رأي | زيادة نسبة الفائدة لمقاومة التضخم ؟

بقلم سيف الدين بكار

جاءت بداية عهد النيوليبرالية في الثمانينات بعد الصدمة النفطية في السبعينات والتي تسببت في نسب تضخم كبيرة ونمو منخفض، وبذلك كان التحكم في التضخم، وهو الارتفاع العام للأسعار، أحد المهام التي طرحتها النيوليبرالية على نفسها. هنا تبنى العديد من الاقتصاديين النظرة النقدية للتضخم النابعة من النظرية النيوكلاسيكية والتي دافع عنها المنظرون النيوليبراليون مثل ميلتون فريدمان. هذه النظرية تقول أن السبب الوحيد للتضخم هو زيادة الكتلة النقدية ، وبالتالي، من أجل التحكم في التضخم يجب التحكم في الكتلة النقدية.

المثال الذي يعطيه المنظرون النيوليبراليون عموما هو أن نأخذ سلعة كالخبز، فلو كان هناك رغيفا خبز وحريفان لكل منهما دينار واحد فإنه بعد عملية مزاد سيصبح ثمن رغيف الخبز الواحد دينارا. أما لو كان لكل حريف ديناران فإن ثمن غريف الخبز سيبلغ ديناران. طبعا لا تأخذ هذه النظرية بعين الاعتبار دور خلق العملة في دفع الإنتاج ولا تأثيره على بطء تداول العملة وهما حالتان تخفضان من التضخم. وهناك أيضا حالة أخرى لا تأخذها النظرية بعين الاعتبار و هي أثر العوامل الخارجية على التضخم وهي الحالة التي تهمنا اليوم. المهم هنا أن المفكرين النيوليبراليين قد استنتجو من خلال هذا التحليل أنه من أجل محاربة التضخم علينا أن نخفض من الكتلة النقدية.

ولكي نعرف كيفية التخفيض من الكتلة النقدية علينا أن نعرف كيفية خلق العملة. سنحصر هنا بالذكر آلية خلق العملة عن طريق القروض إذ هي التي تعنينا، فالبنوك لما تقرض لمختلف الفاعلين الاقتصاديين لا تبحث في مخزونها عن النقود التي ادخرها زبائن آخرون، لو كان هذا الحال لكان البنك محدودا في كمية القروض الممكن إسداؤها بنسبة الادخار. ولكن الحقيقة أن البنوك قادرة على خلق العملة عند إسداء القروض، وعند تسديد القرض تدمر تلك العملة و يكون مربوح البنك نسبة الفائدة. وهكذا نرى أن ما يحد قدرة البنك على الإقراض أي خلق العملة ليس نسبة الادخار بل هي خطر عدم سداد الديون، فالدين عندما لا يسدد تكون خسارة للبنك يجب عليه أن يمتصها من رأس المال.

إذا، عند زيادة البنك المركزي في نسبة الفائدة فهو يقلل من القروض المسداة إلى الفاعلين الاقتصاديين وبالتالي، من كمية العملة المتوفرة في الاقتصاد. ومن المهم التنبيه هنا لأن المنظرين النيوليبراليين لا يعتبرون مثل ما يعتقد البعض أن الهدف من هذا الإجراء هو التقليص من الطلب، فكما ذكرنا مسبقا لا يعتبر الاقتصاديون النيوكلاسيكيون أن كمية العملة تؤثر على سرعة تداولها ولا على كمية الإنتاج، فهم يعتبرون العملة محايدة، أي أنها ليست إلا وسيلة للتبادل لا غير فكميتها لا تؤثر إلا في قيمة الأسعار لا في قيمة البضائع عندما تقارن بين بعضها، ومن المفترض أن ينطبق هذا على الأجور والأرباح أي أنه لو ازدادت الكتلة النقدية بنسبة 50% فإن الأسعار والأجور والأرباح ترتفع كلها بنسبة 50%. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو أنه لو كانت كمية العملة لا تؤثر على الإنتاج والطلب فلماذا يعتبر النيوليبراليون أن التضخم خطر يجب مقاومته ؟

فعلى هذا الأساس ليس للتضخم أي تأثير على الاقتصاد الفعلي و إذا من المفترض أن يكون أن يكون ظاهرة هامشية لا يجب عليها أن تأخذ كل هذا الاهتمام، وهنا نرى تناقض المنظرين النيوليبراليين.كجل دول العالم تبنت تونس هذه النظرة الاقتصادية، ونرى هذا خاصة عند سن قانون استقلالية البنك المركزي، والسؤال هو استقلالية البنك المركزي عن ماذا ؟ هي أساسا استقلاليته عن القرار السياسي، فالنظرة النيوليبرالية تعتبر أن المسألة النقدية أساسا مسألة تكنوقراطية لا يجب على السياسيين التدخل فيها.

فالسياسيون يمكنهم أخذ قرارات يسميها النيوليبراليون بالشعبوية كالترفيع في الأجور والاستثمار أو خفض نسبة الفائدة من أجل خدمة مصالحهم الانتخابية والتي سينجر عنها نتائج مدمرة من ناحية التضخم في المستقبل، أما التكنوقراط فهم القادرون على أخذ القرارات الصحيحة حتى وإن كانت “موجعة” و”لا شعبية”. من المهم أن نلاحظ هنا أن هذه النظرة تزدرد الديموقراطية و تبجل قرارات التكنوقراط على قرارات السلط السياسية المنتخبة دون مساءلة الخلفية التي يمكن أن تدفع بالتكنوقراط إلى أخذ هذا القرار أو ذاك، كقربهم من البنوك والميل لخدمة مصالحهم بسبب السيرة المهنية السابقة أو اللاحقة مثلا أو العمل مع المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين أذاقا الأمرين لدول العالم الثالث.

ولعل أكبر دليل أن هذه النظرة تحتقر الديمقراطية وتعتبر أنه يجب تدجينها من قبل التكنوقراط هي مقولة وولفڨانڨ شويبل وزير المالية الألماني الأسبق (ألمانيا هي البلد الذي ابتدع فكرة استقلالية البنك المركزي) القائلة بأنه لا يجب السماح للديمقراطية أن تتحكم في السياسة الاقتصادية وقد قال هذا في إطار المفاوضات مع حكومة سيريزا اليونانية التي كانت ترفض تطبيق سياسات التقشف المملاة عليها من قبل الترويكا (صندوق النقد الدولي، المفوضية الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي).

ونرى أيضا تطابق النظرة النيوليبرالية للعملة مع قانون استقلال البنك المركزي، فإن كانت عملية خلق العملة لا يمكن أن يكون لها أثر على الإنتاج ولا على الطلب فهذا يعني أنها لا تندرج ضمن السياسات الاقتصادية البحتة التيهي مجال عمل السلطة السياسية بل هي قرار تقني بحت لا دخل للسياسة فيه.رغم التناقض الداخلي المذكور مسبقا عند المنظرين النيوليبراليين فإن الجميع يتفق حول ضرورة محاربة التضخم لدرجة ما (وإن كان الاقتصاديون غير متفقين حول نسب التضخم المقبولة أو المحمودة و النسب الخطيرة). فقليلا ما تلحق الأجور بارتفاع الأسعار عندما تتجاوز هذه الأخيرة نسقا معينا وكذلك فإن التضخم يتسبب في تسابق الفاعلين الاقتصاديين لاقتناء ما كانو يخططون لاقتنائه بسرعة قبل أن يرتفع الثمن، مما يتسبب في تجاوز الطلب العرض الحالي أي أزمة إنتاج و تزويد.

والسؤال الذي يطرح نفسه إذًا هو ماهية أسباب التضخم في تونس ؟ لنبدأ أولا بدحض المقولات السابقة.

فكما قلنا، تبنت الدولة التونسية هذه المقاربة النيوليبرالية خاصة بعد سن قانون استقلالية البنك المركزي سنة 2016، الذي سارع بعد ذلك في رفع نسب الفائدة من أجل التحكم في التضخم، ولكن الغريب في الأمر أن نسب التضخم ارتفعت إلى أعلى مستوياتها في تلك الفترة :

في هذا المنحنى نلاحظ أن رفع نسب الفائدة إلى مستويات عالية لم يعد نسب التضخم إلى المستويات المرجوة بل يمكن حتى أن نقول أن رفع نسب الفائدة ساهم في هذا التضخم. فمن المهم أن نشير إلى أن نسبة البطالة كانت ولا تزال مرتفعة في البلاد، و نفهم من هذا أن البلاد ليست في أقصى قدراتها الإنتاجية. وإذا فإن ارتفاع نسب الفائدة لا يمكن إلا أن يضرب المؤسسات الاقتصادية ويحد قدرتها على الاستثمار والإنتاج، فهو لذلك يعمق من أزمة الإنتاج التي تسبب فيها التضخم والتي تزيد من نسق تصاعده.

ونعرج هنا على المحتكرين و المضاربين الذين اعتبروا مصدر ارتفاع الأسعار من قبل السلطة الحالية، ولكن ما رأيناه الآن حول نتائج التضخم يثبت عكس ذلك، فالتضخم وأزمة الإنتاج التي تصاحبه هي التي تدفع بعض الفاعلين الاقتصاديين إلى الاحتكار والمضاربة. فكما قلنا مسبقا، التضخم يدفع الفاعلين الاقتصاديين لاقتناء البضائع قبل أن يرتفع سعرها وليس العكس، ولو كان تزود السوق عاديا يلبي حاجة المستهلكين لما كان من مصلحة المضاربين والمحتكرين الظهور ومحاولة استغلال ثغرات السوق التي فتحت لها.

نعود إذا إلى الأسباب الحقيقية للتضخم، فما نلاحظه في تونس منذ فترة ما بعد الثورة هو تضخم وركود اقتصادي متلازمان. وقد شهدنا مثل هذه الظاهرة في فترة السبعينات مع الصدمة البيترولية في الغرب، فهي لم تحدث بسبب خلق العملة بل كانت بسبب ارتفاع جنوني لأسعار البترول، مادة لم يكن ينتجها الغرب في حين أنها ضرورية في كل أنواع الإنتاج وكان العالم الغربيّ مضطرا لتوريدها بتلك الأسعار. ما يعني أنه عندما نرى تضخّما وركودا في نفس الوقت فإنه لا يمكن أن يكون هذا التضخم فقط نابعا من أسباب ذاتية، فالتضخم عندما يكون من أسباب ذاتية يعني أن المنتجين استوفو قدرتهم الإنتاجية ويعني بالتالي عدم إمكان استثمار فائض القيمة الذي يتحول إلى ارتفاع في الأسعار.

أي أنه عندما ترى المؤسسات أن هناك ارتفاعا في الطلب على منتوجاتها فهذا لا يعني بالضرورة أنها سترفع من أسعارها، بل بإمكانها أن تستثمر في زيادة الإنتاج أو التحسين من جودته، و هذا ممكن طالما تتوفر يد عاملة تستطيع أن تساهم في خلق القيمة. إذا يجب أن تكون هذه الوضعية مرفوقة بنسبة نمو عالية وليس الركود الذي نعهده اليوم. بما أن التضخم ليس نابعا أساسا من أسباب ذاتية فهو لا يمكن أن يكون إلا مستوردا، فماذا يعني التضخم المستورد ؟ يمكن أن نرى التضخم المستورد في عدة حالات أبرزها ارتفاع أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية مثل ما نشاهده اليوم مع البترول و القمح ، و هي أسعار لا حيلة لبلد مثل تونس في تخفيضها، و هذا يؤدي إلى تضخم عالمي، فنشهد بذلك ارتفاع أسعار المواد المستوردة مما يرفع أسعار جميع البضاعات حتى المحلية منها بما أن المؤسسات المحلية تسعى إلى الحفاظ على هامش ربحها و بما أن أصحاب هذه المؤسسات يحاولون الحفاظ على قدرتهم الشرائية.

وهناك سبب آخر للتضخم المستورد هو الأهم بما أن التضخم العالمي ظاهرة جديدة نسبيا لا يمكن لها أن تفسر ما عشناه في السنوات السابقة، وهذا السبب هو اختلال الميزان التجاري و تفاقم عجزه. فعندما تورد الدولة التونسية أكثر بكثير مما تصدره ينخفظ الطلب على الدينار التونسي ويرتفع الطلب على العملات الأجنبية مما يتسبب ميكانيكيا في انخفاظ قيمة الدينار بالمقارنة مع العملات الصعبة، ومن ثمة فإن هذا الانخفاظ يؤدي حتميا إلى ارتفاع أسعار المواد المستوردة من الخارج بالدينار التونسي وبالتالي ارتفاع جميع الأسعار معها كما بينا في الحالة السابقة. وفي الحالتين فإن الإشكال هو ذاته و هو درجة تبعية الاقتصاد التونسي للخارج وخاصة للدول العظمى، فلو كان للبلاد سيادة غذائية تمكنها من إنتاج المواد الفلاحية الأساسية وسيادة طاقية لما كان للحرب الروسية الأكرانية كل هذا التأثير على الاقتصاد التونسي ولما كان الميزان التجاري أعرج لهذه الدرجة ما يعني الحد من قيمة التضخم.

وطبعا فإن رفع نسبة الفائدة على جميع المؤسسات لا يمكن أن يحل هذا الإشكال فنسبة الفائدة المرتفعة وإن كانت تدفع ببعض الفاعلين الاقتصاديين إلى الحد من استثمار أموالهم في التوريد وإلى ادخارها عوض ذلك فهي في نفس الوقت ترهق القدرات الإنتاجية للمؤسسات المحلية وبالتالي تدفع المستهلكين إلى تلبية حاجياتهم من الخارج أي التوريد وهنا نكون قد عدنا إلى المربع الأول. طبعا لا يمكن لنا أن نتناسى كذلك أهمية سياسات رفع الدعم عن الطاقة التي تجعل مختلف المؤسسات مضطرة لرفع أسعارها بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج، ويا للمفارقة، هذه هي نفس السياسات التي يفرضها علينا صندوق النقد الدولي النيوليبرالي.

وهنا نقول أنه عكس ما يعلنه المنظرون النيوليبراليون فإن للبنك المركزي وللسياسية النقدية دور أساسي في تغيير بنية الإنتاج وهذا هو الحل الفعلي لأزمة التضخم. فالبنك المركزي بإمكانه التخفيض عموما في نسبة الفائدة للسماح بالمؤسسات الاقتصادية بالاستثمار ودفع الإنتاج. ولكن كما قلنا مسبقا فإن الهدف ليس الإنتاج من أجل الإنتاج، فلو لم تتحقق للبلاد سيادة في المجالات الأساسية والاستراتيجية فإن من المستحيل فك الارتباط مع مخاطر السوق العالمي، بل يجب دفع إنتاج بعينه وحد إنتاجات قائمة مضرة للبلاد كالمنوال الفلاحي القائم والذي هو منوال استنزافي للموارد المائية وللتربة.

إذا يمكن للسياسة النقدية أن تدفع قطاعات بعينها ونمط إنتاج بعينه على حساب أخرى بطريقة تسمح للبلاد ببناء سيادتها في مختلف المجالات أي الحد من تعرضها لمخاطر السوق الخارجية و قدرتها على التحكم في الأسعار في السوق الداخلية، لنكون بذلك قد أنشأنا في ذات الوقت نمط إنتاج جديدا مستداما يقوم على احترام قيمة البشر والمحافظة على البيئة. محاربة التضخم إذا ليست قضية منعزلة يقوم بها البنك المركزي بمعزل عن السلطة السياسية وعن الاقتصاد المنتج بل هي عملية متشعبة تتداخل فيها السياسات النقدية بالسياسات الفلاحية والصناعية والإنتاجية عموما وهي إذا عملية سياسية بالأساس، لا يمكن فقط توكيلها للتكنوقراط والاتكاء في انتظار الحل.

في هذا المنحنى نلاحظ أن رفع نسب الفائدة إلى مستويات عالية لم يعد نسب التضخم إلى المستويات المرجوة بل يمكن حتى أن نقول أن رفع نسب الفائدة ساهم في هذا التضخم. فمن المهم أن نشير إلى أن نسبة البطالة كانت و لا تزال مرتفعة في البلاد، و نفهم من هذا أن البلاد ليست في أقصى قدراتها الإنتاجية. و إذا فإن ارتفاع نسب الفائدة لا يمكن إلا أن يضرب المؤسسات الاقتصادية و يحد قدرتها على الاستثمار و الإنتاج، فهو لذلك يعمق من أزمة الإنتاج التي تسبب فيها التضخم و التي تزيد من نسق تصاعده.

و نعرج هنا على المحتكرين و المضاربين الذين اعتبرو مصدر ارتفاع الأسعار من قبل السلطة الحالية، و لكن ما رأيناه الآن حول نتائج التضخم يثبت عكس ذلك، فالتضخم و أزمة الإنتاج التي تصاحبه هي التي تدفع بعض الفاعلين الاقتصاديين إلى الاحتكار و المضاربة. فكما قلنا مسبقا، التضخم يدفع الفاعلين الاقتصاديين لاقتناء البضائع قبل أن يرتفع سعرها و ليس العكس، و لو كان تزود السوق عاديا يلبي حاجة المستهلكين لما كان من مصلحة المضاربين و المحتكرين الظهور و محاولة استغلال ثغرات السوق التي فتحت لها.

نعود إذا إلى الأسباب الحقيقية للتضخم، فما نلاحظه في تونس منذ فترة ما بعد الثورة هو تضخم و ركود اقتصادي متلازمان. و قد شهدنا مثل هذه الظاهرة في فترة السبعينات مع الصدمة البيترولية في الغرب، فهي إذا لم تكن بسبب خلق العملة بل كانت بسبب ارتفاع جنوني لأسعار البترول، مادة لم يكن ينتجها الغرب و ضرورية في كل أنواع الإنتاج و كان مضطرا لتوريدها بتلك الأسعار. ما يعني أنه عندما نرى تضخما و ركودا في نفس الوقت فإنه لا يمكن أن يكون هذا التضخم فقط نابعا من أسباب ذاتية، فالتضخم عندما يكون من أسباب ذاتية يعني أن المنتجين استوفو قدرتهم الإنتاجية و إذا عدم إمكان استثمار فائض القيمة الذي يتحول إلى ارتفاع في الأسعار.

أي أنه عندما ترى المؤسسات أن هناك ارتفاعا في الطلب على منتوجاتها فهذا لا يعني بالضرورة أنها سترفع من أسعارها، بل بإمكانها أن تستثمر في زيادة الإنتاج أو التحسين من جودته، و هذا ممكن طالما تتوفر يد عاملة تستطيع أن تساهم في خلق القيمة. إذا يجب أن تكون هذه الوظعية مترافقة مع نسبة نمو عالية و ليس الركود الذي نعهده اليوم. بما أن التضخم ليس نابعا أساسا من أسباب ذاتية فهو لا يمكن أن يكون إلا مستورد. فماذا يعني التضخم المستورد ؟

يمكن أن نرى التضخم المستورد في عدة حالات أبرزها ارتفاع أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية مثل ما نشاهده اليوم مع البترول و القمح ، و هي أسعار لا حيلة لبلد مثل تونس في تخفيضها، و هذا يؤدي إلى تضخم عالمي، و إذا نشهد ارتفاع أسعار المواد المستوردة و هذا ما يرفع أسعار جميع البضاعات حتى المحلية منها بما أن المؤسسات المحلية تسعى إلى الحفاظ على هامش ربحها و بما أن أصحاب هذه المؤسسات يحاولون الحفاظ على قدرتهم الشرائية.

وهناك سبب آخر للتضخم المستورد هو الأهم بما أن التضخم العالمي ظاهرة جديدة نسبيا و إذا لا يمكن لها أن تفسر ما عشناه في السنوات السابقة، و هذا السبب هو اختلال الميزان التجاري و تفاقم عجزه. فعندما تورد الدولة التونسية أكثر بكثير مما تصدره ينخفظ الطلب على الدينار التونسي و يرتفع الطلب على العملات الأجنبية مما يتسبب ميكانيكيا في انخفاظ قيمة الدينار بالمقارنة مع العملات الصعبة، و إذا فإن هذا الانخفاظ يؤدي حتميا إلى ارتفاع أسعار المواد المستوردة من الخارج بالدينار التونسي و إذا ارتفاع جميع الأسعار معها كما بينا في الحالة السابقة.

و في الحالتين فإن الإشكال هو ذاته و هو درجة تبعية الاقتصاد التونسي للخارج و خاصة للدول العظمى، فلو كان للبلاد سيادة غذائية تمكنها من إنتاج المواد الفلاحية الأساسية و سيادة طاقية لما كانت للحرب الروسية الأكرانية كل هذا التأثير على الاقتصاد التونسي و لما كان الميزان التجاري أعرج لهذه الدرجة ما يعني الحد من قيمة التضخم. و طبعا فإن رفع نسبة الفائدة على جميع المؤسسات لا يمكن أن يحل هذا الإشكال فنسبة الفائدة المرتفعة و إن كانت تدفع ببعض الفاعلين الاقتصاديين إلى الحد من استثمار أموالهم في التوريد و إلى ادخارها عوض ذلك فهي في نفس الوقت ترهق القدرات الإنتاجية للمؤسسات المحلية و بالتالي تدفع المستهلكين إلى تلبية حاجياتهم من الخارج أي التوريد فها نحن عدنا إلى المربع الأول.

و طبعا لا يمكن لنا أن نتناسى أهمية سياسات رفع الدعم عن الطاقة التي تجعل مختلف المؤسسات مضطرة لرفع أسعارها بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج، و يا للمفارقة، هذه هي نفسها السياسات التي يفرضها علينا صندوق النقد الدولي النيوليبرالي. و هنا نقول أنه عكس ما يعلنه المنظرون النيوليبراليون فإن للبنك المركزي و للسياسية النقدية دور أساسي في تغيير بنية الإنتاج و هذا هو الحل الفعلي لأزمة التضخم. فالبنك المركزي بإمكانه التخفيض عموما في نسبة الفائدة للسماح بالمؤسسات الاقتصادية بالاستثمار و دفع الإنتاج. و لكن كما قلنا مسبقا فإن الهدف ليس الإنتاج من أجل الإنتاج، فلو لا تتحقق للبلاد سيادة في المجالات الأساسية و الاستراتيجية فلن يفك الربط مع مخاطر السوق العالمي، بل يجب دفع إنتاج بعينه و حد إنتاجات قائمة مضرة للبلاد كالمنوال الفلاحي القائم الذي هو منوال استنزافي للموارد المائية و للتربة.

إذا يمكن للسياسة النقدية أن تدفع قطاعات بعينها و نمط إنتاج بعينه على حساب أخرى بطريقة تسمح للبلاد ببناء سيادتها في مختلف المجالات أي الحد من تعرضها لمخاطر السوق الخارجية و قدرتها على التحكم في الأسعار في السوق الداخلية، و نكون في نفس الوقت أنشأنا نمط إنتاج جديد و مستدام يقوم على احترام قيمة البشر و المحافظة على البيئة.

محاربة التضخم إذا ليست قضية منعزلة يقوم بها البنك المركزي بمعزل عن السلطة السياسية و بمعزل عن الاقتصاد المنتج بل هي عملية متشعبة تتداخل فيها السياسات النقدية بالسياسات الفلاحية و الصناعية و الإنتاجية عموما و هي إذا عملية سياسية بالأساس، لا يمكن فقط توكيلها للتكنوقراط و الاتكاء في انتظار الحل.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !