حوار مع الروائي عادل الحامدي: “أسعى لتحرير فعل القراءة من حصار النُخبة”

حاوره العيادي العامري

إنّ الانحياز بوصفه موقفًا تجاه العالم وفي صلب العالم فهو يشمل جميع مجالات الوجود الإنساني. ومن ضمن هذه المجالات هناك الأدب وفعل الكتابة بوصفهما مجالاً حيويًا لفعل المقاومة الايتيقية والجمالية، لتعرية وفضح وقائع القهر والاستغلال، ولجعل الخيال ملكة تساهم في صياغة شكل وجود جديد يكون فيه الإنسان أكثر تحررًا وتضامنًا.

ضمن هذا الإطار، نقدم لكم  حوارًا كنا قد أجريناه مع الروائي التونسي عادل الحامدي، المنحاز، جماليًا وأخلاقيا، لما يشكّل جوهر انحيازنا.

تعريف مختصر بالروائي عادل الحامدي
كاتب تونسي أصيل ولاية القيروان، صدرت له خمس روايات، وهي ‘الأخدود الذي صار نهرا’ سنة 2018، ‘أرغفة الذلّ’ سنة 2018، ‘سبب للحياة سبب للموت’ 2019، ‘وحيد الساق’ سنة 2020، ‘سفر الى الينابيع’ سنة 2021.

صورة لغلاف رواية ‘الأخدود الذي صار نهرا’

انحياز: مرحبا بك سيّد عادل في موقع انحياز. نحن سعداء بالحديث معك وتسليط الضوء على تجربتك الروائية. في البداية، كيف تودّ تقديم نفسك للقارئ؟ من هو عادل الحامدي ؟

ع.ح: مرحبا بكم  في انحياز. سأحدثكم قليلا عن نفسي، محاولا القيام بمزج ودمج للهمّ الخاص مع الهّم العام المشترك.. فهذا لا يفتأ يرفد ذاك ويغذيه.

القراءة كتعويض عن خسارة جنّة الطفولة

انفتحت عيناي على هذا العالم في مكان منسيّ ومُهمَّش  بجنوب  مدينة الكاف، تحديدا بين القصور والروحية، اسمه ’ريف الجوف‘ حيث عشت تسع سنوات من حياتي ودرست في مدرسه اسمها ’الغمراسني‘.. وهي القرية  أو  بمثابة المركز الإداري لريف الجوف ذاك. وطوال تلك السنوات التسع كنت مؤمنا  بأنّني أعيش في الجنة. كان الشعور بالسعادة يأتينا سهلا هيّنا، رغم الفقر والشظف وقسوة الظروف،  لأنه كان لدينا “الحُبّ”.. وكان لدينا كلّ أشكال الغِنى الطبيعي الذي تنشده نفس الإنسان ليُشعرها بالارتياح: سلاسل الجبال والنهر الجاري بمائه العذب وخريره الذي لا يتوقف والراڨوبة والغابات والحيوانات البرّية والحقول ونباتات العسّيل والبوڨرعون والأقحوان… والثلوج كلّ شتاء والبرد القارس.. ثمّ الطريق الطويل إلى المدرسة (حوالي ستّة كيلومترات نقطعها يوميا مرتين). هذا دون أن أنسى أعمالنا “النضالية” الصغيرة التي كنا نتذكرها بمنتهى الفخر؛ كأن نظلّ طوال اليوم نشتم بورقيبة ونظامه ورجال نظامه الذين نُفرد منهم بالسبّ الهادي خفشة وعلّالة العويتي والهادي نويرة، ونجعل منهم مدار ما لا يُحصى من النكات. ونتشاجر أيّنا نال وحده فخر وضع الحجرة فجرًا على طريق سيارة “الشيخ” وتسبّب في فلق عجلتها وهي ماضية للمشيخة في الغمراسني.

إلّا أنّ أمّي كانت لا تنفكّ  تقوّض استمتاعي بجنّتي. كانت تقول دون انقطاع: نحن لسنا من الكاف، بل من القيروان.. وأتينا هنا للإقامة لبعض الوقت فقط.. رغم أنّ “بعض الوقت” ذاك امتدّ لعشرين عاما ونيف. كانت المدة التي وُلدت خلالها هناك وجميع إخوتي أيضا.. وهكذا بفعل كلام والدتي وتذمراتها التي لا تنقطع ورغبتها الجامحة في الرحيل عشتُ تمزقا في الانتماء.. لم أكن أعرف لأي جهة أنتمي وفي أي بيئة سأتأصّل.. المضحك أنّ مضمون ولادتي احتوى على اسم “الجروالة” في سبيطلة. بما يعني أنها مسقط رأسي.. وكان جميع إخوتي يعايرونني بأنّني”إبن الجروالة”، والجروالة لغويا هي الوادي أو المنخفض الفسيح من الأرض. وعرفت فيما بعد إن قدوم العائلة لجنوب الكاف أو “فريڨية” كان مصادفة قذفتنا نحوها ظروف المناخ هربًا من جفاف جهات الوسط في نهاية الأربعينيّات بعد الحرب العالمية الثانية. 

كان أبي وأمي من عائلة من “الهطّاية”، يحصدان حقول القمح والشعير في فريڨية ونقيم في خيمة. ثم تدبّر والدي أمره فتخلّص من حياة ” الهطي” والخيمة وابتنى لنا بيتا من الطوب  وصار “حوانتيا”  ثم  مزارعا دون أرض، أيْ خمّاسا.. وعندما بلغتُ التاسعة قرّر إنهاء اغترابه الطويل في جنوب الكاف والعودة لأرض أجداده تحت ضغط إلحاح والدتي. وهكذا عشتُ اقتلاعا أليما من التربة التي وُلدتُ بها قبل أن يُتاح لي مدّ عروقي فيها.

مرّت ثلاث سنوات على عودتنا. أظنّها كانت سنة 1975، وعمري وقتها 11 سنة. وأنا أدرُس في مدرسة المنصورة في القيروان في السنة النهائية. كنا أولاد أرياف غير مسموح لهم من قِبل منظّفة المدرسة، حليفة أولاد البرجوازيين في تلك الضاحية، الدخول لساحة المدرسة في غير وقت دخولنا للأقسام. بل تقذفنا بعيدا نحو  الساحات الغبراء التي تحرقها أشعة الشمس،  ولم نكن نعرف معنى برجوازيين غير أنهم بشر لا يشبهوننا في شيء. بل نوعية متفوقة من البشر، ذوي بشرة مشرقة عكسنا نحن ذوي البشرات الداكنة والمجعّدة. ويملكون في بيوتهم أشياء يسمونها “صالة” و”كوجينة” و”توالات” و”تلفزيون”، ويشترون الخبز من “الكوشة”، عكسنا نحن الذين نأكل كسرة القمح والشعر التي تنضج في الطابونة. وآبائهم يشتغلون موظفين عند الدولة وعندهم نفوذ وكلمة ودالّة،  بينما نحن فلاحون وأبناء فلاحين.. ويتكلمون “الڨالة” التي تمثّل عنوان تفوقهم وفخرهم.

وعلى عكس الواهمين الذين يزعمون أنّ الطفولة مرحلة بريئة من حياة الإنسان ولا تعرف معنى الطبقية، كان الاستقطاب الطبقي قائما وبارزا بشكل يفقأ العين. كنّا نخوض المعارك يوميا مع أولاد البرجوازيين لتأكيد حقنا في الانتماء والشراكة في الأرض. وفي إحدى تلك المعارك اليومية أطردَتنا منظّفة المدرسة خارج الرواق الظليل والطويل الذي يحفّ بأقسام المدرسة، وكان نهارًا شديد الحرارة. في الواقع، كانت القسوة هي حقيقة حياتنا الوحيدة التي نتعايش معها. الضربُ من المعلّمين والطرد نشًّا بالمكنسة من الراعية والعقاب الشديد من الأولياء. عند العودة من المدرسة كلّ عشية كان أبي يقول لي “كُلْ شيئا من الطعام ثم التحق بالبقرات في المرعى” لأظلّ مع البقرات حتى غروب الشمس. 

ذات يوم، بقيت لمدة ساعات تحت الشمس في الساحة الخلفية للمدرسة بعد أنْ طردتني المنظّفة من الظلّ. أصابني الدوار. وخلال الحصة المسائية كنت أترنّح ولا أقوى على الوقوف. عرفت أنني أُصبت بضربة شمس. سرّحني المعلم. فقطعتُ الكلمترات الخمسة عائدا على القدميْن (نفس المسافة الفاصلة عن مدرستي الأولى في الغمراسني).

في اليوم التالي أُصبت بغيبوبة. وظللتُ غائبا عن الوعي لمدة لا أعرفها، لكن قدّروها بحوالي عشرين يوما. لأستيقظ بعدها وأجد حاسّة السمع قد فارقتني إلى الأبد. هكذا بضربة واحدة دون تدرّج في انخفاض مستوى السمع. ومع فَقْد السمع عانيتُ من شللٍ جزئيّ لازمني لعاميْن. وفي ظروف المرض والانعزال هذه اكتشفت متعة القراءة. هذه الممارسة التي كانت في البداية تمثل تعويضا عن غيابي القسري عن العالم الذي لم يعد بوسعي العودة إليه… ثمّ بمرور الوقت وتعمّقي في القراءة لم تعد تعويضا بل ممرًا لإعادة اكتشاف العالم والذات على مستوى آخر.

قَضَّيْت فترة المراهقة كلها أشتغل راعيا وفلاحا. وفي نفس الوقت قارئا لا يُشَقُّ له غبار.  وكانت تلك ثنائية مثيرة للسخرية في محيطي الذي لا يفهم ممارسة القراءة إلا باعتبارها جسرا يوصل للشهادة ثم الوظيفة. لكنها بالنسبة لي اتخذت بعدا وجوديا مصيريا  صار معها مصيري مرتهنا بوجود الكتاب.. فإذا قضيتُ يوما دون كتاب أقرأه أشعر بجزء من كينونتي مهدَّدا بالتلاشي. كانت ممارسة القراءة أسلوب سمع للعالم بعيناي. وبدون قراءة أشعر بنفسي صرت مثل الأعمى. لا أستطيع الجزم أنّني تلمّست خلال فترة المراهقة بوادر موهبة لي في الكتابة. وذلك رغم أنني حلمت طويلا بكتابة الروايات وأعددت عشرات العناوين الخيالية وقدمتها لشقيقي على أنها روايات كتبتها أو سأكتبها قريبا… كنت أكذب عليه  وكان هو يصدقني في الوهلة الأولى  ويظنّ أنني فعلا كتبتها ويستحلفني أن أقول له الحقيقة، فأريه كدس الكتب التي عندي على أنها مؤلفاتي. قمت ببعض المحاولات في الشعر، لكنها كانت نصوصا رديئة كلها وسرعان ما أقلعت عنها واعترفت لنفسي أنني لم أولد لأكون شاعرا.

تفجّر موهبة الرواية

 ظلت نزعة الكتابة نائمة في أعماقي لأكثر من عشرين عاما بعد خروجي من مرحلة المراهقة. اشتغلت في حرفة النسيج اليدوي المنهكة للجسد. لكن هذه الحرفة، رغم مشقّتها، كانت نوعا من ممارسة  الفن أو كانت تمثل تذكيرا لي بما كنت أحمله في أعماقي من حنين  للفن  من جهة (فالنسيج كان عبارة عن عملية تأليف خيطا إثر خيط وتولد النسيجة المحبوكة).. ولصخب الحياة اليومي ونبضها  الذي كانت أصداؤه لا تصلني من جهة أخرى بفعل فقد حاسة السمع. فكان لابد لي لإشباع ذلك الحنين أن أوّلد عالما محايثا  في الكتابة. 

ومنحني زخما لتفجير هذه النزعة أمران فائقا القوة والتأثير: ثورة 2011 وإصابتي بالاكتئاب حادٍ استمرّ لست سنوات. هنا لابدّ لي من عودة صغيرة لمرحلة الكاف ونهرها الذي شغل  أمر نضوبه الحيْز الأكبر من كتاباتي الروائية. وسيظل النهر العنوان الأبرز لمشروعي الروائي الذي سيمتد حتى آخر أيام حياتي. ففي سنة العودة للقيروان بدأ النهر بالنضوب لأن هناك بشر رغبوا في حفر أبار في حوضه وجرّ عيونه نحو آبارهم،  فكأنهم بذلك  قطعوا الشرايين التي ترفده  وحكموا عليه بالموت، فلم يعد بوسعه مياهه أن تجري. بمعنى آخر، حوّلوا النهر من ملكية عامة مشتركة إلى جملة من الملكيات الخاصة لا يحظى بها غير القادرين على حفر الآبار. ومن لا يستطيع ذلك، عليه أن يهاجر نحو جهات الشمال والشمال الشرقي  ليعمل في الحضائر للرجال وكخادمات في البيوت للنساء…

 نضوب النهر كان مأساة مروّعة. وكنت أعتبر عودة عائلتي في  نفس السنة التي تسارعت فيها وتيرة حفر الآبار عملية فرار من المواجهة. وظلَلْتُ أحمل شعورا شنيعا بالإثم طوال عقود لم أسافر فيها لمسقط رأسي ولم أرَ ملامحه تتبدلّ. لا أعرف إن كان باعث الاكتئاب الذي أصابني هو احتداد الشعور بالذنب ووطأة جحودي لمكان عدَدْتُه خلال طفولتي جنتي الأبدية، أم موت شقيقي سنة 2005..

قصّة الرواية الأولى

’الأخدود الذي كان نهرا‘ كان عملي الروائي الأول. قدّمت فيه معالجة روائية مشبعة بالحنين لمأساة النهر ولمأساتي الشخصية. لم أعد أعرف الحد الفاصل بين المأساتين. لكن مأساة أخرى حدثت وأعطت مزيد من الألوان للمأساة. إذ لم تعُد مأساة شخصية بل مأساة طبقة بأكملها أضاعت فرصًا لا تحصى مع التاريخ لتكون غير ما يراد لها وفوتت في حقوقها لأعدائها… أعني هنا ثورة  17 ديسمبر واعتصام القصبة الثاني الذي كتبت الأخدود وأحداثه الحزينة ساكنة في رأسي. وكان هو القادح الثاني لكتابتها بعد الاكتئاب، الاكتئاب الطويل الذي عجزت عن معرفة جذوره.

  في الرواية بشرٌ صدّقوا مزاعم “سي بوراوي” بإعادة الحياة لنهرهم وأطاعوه، بينما كانت نيته الحقيقية تجريفه وجرّ مياهه نحو بئره الشخصي وحرمانهم منه حرمانا أبديا. ثم هناك الطفل “دُولة”  الذي يعيش قصة حبّ لا أفق لها مع زُهرة التي تكبره  بأحد عشر عاما،  ويعتبر موت النهر انتحارًا لطفولته، رغم محاولات  الحبّ إنقاذ ذلك النهر وذلك العالم.  وفي الاعتصام كذلك بشر وثقوا بوعود سلطة لم تكن تُضمر لهم غير الطرد والاستبعاد، وسلموها زمام أمرهم ونزلوا بقضيتهم من افتكاك الحق في الحياة دون تنازل أو منّة من أي سلطة. بل إنّ أولى مراحل نيل تلك الحياة المنشودة كان مرتهنًا بتحطيم تلك السلطة، وبامتلاك قرارهم الجماعي. وإذ بهم يحولوها إلى مجرد مطالب لتحسين وضعيات. بوسع البشر دائما القيام بالتنازلات، لكن التنازلات خدعة أليمة. إنها مِثل منحدرٍ  إذا شرعت بالنزول يعسر عليك التوقف. هكذا نحن في مرحلتنا الحالية، في وضع نزول لا يتوقف. وهذا ما أزعم أنني أعمل، أو أساهم، مع المخلصين على إيقافه من خلال آخر أعمالي الروائية. 

   لا يقلقني كثيرا أنني غير مقروء، فنحن لسنا مجتمع قراءة. كنت خلال زمن المراهقة، بمعزل عن المتمدرسين، أكاد أمثل ظاهرة قرائية. لكن الجميع كانوا يعزون الأمر لرغبة مني في التعويض عن غياب السمع. وهكذا بفعل هذا الفهم الخاطئ لم يتَح لتجربتي في القراءة أن تتأصل وتتسع لتشمل آخرين لا يرون القراءة تعويضا عن نقص ما  بقدر ما هي مدخل ضروري وحاسم لفهم العالم وبناء الكينونة. ظللتُ على الدوام ظاهرة معزولة. وأخشى أن يكون هذا نفس مصير تجربتي الروائية. فتُفهم كذلك على أنها رجع صدى لحنين جارف لعالم ضاع واندثر، وليست قراءة جمالية للعالم وإعادة بناء له من خلال التخييل.

وهذا إن كان يُعَدُّ أمرا باعثا للمتعة الشخصية، فإنّه يظلّ بلا معنى إن لم نشاركه مع الآخرين ولم نطوّره لنوصله إلى مستوى مشروع مشترَك معهم. وهنا نقف على المعضلة التي لا حلّ لها تقريبا في ظلّ سيطرة لوبيات النشر على سوق القراءة وإيصال المعلومة:  كيف سيتاح لأصواتنا أن تصل؟ كيف نغالب الشعور الدائم بانعدام القيمة؟ كيف سنقاوم شعورنا “بالانتماء الذليل لهذا البلد”؟، مثلما عبّر عن ذلك هشام جعيط. هل من معنى لتحديد مفهومنا للكتابة وهدفنا منها، وسواءٌ كان هدفا “خلاصيا” ذاتيا أو هدفا اجتماعيا تشاركيا، ففي الحالتين، ومهما كان نوع التحديد، يساورنا الشعور الشبيه بمن يصرخ في حجرة مُقفَلة لا يرتدّ فيها إليه غير صدى صوته. ليس من المفارقة أنني شخصيا لا أكاد أجد فرقا بين تجربة الصمم التي أعانيها، والتي لا يرتد إليّ فيها من الأصوات غير صدى صوتي،  وتجربتي الروائية وتجارب الكثير من الروائيين الذين  يغمرهم ظلّ “الهامش” الثقيل… وتشدّق المركز بعنايته بهامشهم إلى حدٍ حوّله فيه إلى حديقة خلفية له، فلا تكتمل مركزيته تلك دون هامشه ذاك.  
 

انحياز: السؤال الثاني، ما الذي جعلك تختار الرواية لتخاطب الآخر ولتحاول التأريخ لما شكّل عوالمك ذاتيا وموضوعيا؟ لماذا فن الرواية تحديدا؟

ع.ح: لاختياري الشكل الروائي إطارا لمخاطبة الآخر أسباب عديدة. ليس من بينها تأثّري بموجة الاتجاه للرواية باعتبارها الشكل التعبيري المقروء والقابل أكثر للتسويق. أذكر مرّة أنّ قارئة لإحدى رواياتي خاطبتني مندهشة: أنت تعيش بلا سمع، وعندما بدأت في مطالعة نصك اعتقدت إنني مقبلة على قراءة رواية “صامتة”. لكنني فوجئت بأنها كانت تضجّ بالأصوات.


جميع قراءاتي في المراحل المبكرة من حياتي كانت قراءات نثرية.. روائية أساسا. قرأت لفيكتور هيڨو أربع روايات وتمنيت يوما أن أكتب رواية على مثال “أحدب نوتردام”. إضافة لتأثيرات قراءاتي المبكرة في توجيهي نحو الرواية، فإنّ عالم هذه الأخيرة كان يبدو لي فسيحا بالغ الرحابة ليسمح لي بإنتاج الأصوات والمناخات الحية التي حرمني منها فقد السمع. فالأمر هنا قريب من “رفع تحدٍ ما” والتغلّب على عقبة بالغة الصعوبة: كيف تتغلب على صمَمك وتعطي لروايتك غناها المنشود بالأصوات والحوارات؟ كيف تقارب عوالمك دون أن تسمعها؟ أستمتع بالضياع في متاهات الرواية. لم يحدث أبدا أن كتبت رواية على ضوء تخطيط معيّن لها. فلا أكاد أعرف نهايتها حتى أبلغ صفحاتها الأخيرة. وذلك المسار يجعلني أنا نفسي متفاجئا ممّا سيفضي بي إليه السرد. لا أبالغ إذا قلت إن الرواية ليست غير نص يسرُدني. وأنا لا أفعل شيئا غير متابعة مساراته. أشعر بالحرية  في ساحة الرواية. وعلى نحو مماثل تبدو لي مسارا طويلا لشخوصها نحو تحررهم النهائي. فالرواية إذن ليست فحسب تخليقا للشخوص عبر التخييل ثم سجنهم فيه،  بل تحريرا لهم من كوابيس واقعهم وحدود ذواتهم وإغنائهم بالأبعاد عبر ذلك التخيل ذاته. 


غلاف رواية أحدب نوتردام لفيكتور هوڨو

انحياز: تحدثت في إجابتك عن عظيم تأثرك بفيكتور هوڨو وروايته ‘أحدب نوتردام‘، هل تحدثنا عن الروائيين العرب والتونسيين الذين تظن أنّ لهم أثرًا في دفعك ناحية كتابة الرواية؟

بالتأكيد، التأثيرات لا مهرب منها. تبدو التأثيرات مثل الخيط الشفاف الذي  يقودك رويدا صوب معرفة ما يعتمل في داخلك من نزعات.. ممّا لا تستطيع أن تكتشفه بمفردك. أذكر رواية جميلة قرأتُها عديد المرّات في السبعينيات عنوانها “ونّاس” لكاتب تونسي اسمه محمد الحبيب السالمي (ليس السالمي الذي يعيش في باريس). قد يكون السرد الرائع الذي  ضمّته تلك الرواية لعالم الصحراء، ورحلة التيه التي عاشها البطل وانتهت به لفقد ذاكرته لأعوام، المدخل السرّي الذي أخذني لعالم الرواية. ولا أعرف لِم بقيت هذه الرواية خبرا غير مذكور في المدونة الروائية التونسية المعاصرة. وهي التي تستحقّ أن تمثّل مدرسة في الكتابة الروائية الجامعة بين الانغراس في البيئة وعمق الفكرة وشفافية السرد ونقاوة اللغة وسلاستها. مصطفى الفارسي بدوره مثّل علامة بارزة في قراءاتي، قرأت له ’المنعرج‘ و’القنطرة هي الحياة‘. وتأسفت لأنّ هناك روائية اسمها علياء التابعي لها رواية وحيدة اسمها ’زهرة الصبّار‘، لكن لم يتح لي الاطلاع عليها، بعد أن مدحها أمامي بعض ممّن أثق برأيهم، وهناك أيضا حنّا مينا في عديد رواياته. لكن باستثناء ’الياطر‘ لم أشعر بميل كبير لتوجهه الواقعي الاشتراكي، إذ ينحو نحو الخطابية.. ولا تبدو شخصياته حقيقية، العيب الكبير الذي جاهدت لأتخلص منه في روايتي الأولى ’الأخدود الذي كان نهرا‘.

“لا أحبّ الواقعية الباردة والأسلوب الخطابي”

 عبد الرحمان منيف أيضا عَلَمٌ باسمه في سياق من تأثرتُ بهم.  ’شرق المتوسط‘ التي أنهيتها بصعوبة لثقل شديد شعرت به في لغتها. بوسعي الاسترسال في سرد الأسماء، وأغلبها ليس جديدا على القارئ والجميع تأثروا بها. ما قد أفاجئكم به هنا أنني كرهت نجيب محفوظ وواقعيته الباردة وانحصار أفق أغلب رواياته في عالم الحارة. قد يكون مجتهدا في نصوصه، لكنّه ليس مبدعا ولا تهزني أعماله. قرأت بالانكليزية أيضا بعد أن تعلمتها في مطلع الثمانينيات روايات لجين أوستن و’كوخ العم توم‘ في نصه الأصلي. و’غاتسباي الكبير‘ لسكوت فيتزجيرالد وطبعا روايتي جورج أرويل الكبيرتين ’1984‘ و’مزرعة الحيوانات‘ … وأفضل رواية قرأتها بالانكليزية هي رواية شتاينباك ’عنب الغضب‘،  كازانزاكي روائي عظيم، و’زوربا‘ رواية عظيمة، لكن فيها فصول طويلة مضجرة، بل زائدة، والمؤلف في نصه يبدو عندي مثل السيد المسيح، ذو قداسة لا تمسّ ولا قبل لي بمناقشته مطلقا،  فما يقوله في أدبه هو الحق الذي لا يداخله باطل ما يشعرني بالاختناق تجاه هذا اللون من الرواية. 

كتابات الثوريين لم تحتوِ أعمالا روائية جديرة بالقراءة. فغلبة الخطاب المباشر والتحجج بسمو القضية كمطية للتغطية على الرداءة الجمالية مثلت غشا شنيعا للذائقة. لذا تراني أعتمد الحذر الشديد تجاه كل نص يقدم نفسه على أنه بصدد تبني قضية من القضايا “الكبيرة” مثل العنصرية أو الجندرية أو التهميش أو غيرها،  فالذي يبقى من النص في النهاية هو قيمته الجمالية. بوسعنا أخذ حكاية صغيرة ومع سرد متقن يثوّر الزوايا المعتّمة فيها نستطيع تحويلها لعمل أدبي مبهر… فلا أفق لنصّ يتكأ على سردية كبيرة ليمرّر أدبا صغيرا.

غلاف رواية ‘غاتسبي العظيم’

انحياز: في روايتك الأولى تقدم لنا شخصية “دولة ولد الهمامي” الذي يشكل التداخل بين حاضره وماضيه جزءًا أساسيًا في صياغة الحبكة الروائية، هل تحدثنا عن علاقتك بهذه الشخصية وبهذا النص ’لأخدود الذي كان نهرا‘، الذي يمثل باكورة أعمالك الروائية؟

ع.ح: لكي أكون دقيقا في الإجابة فإنّ ’الأخدود الذي كان نهرا‘ لم  تكن بالضبط تقديما لدُولة ولد الهمامي، بل دولة ولد الهمامي هو الذي قام بتقديم  شخصه وعالمه للقارئ. كان السرد في معظم فصولها يتم على لسانه هو والرؤية بعينه هو. كان هو السارد والمسرود في نفس الوقت. وفي فصول أخرى كان يتم الانتقال من السرد على لسان دُولة الطفل  إلى السرد على لسان الراوي العليم. يتماهى الصوتان في فصول عديدة  تماما لحد يعسر التمييز بينهما. دُولة هذا مزيج من حقيقة وخيال، اعتراف وتبرئة، استحضاره على تلك الشاكلة مثل لي محاولة مستمرة لاستعادة حسّ براءة شبه مندثر. وفي نفس الوقت كان إصراري على تقديم الأحداث على لسانه حيلة للتهرب من تبعات كثيرة. فكنت كمن يريد القول مثلا إنّ هروب العائلة من ريف الجوف في السنة التي بدأت فيها موجة حفر الآبار وتدمير البيئة هناك كان أمرا لا حيلة لي فيه لأنني كنت طفلا.

وها هو الطفل أمامكم يروي ما حدث ويؤكد براءته،  تذكر صديقي حديثي الطويل عن الشعور الحاد بالذنب وعدم قدرتي على مواجهته.. أي بالتالي عدم قدرتي على سرد حكاية النهر على لسان شخص بالغ. وذلك باستثناء الفصول التي سردَت رحلة عودة ولد الهمامي – وهو قد صار كهلا في الأربعينات من عمره  – في  الاتجاه المعاكس  سنة 2006، عائدا إلى الجوف، التي وصفها الراوي العليم أنّها مثّلت له “رحلة إنقاذ”. ما الذي جاء لينقذه وقد مات النهر منذ عقود؟! لست متأكدا من نوع حالة التماهي بيني وبين دُولة الطفل. العلاقة إشكالية تماما، لكنه فعلا “أنا” في مستويات عديدة. وقد أكون تركته وحيدًا يتكلم ليفرغ ما عنده ثم يصمت إلى الأبد، لأتخلص منه ومع خلاصي منه أنهي مرحلة من التشبث الطوباوي بحلم ميّت.

تولد الأنهار ثم تموت، وتفور العيون ثم تغور، ما جدوى الحنين؟  أذكر بعد العودة مباشرة من الكاف والعائلة قد عاودت الاستقرار في القيروان، أنني كنت دائما ولمدة طويلة أنظر نحو الشمال فأرى سلسلة جبال وسلات  تترامى من مسافة بعيدة – قرابة الـ 50 كلمتر-  ممتدة من الغرب نحو الشرق وأرى في وسطها تماما ثلمة، هي عبارة عن حفر طبيعي واسع في الجبل، فكنت أقول: لو تتّسع تلك الثلمة أكثر لتمكنت من مكاني في القيروان من رؤية “ريف الجوف” الذي عشت فيه طفولتي. علاقتي بـ”دولة الطفل” كانت شبيهة بعلاقتي بـ”ريف الجوف”. من تلك المسافة، لم يكن نظري مصوّبا نحو الشمال بل نحو الماضي… الماضي الذي لم يعد بالإمكان استعادته وصارت ذكراه عبئا مضنيا. دُولة مثّل لي تفريغا لذاكرة مثقلة ومعبّئة بالحنين والأمل المخيَّب معا، التواء دائمٌ لعنقي نحو الماضي الذي يطاردني شبحه.  التقيته بعد طول فرار منه واتفقنا على سرد حكايتنا المشتركة لإنهاء المسافة وتوسيع الثلمة المتيحة  للرؤية، لكنّي لم أستطع القبض على ملامحه. أصابه الزمن بالتشوه.

 رغبت في سرد الحكاية أولا على أنها نص توثيقي أو على شاكلة مجموعة من الذكريات مصبوبة بشكل مباشر فجّ. لكنّ الكثير من العناصر كانت تعوزني، لأنني نسيت الكثير من التفاصيل،  فكانت الرواية خلطة من الواقع والتخييل. لتكون حكاية الطفل وعالمه على لسان الطفل إعادة رسم لعالمه بعينه هو، وسأحاول أنا التنحي جانبا فلا أتدخل في انفجاراته، سيفجر عواطفه.. سينحو نحو المبالغة.. سيضخم الأشياء.. سيبكي ويطلب استعادة عالمه.. ليفعل ما يشاء.. على أن لا يعاودني بروز شبحه.. لأنّ ملازمته لي صارت عاملا  معرقلا في فهمي للحاضر. وهكذا فرضتُ عليه سكنى الرواية.  وبذلك  ارتقى من شبح سجين ساكن في دهليز الماضي إلى مستوى رمزٍ فارق غنيّ بأبعاده في أفق المتخيل.


بعض روايات عادل الحامدي

انحياز: في رصيدك الآن خمسة أعمال روائية، كان آخرها ‘سفر إلي الينابيع’، وهي الرواية التي عرضت أخر نسخها للبيع بـ500 دينار، هل حدثتنا عن الأسباب التي دفعتك للقيام بمثل هذا العرض الغريب؟ هل للأمر علاقة بالتهميش الذي قابلتك به الدولة التونسية و أصحاب “النفوذ” في أوساط الانتلجنسيا التونسية؟


“أبحث عن انتلجنسيا مغايرة اتيقيا لتلك السائدة”


ع.ح: أعتقد أنني تجاوزت وضع الشكوى من الدولة التونسية ومن التهميش من أصحاب النفوذ من مالكي “باتيندات” القبول في أوساط الانتلجنسيا في تونس.  فشكوى مثل هذه تعني أنني أبحث عن بطاقة الاعتماد من قِبلهم. أي أنّني أعترف بهم مرجعية وبوابة نحو الاعتراف بي ككاتب، وهم الذين حكمت عليهم نهائيا بأنهم جملة من العلاقات الشللية وحسمت أمري بالسير على ضفة مغايرة وبعيدة عنهم… هؤلاء تركتهم خلفي.

 ’سفر إلى الينابيع‘ هي الجزء الثاني من روايتي الأولى ’الأخدود الذي كان نهرا‘ وتمثّل امتدادا لرحلة ولد الهمامي. لكن بالإمكان كذلك قراءتها كنص مستقل دون أن يفقد القارئ حسّ الترابط بين الأحداث، وأنا أعتبرها “أيقونة أعمالي”… في الحقيقة، الأمر متعلق بموت حسّ القراءة عند الناس والشكوى هي من غيابهم، ولذا أردت تحفيزهم. لكن سيبدو مضحكا القيام بعمل تحفيزي عبر عرض بذلك الشطط، أنا لم أكن جادا مطلقا في الرقم 500 د إلا على سبيل المجاز، والتثمين كان رمزيا في محاولة مني لاستعادة قيمة ضائعة. آخر نسخة طلبها مني صديق في صفاقس وبعتها له بثمنها المعتاد. وكلها لم تزد على خمسين نسخة طبعتها بجهد جهيد بعد تدخل من صديق آخر. كنت أتمنى لو أجد في القيروان عشرة قراء يقرؤون روايتي هذه ويناقشوني في مضامينها.. ذلك كان سيمثل لي مكسبا ثمينا يعادل بيعها بخمسمائة دينار للنسخة الواحدة.. فهو حالة بحث عن انتلجنسيا جديدة مغايرة تماما  ايتيقيا ومعرفيا لما هو سائد. تحرير لفعل القراءة من حصار “النخبة”.. لكن لم أجد أحدا.  وأعترف من ناحية أخرى بحرج حالتي المادية، ولا أنكر  أنّ من بين دوافعي للكتابة هو بحثي عن الخلاص من حرج الحالة هذه. فأنا ذو إعاقة.. هذه الإعاقة تبدو غير مرئية (سمعية)  لكن من يعانون منها يدركون معنى “الموت الاجتماعي” الذي تتسبب فيه.. وقد أضعت عملي الحرفي في غمرة الانهيارات المتتابعة لقطاع الحرف اليدوية. آفاق المستقبل تبدو لي قاتمة تماما. 

صورة عادل الحامدي عارضا روايته ‘سفر إلى الينابيع’ للبيع بـ 500 دينار

انحياز: وسط هذا الظروف الصعبة التي تتحدث عنها واللامبالاة التي تعاني منها مواطنا وروائيا، ما الذي تجده قادرًا على خلق واقع جديد قوامه المعرفة المرحة والايتيقا التضامنية التي تدعو لها روائيا، وهل من الضروري على الروائي أن يكون منخرطا في مشروع سياسي؟

ع.ح: بالتأكيد ولا جدال في ذلك. ولا انفصال في رأيي بين حلقات الاجتماعي والسياسي والأدبي، وأحتقر على الدوام الكتّاب الذين بلا موقف ولا مشروع، بدعوى أنّ مهمتهم تتوقف عند حدود الكتابة بمعناها الهلامي غير المحدَّد،  كأن يزعموا أنهم “يكتبون من اجل الإنسان بمعناه الشمولي” (نخالنا نعتقد أنهم كانوا يكتبون من أجل النمل الاحمر)  لكن من الضروري أن أحدّد لك  تعريفي لمفهوم السياسة: هي مهمة اجتماعية أساسا تتعلق بالإمساك الجماعي بالقرار في مختلف مستوياته. وبالتالي فإنّ ممارسة السياسة هي ممارسة يومية نقوم بها جميعا، أو يتعين علينا أن نقوم بها جميعا.. في دفاعي عنك دفاع عن نفسي. المصائر الطبقية مترابطة، وعلى أساس هذا الفهم، الذي هو من وجوه  محبة الآخر والاعتراف به، يولد المشروع بمستوياته الوجودية كلها. من الضروري تشريك الناس الذين في غالبيتهم متضررون من تهميشهم وطردهم من ساحات الفعل السياسي لكي  نقضي على حالات ولادة  تمايز يمنح طبقة من الناس  أفضلية على أخرى…

على مستوى قريب من هذا لا معنى للتفرقة بين ” عاملو الفكر ” و” عاملو الساعد ” الذي لا يعني شيئا غير فصل الفكر عن حركة الواقع وإنتاج نخبوية كريهة ومهينة. كانت لي تجربة قصيرة في العمل السياسي بمعناه التقليدي مع حزب العمّال ثم الجبهة الشعبية، دامت سنتين من 2012 حتى 2014، وكانت تجربة مخيبة جدا بسبب غلبة البيروقراطية والمركزية ودعاوى الانضباط للهرمية الحزبية على الحوار الأفقي التشاركي، وهي التجربة التي وجهتني وجهة أناركية فيما بعد. اذ صرت مؤمنا بالتشاركية ولا أرى أفقا لإنتاج واقع جديد مغاير باعتماد الحلول الفردية أو النماذج المسقَطة من فوق.. النظرية تولد في أفق الممارسة وتمشي حذوها ولا تتخطاها.

 في روايتي الثانية ’أرغفة الذل‘، ناقشت طويلا مفهوم الملكية الخاصة واعتبرته أساس مأساة شخصيتيْ الرواية الرئيسيتين: سعيدة وابنة أختها سلوى. ولادة الواقع الجديد، الذي كما قلت، قوامه المعرفة المرحة والايتيقيا التضامنية يمرّ عبر مصادمة أوضاع مثل الملكية الخاصة باعتبارها حالات لصوصية رسخها التقادم، وادانتها بصرامة باعتبارها أوضاع تاريخية قابلة للتجاوز. أساسا الرأسمالية هي حالة انحراف فظيع في مسار التاريخ البشري  وليست قدره المقدور. الكتابة التحريكية لا جدوى منها وهدفها الأساسي هو البروز الشخصي والمجد الفردي. لابد من صدامية عنيفة لا هوادة فيها لكلّ ما هو مسبّب رئيسي لمآسينا.

انحياز: الصديق عادل، هل هناك مشروع آدبي (روائي أو غير ذلك من أنماط الكتابة الادبية) جديد في الأفق؟ وان كانت الاجابة بالتأكيد أو بالنفي، ما سبب هذا الخيار!؟

ع.ح: الافق يمتلا بالوعود دوما يا صديقي.. هههه. اظن ان في خلفية سؤالك محاولة لتلمس مدى ما اشعر به من احباط بعد خمس روايات منشورة تكاد تكون غير مقروءة . وان كان قد داخلني الياس من جدوى الكتابة .. ليس على مستوى تحسين وضعي الشخصي فحسب بل على مستوى ما اضافته الرواية للعالم . وهل قدمت خير ا لذلك العالم ومنحته خيارات اخرى يمضي نحوها … هي ليست خمس روايات بل ثمانية .. هناك ثلاث روايات مخطوطة تنتظر النشر . واعرف ان هذا سيكون مرا بالغ الصعوبة . هناك في اليد مخطوط روائي يحمل عنوان ” حلقة مكسورة ” هو عبارة عن رحلة طويلة في عالم شخص أصم . طرق على بوابات عالم مجهول لاغلب الناس ونبش فيه . هل تعتقد انني بعد ثمانية اعمال روائية كتبتها كلها في اجواء الاحباط والتهميش العام مازلت اشعر بتاثير هذا التهميش على مسبرتي الابداعية .. بوسعك فهم هذا السؤال على انه تاكيد على ابداع قادم بكل تاكيد .. من كان مثلي لم يعد يحفل بامل او بياس .. ما أحياه هو الصمود فحسب ، افضل ما كتبته لم اكتبه بعد . ولا اعرف هل ساكتبه يوما واقر انه ذروة ما ابدعته فلا مزيد عليه . ام سيظل هذا الافضل المنشود مثل صورة الافق البعيد ، نمضي نحوه على الدوام ولا نيلغه ابدا .. رواية “حلقة مكسورة ” ( وروايتين اخريتين هما ” شاي منتصف الليل – اسطورة ريفية ” ، و ” سبعة ايام من الاعتصام ” الذي يمثل معالجة روائية لاعتصام القصبة2 ) تسرد محنة انسان فقد سمعه مع غياب الموسيقى من حياته . هو نفسه دولة ولد الهمامي الذي عرفناه في الاخدود وسفر الى الينابيع ، اعتبرها تجربة روائية فارقة . لامكانية استقطار الموسيقى عبر النظر .. ومن خلال المحسوس المرئي . بعد فقد السمع ، في رؤية محايثة ” لغرنوي” في رواية” العطر” الذي قضى حياته يبحث عن عطره المنشود ، وهي الان تمثل لي ذروة ما بلغته ..لكن عندما اتجاوزها ..اي عندما اراها منشورة ويقراها بعض الناس ، ستبدو لي عملا قديما ينبغي علي تجاوزه ..وهكذا .. المشاريع لا تفتا تختمر في راسي طوال الوقت . لكن لا اعرف الصورة التي ستتجسم بها .

كيف يولد النص ؟ هناك قادح بالتاكيد ..لكن يعسر علي التكهن به . هناك الفكرة ومعالجتها. لكن الافكار كثيرة ومثلها اشكال المعالجة . والاحترافية خطيرة على الابداع واصالته . قد تتحول الى روتين . من الافضل لي ( ومما اعتدته كذلك في تجربتي ) ان ادع غزال الابداع شاردا لا ارهقه بالجري خلفه . فكلما جريت خلفه ازداد نفورا .. واذا تركته أفاجيء به جاء طائعا نحو خيمتي ..هذا يعني ان العراء بمعانيه الادبية والاجتماعية غير منصوح به للكاتب. لابد للكاتب من خيمة . فان لم يكن يكتب عليه دائما أن يقرأ لمن يكتبون ويعيش الحياة بحواس متيقظة ويفهمها . الكتابة هي ترجمة ذلك الفهم ، والفهم حالة حب ،فالتوقف عن الكتابة هو بمعنى من المعاني يترجم عجزا عن الحب . عقما وجدانيا قبل ان يكون عقما ادبيا او تعبيريا . وانا باي حال لا ارغب في بلوغ هذا العمر.


صورة لعادل الحامدي رفقة ابنه 

انحياز:أ ترك لك مساحة حرّة لتخاطب فيها جمهور انحياز. ما الذي توّد أن نختم به هذا اللقاء الذي كان سفرة بين الأخدود والنهر وبين اليأس والرجاء؟ 

ع.ح: أشعر بالامتنان لموقع انحياز لهذه المساحة الحوارية التي أتاحها لي. وأعتبر أنّ اعترافا وفهما كالذين جسّمهما هذا الحوار هما أفضل ما قد يحظى به الكاتب. قد لا تكون نسب المتابعة مليونية، لكن الآن ندرك أن هناك من يهتم بنا ويُعني بأمرنا ويبحث عنا في زحمة العالم لأننا نعني له شيئا بالغ الأهمية. لو ننبذ اللامبالاة بمصائر الآخرين معتبرينها مترابطة بمصائرنا نحن، لو نفعل شيئا من أجلهم.. نكون قد أقمنا النواة للعالم الجديد الذي ننشده. النيوليبيرالية صّيرت الفردانية دينًا، ومحاربتها أوكد فروض تأكيد إنسانيتنا وإصرارنا على عالم جديد في وجه موجة التوحش هذه. الكتابة الروائية هي إحدى أدوات فهمنا لبعضنا البعض، وبالتالي زرع قيمة الحب باعتباره حالة فهم للبشر. من العار على أي كاتب أن يعتبرها جسر نحو مجده الفردي، رغم أنها فعلا ممارسة فردية. لكن في محتواها وهدفها النهائي هي عبارة عن احتضان للجماعة الإنسانية وتأكيد على رحابة الوجود الإنساني واحتفاله بكل أشكال الاختلاف. شكرا مجددا لكم وإلى لقاء آخر. 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !