستورية، دينية، سياسية والخ) أنّها تُكتَبُ بلغة “عامّة” فضفاضة، بما يسمح بتعدّد تأويلاتها. ويختلف تأويل الدساتير (أو أجزاء منها)، ومن ثمّة تجسيدها في الواقع، من لحظة تاريخية لأخرى باختلاف ميزان القوى في تلك اللحظة.

  • في أشباه المستعمرات – كما هو حال تونس – لا يمكن لأيّ مسار ديمقراطي (ليبرالي وبشروط الامبريالية بالضرورة) أو عملية انتخابية (بما في ذلك الاستفتاءات) أن تفضي إلى تغييرات جذريّة لصالح الشعب (أي الطبقات الشعبية)، إذا لم تكن تتويجًا لثورة منتصرة وذات مضمون معادٍ للبرجوازية والامبريالية. وهو ما لم يحصل بعد في تاريخ تونس الحديث. ومع ذلك، يحقّ للثوريين أن يقدّروا في بعض الحالات أنّ في المشاركة في هذه الانتخابات أو تلك امكانيّة لتحسين شروط الصراع الطبقي والوطني. كما يمكن لهم أن يستنتجوا في حالات أخرى أن لا أثر ملموس ولا منفعة يمكن أن تحصل من مشاركتهم.

    على قاعدة هذه المرتكزات، يمكن قراءة نصّ مشروع دستور قيس سعيّد ووضعه في السياق الذي جاء فيه.

    ملاحظات حول التوطئة:

    – لا حاجة للتركيز كثيرًا على الأسلوب الانشائي الضعيف الذي كُتبت به التوطئة. الأهمّ فيها هو:

    – إغفال صاحبها لكلّ نضالات الشعب التونسي ضدّ الظلم والاستبداد واللامساواة بين “الاستقلال” و17 ديسمبر 2010.

    – لماذا “نحن شعب يرفض دخول دولتنا في تحالفات في الخارج”؟ قد يرى البعض فيها رفضًا للانخراط في “سياسة المحاور” (تحديدا المحاور المعادية لشعوب الوطن العربي)، لكن من قد يأتي لاحقًا يمكنه التذرّع بها لرفض الانخراط في تحالفات لصالح هذه الشعوب. كما أنّه لا معنى لإعلان هذا المبدأ طالما لم يبادر كاتبه إلى تفعيله عبر فكّ ارتباط تونس بحلف النيتو تحديدا.

    – التمسّك بالشرعية الدولية في سياق ذكر القضية الفلسطينية، هو للأسف تمسّك خشبي بالخطاب البورقيبي الذي لطالما سوّق لقبول الكيان الصهيوني كأمر واقع في أرض فلسطين وقلب المشرق العربي. لا أفهم كيف بادر بعض أنصار الرئيس والمبرّرين له إلى الاحتفاء بهذه الجملة واستنتاج أنّها تمنع أيّ عملية تطبيع مع العدوّ الصهيوني مستقبلًا (هذا دون حاجة الى التذكير بأنّ التطبيع هو أمر واقع اليوم وبتغطية وتواطؤ من كاتب هذا الدستور، وإن لم يصل بعد درجة الاعتراف الرسمي). لو كانت نيّة سعيّد التمهيد لتجريم التطبيع (كما يزعمون) لاستعمل عبارة عامّة أخرى من نوع: ويرفض الشعب التونسي إقامة أيّة علاقات مع كلّ كيان عنصري أو استعماري. أمّا الاستناد إلى الشرعية الدولية فهو يعني ببساطة الاعتراف بما يُسمّى “حلّ الدولتين”، أي بحقّ “إسرائيل” في الوجود على 80 بالمائة من أرض فلسطين.

    – في آخر سطر من التوطئة، يحرّف سعيّد بعض الوقائع التاريخيّة: الشعب التونسي رفع خلال ثورة 17 ديسمبر (وليس يوم 17 ديسمبر) شعار: “الشعب يريد اسقاط النظام”، ولم يرفع ذلك الشعار المُبهم “الشعب يريد”. ربّما لم يجرأ صاحب الدستور على كتابة الشعار الحقيقي لكونه، رغم كلّ مناقبه (مقارنة بمن سبقوه)، يظلّ ابنًا شرعيًا لذلك النظام (الذي أسّسه بورقيبة)، ولا يريد اسقاطه، بل ترميمه وتحسينه فحسب.

    – بالمقابل هناك بعض نقاط إيجابية وردت في التوطئة، مثل: الإشارة إلى أهميّة أن تكون الديمقراطية اقتصادية واجتماعية، لا فقط سياسية، رفض التدخل الأجنبي في شؤوننا الداخلية، حقّ المواطن في الاختيار الحرّ ومساءلة من ينتخب، الحقّ في التوزيع العادل للثروات الوطنية والخ. ورغم إيجابيتها مبدئيا، فإنّ الصيغة العامّة التي وردت بها تجعلها رهينة شرح آليات تجسيدها.

    ملاحظات حول أهمّ الفصول:

    – على عكس بعض اليساريين والليبراليين، لم يسترع الفصل الخامس اهتمامي كثيرًا. فبعض الآراء التي صوّرته على أنّه تجسيد لرؤية دينيّة متشدّدة (عبر ذكر ابن تيمية) تعبّر عن مبالغة بتقديري. اذ يجب التذكير مجدّدا بالسياق الذي يُكتب فيه هذا الدستور: محاولة سعيّد تحجيم حركة النهضة ومنعها وغيرها من استعمال الدين كمصدر لشرعيّتها وجماهيريتها. لكن بالمقابل، يحقّ للبعض التخوّف من التأويل المتعسّف لهذا الفصل (تحديدا حفظ الدولة للدين) إذا ما وصل الإسلامويّون مجدّدا، أو محافظون غير حركة النهضة، يوما ما للحكم.

    – الفصل 16: جيد في مضمونه، إذا ما استثنينا الإشارة الى “مجلس الجهات والأقاليم” الذي لا نعرف شيئا عنه حتى الآن.

    – الفصل 17: تمّ إهمال ذكر القطاع التعاوني. كذلك لم يقع الحديث حتى عمّا يُسمّى بـ”الاقتصاد التضامني الاجتماعي”. وهذا دليل جديد على قصور وضعف الرؤية الاقتصادية لقيس سعيّد.

    – الفصل 18: حصر مشروع الدستور مسؤولية الدولة حيال “العاطلين عن العمل” (لم يستعمل سعيّد عبارة “المعطّلين عن العمل” الدارجة بين الحركات الاجتماعية في تونس رغم مخالطته ايّاها قبل تولّيه الرئاسة) في تمكينهم من “كلّ الوسائل القانونية والمادّية لبعث مشاريع تنموية”. أي أنّ الدولة تتفصّى تمامًا من أيّ دور مباشر لها في انتداب وتشغيل المُعطّلين عن العمل. وهذا يدلّ مجدّدا على قصور الرؤية الاقتصادية لقيس سعيّد. بل وتبنّيه الطرح الليبرالي الذي يرى أنّ مشكلة البطالة تخصّ المعطّلين عن العمل وحدهم وليست مشكلة المجتمع ككلّ. وأنّ دور الدولة لا يتمثّل في وضع مخطّطات وسياسات اقتصادية تتيح لأفراد المجتمع الإنتاج التعاوني (عوض التنافسي) والعمل الجماعي من أجل تحقيق حاجياتهم في قطاعات منتجة وذات قدرات تشغيليّة عالية (تحديدا الفلاحة والصناعة)، بما يضمن حقّ كلّ أفراده في المقوّمات الأساسية للحياة الكريمة (من غذاء وصحة وتعليم ومسكن ونقل وثقافة ومدخول مالي قارّ والخ). بل يقتصر دور الدولة، حسب هذه الرؤية، على تشجيعهم ماديًا وقانونيًا لبعث مشاريع فرديّة (غالبًا في قطاع الخدمات الهشّ والمختنق أصلاً)، وبغضّ النظر عن حقيقة عدم قدرة الجميع أن يتحوّلوا إلى “باعثي مشاريع”.

    – الفصل 26: ماذا يعني أنّ “حرّية الفرد مضمونة”؟ أيّ حرّية تحديدا؟ حرّيته في المعتقد؟ في التعبير؟ في الملكيّة الخاصّة؟ في خياراته الجنسية؟ صياغة هذا الفصل مختصرة أكثر من اللازم.

    – الفصل 29: التنصيص على ضمان حقّ الملكية، دون حتّى الإشارة إلى علوية مبدأ المصلحة العامّة (قد يرد ذلك في القانون، لكنّ التنصيص على هذا المبدأ يستحقّ مكانه في نصّ مثل الدستور). التنصيص في نفس الفصل على ضمان الحقوق الفكرية. لا أعتقد أنّ سعيّد يجهل أنّ الحقوق الفكرية لا تقتصر فقط على الأفراد من المبدعين والمنتجين ذهنيا (كالصحفيين والفنانين والكتّاب وغيرهم)، بل أنّها تشمل كذلك عالم الشركات وما تنتجه من سلع وما تحتكره من “براءات اختراع” والخ. بما في ذلك في مجالات حيوية للبشر كالأدوية وغيرها. وهذا دليل آخر على قصور وضعف ومحافظة الرؤية الاقتصادية لسعيّد.

    – الفصل 66: هذا من أخطر الفصول على العمل البرلماني. ليس واضحًا من سيحدّد ما يدخل في نطاق جرائم “القذف والثلب وتبادل العنف وتعطيل السير العادي لعمل المجلس”؟ وهي تهم فضفاضة يمكن بسهولة التعسّف في تأويلها بهدف إلجام صوت المعارضين…

    – الفصل 68: “لمشاريع رئيس الجمهورية أولوية النظر”. لماذا؟ أين كلّ ذلك الحديث السابق عن “الديمقراطية القاعدية”؟ لماذا يرى صاحب هذا الدستور أنّ رئيس السلطة التنفيذية أولى من نوّاب الشعب بتقديم مشاريع القوانين طالما أنّ كليهما يتمتّع بنفس الشرعية الانتخابية؟ كيف سيكون إذًا تجسيد مبادئ التمييز الإيجابي لأبناء الجهات المهمّشة إذا لم يكن لممثّليهم الأولوية في طرح مشاريع القوانين؟

    – الفصل 69: هو تكرار للفصل 63 سيّء الذكر من دستور 2014. وهو من شروط المؤسسات المالية الدولية ورعاة مصالحها المحلّيين. إذ أنّه يمنع نواب الشعب من المطالبة بتعديل قانون المالية وإدراج فصول تهدف إلى مساندة الطبقات الشعبية أو تعزيز الاستثمار العمومي وما شابه من “غايات خبيثة” وجب التصدّي لها في الدستور. وهو ما يؤكّد مدى خواء دفاع سعيّد أحيانًا عن “الدور الاجتماعي للدولة”.

    – الفصول المتعلّقة بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم (من 81 إلى 86): فكرة جيّدة الحرص على تمثيل الجهات وإعطاء ممثّليها دورًا في رقابة السياسة التنموية للدولة والحرص على عدالتها. لكن لماذا الالتجاء الى مجلس ثانٍ خاصّ بذلك؟ كان بالإمكان تحوير صلاحيات ومهام ممثّلي الجهات في مجلس النواب لتفادي إثقال العمل التشريعي ومزيد بقرطة عملية إصدار القوانين واتخاذ القرارات. وما يزيد من الهواجس بخصوص هذه النقطة عدم توضيح العلاقة بين مجلسيْ النواب ومجلس الأقاليم والجهات والصلاحيات المحدّدة لكُلٍ منهما، بما يحول دون اتخاذ قرار متبصّر حيال هذه المسألة. كذلك، لا توحي الصلاحيات الضعيفة للسلطة التشريعيّة حيال السلطة التنفيذية بإمكانيّة أن يحقّق هذا المجلس مكاسب ملموسة لصالح الجهات المُهمّشة.

    – الفصل 88: لماذا الإصرار على أن يكون رئيس الدولة مسلم؟ وهو ما يتناقض مع ما ورد في الفصل 23 عن المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ومع ما ورد في الفصل 27 بخصوص حرّية الضمير والمعتقد. ماذا عن التونسيين من الطائفة اليهودية أو غيرهم؟ لماذا يُحرمون من أحد حقوقهم كمواطنين؟ أليس في ذلك تكريس لحصرهم في موقع الأقلّية الدينية منتقصة الحقوق (بما يسمح بالمناسبة للصهاينة والقوى الاستعمارية من مزيد اختراق هذه الطائفة وابتزاز تونس حقوقيًا. وهذا موضوع حسّاس يجب أن يُناقش بجرأة وعمق يومًا ما).

    – الفصل 110: لعلّه من أخطر فصول هذا المشروع. إذ يمكن تأويل “لا يُسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه” على أنّها حصانة مدى الحياة لشخص رئيس الدولة وحمايته من المساءلة عمّا قد يرتكبه من جرائم في حقّ الشعب والبلاد خلال تولّيه المسؤولية.
    وبالمناسبة، هذه الحصانة ما بعد الخروج من السلطة كانت ضمن التعديلات الدستورية التي أدخلها الديكتاتور بن علي عام 2002 على دستور 1959.

    – الفصل 112: “الحكومة مسؤولة عن تصرّفها أمام رئيس الجمهورية”. وماذا عن المسؤولية أمام نوّاب الشعب؟

    – الفصل 115: هذا الفصل يعطي شبه حصانة سياسية للحكومة ويجعل من عملية إقالتها مسألة شبه مستحيلة (تقديم لائحة اللوم يتطلب مصادقة نصف أعضاء المجلسين والإقالة تتطلب مصادقة ثلثي أعضاء المجلسين). هذا يعني باختصار تغوّلًا للسلطة التنفيذية على السلطة التشريعيّة.

    – الفصل 139: للوهلة الأولى، يمكن للمرء أن يعتقد أنّ هناك سهوًا من كاتب النصّ عن الإشارة إلى ضرورة أن يُتوّج الاستفتاء بأغلبية المصوّتين بـ”نعم”. الّا أنّ الاطلاع على مسودّة دستور اللجنة الاستشارية الذي أشار إلى هذه المسألة بشكل سليم، يثير التساؤل عن مدى سلامة نيّة صاحب النصّ. أو على الأقلّ يطرح أسئلة جدّية عن مدى قدرته على تقبّل إمكانيّة أن يقع التصويت بـ”لا” على دستوره المُقتَرح.

    استنتاجات حول مشروع الدستور:

تقود الملاحظات المُدوّنة أعلاه إلى استنتاج ما يلي: أنّ صاحب هذا المشروع هو شخص محافظ على عديد المستويات: قانونيًا، ثقافيًا، سياسيًا.. وخاصّة – وهو الأخطر – في المجال الاقتصادي. إذ يحافظ على نفس التصورات النيوليبرالية البالية التي تسبّبت في تدهور الأوضاع المعيشيّة للطبقات الشعبيّة وفي تفاقم تبعية البلاد خلال العقود الأخيرة.

وبالتالي، أعتقد أنّ نصّ هذا الدستور لا يمثّل خطوة إلى الأمام من زاوية مصالح الأغلبية الشعبيّة. بل إنّه سيعزّز من عمليّة بيع الأوهام للمفقّرين بدعوى ضرورة منح النظام السياسي الجديد المزيد من الوقت حتى يرسّخ مؤسّساته الدستورية الجديدة. وحتى إذا نجحت “الجمهورية الجديدة” في إرساء تلك المؤسسات والبدء في تنفيذ بعض مشاريعها الاقتصادية المُعلَنَة (الصلح الجزائي والشركات الأهلية) فإنّ سقفها محكوم بأوهام ليبرالية لا تغني أو تسمن من جوع من فئة “محاربة الريع” و”التشجيع على انتاج الثروة محلّيا” والخ. ففي أفضل الحالات ستكون حلولاً مؤقتة سرعان ما سيصطدم المستفيدون بمحدوديّتها وهشاشتها أمام جبروت آليات التنافس الرأسمالي.

كذلك، يمثّل هذا المشروع تنكّرًا لوعود الرئيس وأنصاره ببناء ديمقراطي قاعدي يقوم على سحب الوكالة والمحاسبة المواطنية لممثّليهم وعلى امكانيّة مبادرة المواطنين إلى اقتراح استفتاءات على قوانين والخ. خاصّة عندما لا نجد أيّ آلية لمساءلة الرئيس أو لعزله عند الضرورة. إذ يمنح الدستور الرئيس صلاحيات شبه مطلقة ولا يسمح بمحاسبته لا خلال فترة حكمه (التي قد تمتدّ إلى عقد كامل من الزمن) ولا بعد انقضائها. وهذا بتقديري من أخطر عيوب هذا المشروع. ولا يمكن الاكتفاء بالوثوق في النزاهة المفترضة للرئيس ومناقبه للاطمئنان إلى عدم استعمال هذه الصلاحيات (من قِبل سعيّد أو ممّن قد يخلفه) من أجل استعادة نظام استبدادي فردي.

ملاحظات حول السياق الذي يرد فيه الاستفتاء على الدستور

بداية وجب التذكير بأنّ الجماهير التي خرجت في 25 جويلية الماضي لم تطالب بدستور جديد، بل طالبت بتخليصها من الكابوس الذي كانت تعيشه، تحديدا في المستويات الاقتصادية والصحّية والسياسية.  ونفس الأمر ينطبق كذلك على انتفاضة 17 ديسمبر التي يزعم سعيّد أنّه قدم لـ”تصحيح مسارها”. وبالتالي فإنّ سعيّد يُصرّ، ككلّ المثاليّين، على قراءة مقلوبة لما يفرضه الواقع من أولويات: يبدأ بتغيير المؤسسات الدستورية والسياسية عوض البدء بتغيير – ولو جزء يسير – من السياسات الاقتصادية والخارجية المتسبّبة في بؤس الناس. بل الأسوأ في الأمر أنّه لا نيّة واضحة له لتغيير تلكم السياسات.

من المحتمل أن تشهد الفترة السابقة للاستفتاء، واللاحقة لها، تصعيدًا في خطاب “محاسبة المتسبّبين في العشرية السوداء” واتخاذ بعض الإجراءات، وربّما حتى تنظيم المحاكمات، الاستعراضية ضدّ بعض رموز حركة النهضة وغيرها، حتى يشفى بعض غليل الشعب من “الأحزاب” ومن “منظومة الانتقال الديمقراطي” التي بات يحمّلها مسؤولية بؤسه. وفي الأثناء، سيتواصل في الواقع “مسار 25 جويلية” الحقيقي. وهو المسار الذي تقوده حكومة نجلاء بودن، بمباركة قيس سعيّد واختياره، والمتمثّل في تنفيذ المزيد من شروط المؤسسات المالية الاستعمارية من سياسات تجميد الاستثمار العمومي والانتدابات ورفع الدعم والخصخصة والمديونيّة غير النافعة وتفقير الشعب والتفريط في سيادة البلاد، خاصة في مجالات الغذاء والنقد والطاقة.

 ويبرّر جزء هامّ من أنصار سعيّد (خاصة في صفوف بعض اليسار) دفاعهم عن خيار التصويت بـ”نعم” بأولوية “تصفية منظومة الانتقال الديمقراطي”، وتحديدًا بأولوية “تصفية حركة النهضة وحلفائها”. وهم بتقديري يساهمون بذلك في عمليّة نشر الأوهام ويراهنون مُغَمضي العينين على شخص ثبت أنّه لا يستمع إليهم ولا يقيم لهم وزنًا. فتغيير المنظومة الديمقراطية الليبرالية السابقة، كما نطالب جميعًا، يجب أن يكون بديمقراطية أكثر تجذرًا وتمثيلا للطبقات الشعبية، وليس بنظام سياسي سيقع فيه تهميش الأحزاب السياسية ككُلّ (عوض سنّ قوانين تمنع تمويلها من البرجوازية والقوى الأجنبية) وتطويع الإعلام العمومي وتهميش المؤسسات التعديلية (كالهايكا ومجلس الصحافة) عوض تعزيز صلاحياتها للحدّ من مساوئ الإعلام الخاصّ وما ينشره من ثقافة تسطيح للوعي ولتقييد تمويل رؤوس الأموال لإعلامهم البرجوازي. بنظام يقرّب السلطة من الشعب عبر إعطائه الأدوات لاقتراح المشاريع على مستوى وطني (مثل المبادرة الشعبية بعرض استفتاءات على قوانين) ومحاسبة من ينتخبونهم (بما في ذلك رئيس الدولة)، وليس بإغراق الناس وحصرهم في التفاصيل المحلّية لجهاتهم مقابل صلاحيات هزيلة لممثّليهم في البرلمان وتركيز السلطة في يد رئيس الدولة وتحصينه من المحاسبة خلال ممارسته الحكم وبعده. إذ من الواضح أنّنا سنكون إزاء برلمان (بغرفتيه) أقرب ما يكون إلى مجلس مناشدة يتنافس أعضاءه على رفع العرائض إلى حكومة الرئيس، على أمل أن ينظر فيها ويتكرّم بإصدار قراراته العطوفة لصالح الرعيّة في هذه المنطقة المُهمَّشة أو تلك.

أمّا التشديد المفرط على “تصفية النهضة” فهو يدخل بتقديري في باب الهوس الحداثوي لدى البعض، وفي تفكير انتهازي لدى بعض آخر يطمع في أن يحقّق غيره ما لم ينجح هو في تحقيقه. وذلك مقابل ثمن باهظ جدًا هو التذيّل لهذا الطرف القويّ والتخلّي عن الهوية السياسية المتمايزة وما تفترضه من نضال دؤوب من أجل بناء القوة المادية والقاعدة الاجتماعية المستقلّة عن السلطة. إذ كيف يُعقَل أن يتحوّل التخلص من حركة النهضة، وهي في أضعف حالاتها شعبيًا وسياسيًا، المحرّك الرئيس للفعل السياسي لدى أناس يزعمون أنّهم مرتبطون بالطبقات الشعبيّة؟ فجميعنا نعلم أنّ ما يهمّ هذه الطبقات هو أساسًا تحسين ظروف عيشها، وأنّ ذلك يمرّ عبر تغيير جذري للسياسات وليس عبر تصوير “محاسبة النهضة” كما لو كانت الحلّ السحري لكلّ مشاكل الشعب والبلاد.

حركة النهضة أفلست وفقدت شعبيّتها بسبب سياساتها التفقيرية واللاوطنية ولاختيارها الدفاع عن مصالح البرجوازية السمسارة والتبعيّة للامبرياليّة وعملائها الاقليميّين. وحتى في حال اختفائها أو حلِّها لن تُعدِم تلك البرجوازية والقوى الامبريالية سبيلًا في إيجاد بديل سياسي للنهضة، طالما لم يتمّ تغيير قواعد اللعبة السياسية: تحديدًا فكّ الارتباط بين تلك القوى من جهة والأحزاب السياسية و”المجتمع المدني” ووسائل الاعلام الخاصّة ومعاهد سبر الآراء والخ من جهة ثانية.

وفكّ الارتباط هذا لا يكون قطعًا بتهميش كافة “الأجسام الوسيطة”، وتحديدًا الأحزاب السياسية، لصالح انتخاب الأفراد في المحلّيات (كما يظهر ممّا هو متوفّر من أدبيات حول “البناء القاعدي”) ولا بتهميش البرلمان لصالح السلطة التنفيذية مُجَسَّدَةً في شخص الرئيس. فالمشكلة في الدستور السابق لم تكن في النظام البرلماني المعدّل تحديدًا، بل في كونه كان نظامًا سياسيًا تحت سيطرة البرجوازية والامبريالية. لكن في انتظار تغيير النظام السياسي ككلّ نحو “الديمقراطية الجذريّة”، كان بالإمكان أن يستغلّ الثوريّون ما يوفّره البرلمان من هامش لنقد سياسات السلطة البرجوازية أمام الشعب بجرأة ولتقديم بدائلهم والدعاية لأفكارهم وبرامجهم. لكنّ من كانوا يزعمون الثورية وتمثيل الطبقات الشعبيّة فشلوا فشلًا ذريعًا في ذلك. ولا أعتقد أنّ النظام السياسي الجديد سيتيح نفس الهامش السابق لممثّلي الطبقات الشعبيّة.

وعندما نرى أنّ السياسات الاقتصادية والخارجية التي انتهجها قيس سعيّد منذ 25 جويلية، بل ومنذ تولّيه الرئاسة، لا تختلف جوهريًا عن سياسات من يحاربهم اليوم، يمكن أن نتوقّع دون احتمال خطأ كبير أنّ البرجوازية والقوى الامبريالية يمكن أن ترى في شخصه وسلطته البديل السياسي المناسب – ولو مؤقتا وبقدر نجاحه في السيطرة على الأوضاع – لرعاية مصالحها خلال الفترة المقبلة.

خلاصة التحليل

ختامًا، نحن اليوم أمام مأزق. فمرور هذا الدستور الملغوم لن يكون في صالح الطبقات الشعبية. لأنّها لن تجني منه غير المزيد من التسويف، وهي قد لا تصبر كثيرًا على استمرار نفس السياسات التفقيرية التي تسطّرها حكومة نجلاء بودن بمباركة من سعيّد (خاصّة مع التأثيرات المتوقّعة للحرب في أوكرانيا على التزوّد بالحبوب وعلى أسعار المحروقات والخ). وبالتالي، في ظلّ هذا الدستور، قد يؤدّي تفاقم الوضع الاجتماعي الى جانب تصاعد المعارضة السياسية، بسهولة إلى ردّ فعل قمعي من سعيّد (بتشجيع واسناد من الأجهزة الأمنية التي بدا واضحًا مدى اعتماده عليها وعلى تقاريرها خلال الفترة الماضية) وإلى مُضيّه في تخيّل، أو تصديق ما سيُقدّم إليه من، سيناريوهات المؤامرة على “الجهورية الجديدة” والخ. وهو ما سيعني ضرورةً التضييق التدريجي على الحرّيات العامّة وعلى العمل السياسي النضالي. كما قد يؤدّي تفاقم الوضع وعجز سعيّد عن السيطرة عليه إلى أن تتخلص البرجوازية والقوى الامبريالية منه وتعويضه بشخص آخر، أقدر على ضبط الأوضاع، يتسلّم الحكم في ظلّ نفس الدستور وما يمنحه من صلاحيات لرئيس الدولة (تصوّروا عبير موسي مثلا) …

أمّا في حال كان التصويت الأغلبيّ بـ”لا” ولم يمرّ الدستور، فإنّ المشهد لن يكون على الأرجح أقلّ قتامة. إذ ليس مرجّحًا أن يستقيل سعيّد مثلا (كما فعل الجنرال ديغول عندما وقع رفضه مقترحه لتعديل الدستور عام 1969)، لأنّه يدرك أنّ استقالته ستؤدّي غالبًا إلى محاكمته. ورفضه الاستقالة أو العودة إلى ما قبل 25 جويلية (وهو في حدّ ذاته سيناريو مظلم) سيشجّع معارضيه على تصعيد حراكهم الميداني. وقد يؤدّي ذلك بدوره الى اضطرابات تضطرّه إلى التحوّل سريعًا إلى ديكتاتور، أو تضطرّ البرجوازية والقوى الامبريالية وأجهزة الدولة العميقة إلى التخلّص منه وتعويضه بحارس جديد لمصالحها مع احتمال ابقائها على دستوره الرئاسوي.

 نحن اليوم إذًا أمام مشهد لا يمكن فيه حتّى التفكير بمنطق “أخفّ الضررين”، كما قال أحد الرفاق. فكِلا الاحتمالين سيّء ويفتح على سيناريوهات غامضة وغير مطمئنة. وبالتالي، يبدو أنّه لا بديل لأنصار العدالة الاجتماعية والسيادة الشعبية والوطنية غير الاستعداد للمرحلة المقبلة بمختلف احتمالاتها. وذلك من خلال التجنّد للدفاع عن هامش الحرّيات الضروري لنضالهم، وعبر نبذ الأوهام البرجوازية الصغيرة والعمل الجادّ طويل النفس على الانغراس وسط الطبقات الشعبيّة. وخاصّة العمل على التنظّم ثوريًا وعلى تنظيم الطبقات الشعبيّة وتعزيز وعيها الطبقي وثقتها بنفسها كفاعل تاريخي ثوري قادر لا فقط على رفع شعار “الشعب يريد اسقاط النظام” من جديد، بل وكذلك على اسقاطه واستبداله بديمقراطيّة فعليّة تخدم مصالحها لا مصالح الأقلّية البرجوازية.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !