الأوجه المختلفة لنصرة فلسطين

بقلم ماكس آيل

نقله عن الانقليزية هيثم صميدة-قاسمي


ما هو دور الثقافة في عالم استعماري رأسمالي؟ بلغة أخرى: هل يدعم الاستعماريون والرأسماليون الثقافة بطريقة بريئة؟ يحمل السؤال أهمية عالمية ولكننا نرى العالم من خلال الحياة اليومية مثلما هو الحال بالنسبة للإعلان الذي نشرته مؤخرا المحطة الفنية B7L9، الواقعة في الحي الشعبي “البحر الازرق”. يشير الإعلان إلى تمديد عرض أعمال المنتج الثقافي الإسرائيلي-التونسي ‘رافاييل “رفرام” حدّاد’. بررت B7L9 هذا القرار بالادعاء بأن النقاش حول اليهودية يمكن أن “يلقي الضوء على تفكيرنا الأوسع حول فلسطين” وذلك من خلال ربط ‘حدّاد’ على نحو ثابت بفلسطين وربط اليهودية التونسية بكليهما وذلك بطريقة ضبابية.

من هو ‘حدّاد’؟ ولد ‘حدّاد’ في جربة عام 1976، واستقر في أراضي 48 من فلسطين المحتلة عندما كان في الثانية من عمره وعاد إلى تونس في عام 2015. ومنذ ذلك الحين، أصبح عنصرا أساسيا في الساحة الفنية التونسية.

لقد كان موضع جدل في حركة المقاطعة التونسية في نطاقها الأوسع بسبب جواز سفره الإسرائيلي وموقفه المزعوم المناهض لإسرائيل أو المناهض للصهيونية أو المؤيد للفلسطينيين أو المناهض للاحتلال – تختلف الصيغة باختلاف الحالة المزاجية واللحظة  والمُتلقي. سنعود إلى معنى الظلال الرمادية التي تمر من خلال مثل هذا الموقف لأنه يمس أبسط الأسئلة السياسية: من هم أصدقاء المرء ومن هم أعداؤه؟ في الواقع، هناك سؤال أكثر أهمية في قلب هذه العاصفة الصغيرة يذهب إلى ما هو أبعد من أوراق ‘حدّاد’: ماذا يعني أن تكون مؤيداً لفلسطين اليوم؟ ومن يملك القدرة على تشكيل هذا المعنى؟

دعونا نبدأ بالأساسيات. ‘حدّاد’ مواطن إسرائيلي وتمنع المقاطعة الشعبية العربية أي اتصال مع الإسرائيليين في المناسبات الأكاديمية والثقافية. فبالرغم من أن الحكومات التونسية التي تعاونت مع الإمبراطورية بأشكال متفاوتة قد أشاحت بوجهها عن قوانين البلاد المكتوبة حبرا على ورق، فإن حاملي جوازات السفر الإسرائيلية ممنوعون من دخول تونس، على الأقل بجوازات سفرهم الخاصة، دون تنسيق خاص. هذا هو القانون. وبعبارة أخرى، هل القانون السيادي للدولة التونسية يعني شيئا؟ هل المقاطعة الشعبية تعني شيئا؟

هناك شريحة من الرأي العام، على الأقل داخل بيئة حضرية معينة، تعكس ربما التشويش المتعمد الذي يمارسه ‘حدّاد’ وذلك إما لأنها لا تعرف بأنه يحمل جواز سفر إسرائيلي أو أنها لا تهتم لذلك. بالنسبة للبعض منهم، بالتأكيد، لا أهمية للمقاطعة العربية. ولذا، أود أن أطرح عليهم السؤال التالي: ماذا يتوقع الناس، على وجه التحديد، أن تفعله تونس من أجل القضية الفلسطينية إذا كان من الممكن التخلص من الحملات المؤسسية أو القانونية أو الشعبية المناهضة للصهيونية عندما يكون ذلك مناسبًا؟ هل فلسطين بانوراما من المعاناة والموت أم أنها بوصلة يجب أن توجه كل خطوة سياسية؟ إذا كانت مناهضة التطبيع مجرد “شعبوية” و”استبداد”، فهل ينبغي لتونس أن تتبع النمط الغربي للمقاطعة والتحريض من أجل الحقوق الفلسطينية، كما لو أن تونس هي باريس وليست جزءًا لا يتجزأ من العالم العربي تتشارك معه في مواجهة مسألة الوحدة الوطنية العربية والتنمية التي تشكل إسرائيل تهديدا خطيرا لها؟ ألم يحارب المقاتلون التونسيون إسرائيل عام 1948؟ ألم يقصف الجيش الإسرائيلي تونس؟ ألم تغتل إسرائيل خليل الوزير ومحمد الزواري؟ هل يعني هذا التاريخ شيئا؟

يقبل العديد من التونسيين بالفعل أنه إذا رفض حامل جواز السفر الإسرائيلي، وخاصة المولود في تونس، الارتباط بإسرائيل، فسيتم الترحيب به في تونس. ويسمح القانون الإسرائيلي بالتخلي عن الجنسية. ‘حدّاد’ لم يفعل ذلك، أو إذا فعل ذلك، فإنه قد امتنع عن الإدلاء بأي إعلان عام عن ذلك. في ظاهر الأمر، تبدو هذه الضجة برمتها سخيفة، وتشتيت انتباه، وأقرب إلى الهلوسة: ‘حدّاد’ يحمل جواز سفر إسرائيليا. ومن يستضيفونه مُطبّعون.

ومع ذلك، فإن ‘حدّاد’ معروف على نطاق واسع بأنه يهودي تونسي مناهض للصهيونية، وهو معطى يستخدمه المدافعون عنه لاتهام منتقديه، ضمنًا أو صراحة، بمعاداة السامية – لأنه إذا كان معاديًا للصهيونية، ولا يزال هدفًا، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا على حساب دينه. نحن هنا ننتقل من الأرضية الصلبة للمواطنة الإسرائيلية والتخلي عنها إلى أرض الإيمان والأيديولوجيا الأكثر انقسامًا والأقل صلابة. يشكل مثل هذا التحول إشكالية، خاصة لأنه يدعو إلى الخلاف حول التفسير الذي من المفترض أن تتجنبه الإجراءات الواضحة المناهضة للتطبيع.

ومع الاعتراف بعدم شرعية هذا النقاش، فلنبدأ بالتوقعات “الأرضية” المنتظرة من أي مناهض للصهيونية، من أي جنسية، عندما يتعلق الأمر بالأيديولوجيا والخطاب السياسي. وهو أن نقول بوضوح وصراحة ودون لبس: “أنا أعارض الصهيونية وأؤيد تحرير فلسطين”.

بالإمكان أن نجد تصريحات لـ’حدّاد’ بأنه لا يحب الصهيونية، وأنه لا يحب القومية، وأنه لا يحب الاستعمار. ولكننا لا نجد عبارة “أنا معاد للصهيونية” – بل إنه يعترض قائلاً: “أنا لا أستخدم تعريف مناهضة الصهيونية”. وفي الواقع، فقد أصر على تسليط الضوء على نضال “القوى المهمة داخل إسرائيل التي تدفع ثمناً شخصياً في محاربة الاحتلال” – الاحتلال، وليس الصهيونية.

من الناحية الإيديولوجية، دعونا نفكر في ردة فعلنا تجاه أميركي تم سؤاله عما إذا كان مناهضا للعنصرية فأعلن أنه غير عنصري قائلا أن حياة كل البشر مهمة (All lives matter). هذا من شأنه أن يدق ناقوس الخطر، لسبب بسيط وهو أن الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله هو محاولة (إن لم نقل النجاح في) المعارضة النشطة للإيديولوجيات والممارسات التي تفرض ــ بعنف في كثير من الأحيان ــ سبلاً مختلفة للحصول على الحقوق والامتيازات الاجتماعية والمادية على طول خطوط غير مشروعة.

تتمثل “التوقعات الأرضية” – التي هي في الواقع، تحت الأرض – في الالتزام بالحد الأدنى من مطالب حملة المقاطعة. ترتبط المقاطعة بالمواطنة السياسية، وهي أحد العناصر الهيكلية لعالمنا وأحد القنوات الحاسمة للنشاط السياسي. قد تكون المواطنة مكروهة، ولكن لا يمكن تجاهلها أو تناسيها حسب الرغبة. برّر ‘حدّاد’ بأنه لا يستطيع التنازل عن جنسيته الإسرائيلية بسهولة فرغب في أن تتم معاملته كمواطن أوروبي أو تونسي. هذا ادعاء غريب فلنجاريه للحظة. كل انتماء لديه الحد الأدنى من الالتزام السياسي إما المنبثق من حملات المقاطعة (BDS) أو المقاطعة العربية التقليدية الأكثر اتساعًا. وتحظر حملات المقاطعة التطبيع الذي يتم من خلال التبادل الثقافي ومقاطعة المؤسسات الثقافية الإسرائيلية التي لا تدعم دعوة المقاطعة بشكل صريح. وكما توضح الحملة الفلسطينية للمقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل (PACBI)، فإن الهدف هو “المقاطعة والعمل على إلغاء الأنشطة التي تشمل إسرائيل ومجموعات الضغط التابعة لها والمؤسسات المتواطئة أو التي تطمس انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان”.

كان قد صرح ‘حدّاد’ بأنه عمل مع متحف هرتسليا الإسرائيلي ومتحف تل أبيب للفنون Artport الواقع في تل أبيب وأنه قد قبل “جائزة الفنان المجتمعي” من وزارة التعليم والثقافة الإسرائيلية – نفس الحكومة التي ترتكب الإبادة الجماعية في قطاع غزة. من الواضح أن ‘حدّاد’ لا يلتزم بإرشادات BDS/PACBI. وعلى الرغم من أنه يطلب معاملته كمواطن تونسي، فإنه لا يلتزم بالشعار العربي الأوسع المناهض للتطبيع والذي يمنع أي اتصال مع المؤسسات أو الأفراد الإسرائيليين. يسافر إلى فلسطين المحتلة بانتظام. كما تمت رعايته ودعمه من قبل المؤسسة الخيرية الصهيونية اليمينية، مؤسسة شوسترمان (Schusterman Foundation) حتى عام 2022 والتي تعمل حاليًا على “جمع الأموال لتوفير الحماية والإمدادات اللازمة لجنود الاحتياط الإسرائيليين”.

في ظاهر الأمر، انتهك ‘حدّاد’ المقاطعة الثقافية مرارا وتكرارا وبشكل علني. وزيادة على ذلك فإنه أشار إلى نفسه تكرارا كعضو في منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام”، التي تتبنى المقاطعة الثقافية، ولها علاقتها الإشكالية والمراوغة مع معاداة الصهيونية. كما أن إشاراته إلى رفضه الخدمة العسكرية في الضفة الغربية عام 2002 ليس لها تأثير كبير على رفضه اتباع أي شكل من أشكال المقاطعة الثقافية، وهي شكل من أشكال العمل الجماعي المشترك الذي لا يسمح بالاستثناءات التي يعتقد ‘حدّاد’ أنه ينبغي صياغتها لنفسه على أساس “نشاطه السياسي”.

علاوة على ذلك، يبدو أن ‘حدّاد’ قد طمس بعناية فائقة الخطوط الفاصلة بين نفسه وبين الشخص ومواطنته وجنسيته وجواز سفره ودينه. فالمدافعون عنه يتهمون منتقديه بمعاداة السامية وعدم القدرة على الفصل بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. لقد ألمح بالفعل إلى أن جميع التونسيين المؤيدين لفلسطين قد يكونون معادين للسامية، قائلاً: “نحن [اليهود] أقلية، وهذا هو الاختبار، لمعرفة ما إذا كان الاحتجاج من أجل فلسطين له علاقة بمساعدة الأقليات أم أنه مجرد ذريعة لمهاجمة اليهود.” دعونا لا نتوقف عند الكذب الواضح المتمثل في اختزال القضية الفلسطينية في الدفاع عن “أقلية”، أو اتهام التونسيين بكراهية اليهود لأن بعض عناصر السكان استسلموا للدعاية الصهيونية المتواصلة التي تساوي بين اليهود والصهاينة – وهو خط لا يكاد ‘حدّاد’ يدعمه عبر رفضه اتخاذ موقف واضح معادي للصهيونية.

على كل، كفانا من ‘حدّاد’ الشخص ولننظر إلى ‘حدّاد’ باعتباره الرسول السياسي ودعونا نفكر في سبب اجتذابه لرعاية المؤسسات الثقافية الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية.

يمكننا بسرعة التخلص من الفكرة الساذجة بأنهم يرعون فنه بسبب صفاته الجمالية. الرعاة الإمبراطوريون لا يروجون للفن لأنه يجذب العيون، بل لأنه يجذب العقول.

تمس رسائل ‘حدّاد’ الجمالية والسياسية شيئًا أساسيًا في التاريخ العربي الحديث: تجربة السكان اليهود في الدول العربية مصحوبة باستعادة خيال ما قبل الانهيار – خيال اليهود قبل القومية العربية ما بعد الاستعمارية. وترافق ذلك رمنطقة زيت الزيتون والقوارب الخشبية العتيقة وسيارات الأجرة الجماعية البيضاء المهجورة والقذرة وتلال الوزف ولوحات أخرى من الجنوب وغيرها من التأملات الخاصة بتونس القديمة كما تُرى من خلال ضباب الحنين والهجر والخسارة الكونية التي أعاد ‘حدّاد’ خلقها أو إحيائها فأصبحت ملموسة في إبداعات الطهي العابرة التي تدعو إلى النوستالجيا والحِداد وفي نفس الوقت يتم استخدامها كأداة للتوظيف (instrumentalization).

كيف يتم توظيف هذه الثقافة؟ ينشر ‘حدّاد’ بتكرار في وسائل التواصل الاجتماعي دعاية تتوافق مع الفكرة الصهيونية القائلة بأن شتات وهروب الجاليات اليهودية من الأراضي العربية مسؤولية مشتركة بالتساوي بين القومية العربية والصهيونية. ويشير بأن “القادة العرب الذين قاموا بترحيل وطرد اليهود قد قدموا أفضل خدمة للصهيونية”. إن مثل هذا التفسير الغريب يتعارض مع حقيقة أن “العروبة كانت بطبيعتها أكثر مسكونية من الصهيونية”، على حد تعبير المؤرخ أسامة المقدسي.

ومع ذلك، سيكون من الحماقة أن ينكر المرء أن الحكومات العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار كافحت مع قومياتها وأقلياتها الداخلية من اليهود إلى الأكراد. في الواقع، قد يكون المرء غير صادق وانهزاميا إذا لم يلاحظ أن مثل هذه التناقضات الداخلية كانت واحدة من عدة عوامل أدت إلى تعزيز الدولة الصهيونية من خلال تزويدها بالمزراحيين (اليهود العرب) موردا بشريا. «غبار بشري بلا ثقافة يهودية أو إنسانية» حسب العبارة العنصرية لديفيد بن غوريون.

على الرغم من ذلك، يقوم الشرفاء بوضع هذه الطائفية في سياقها التاريخي. فحتى خلال الفترة الاستعمارية، لم تنشأ مثل هذه التناقضات من العدم، أو من النزعات الأصولية للمجتمعات العربية. لقد كان اليهود لفترة طويلة أكثر أمانًا في العالم الإسلامي مما كانوا عليه في أوروبا أين تعرضوا للإبادة الجماعية. لقد تم استيراد القومية العرقية من الغرب. وبذلت أوروبا كل ما في وسعها لتعزيز الطائفية العدوانية من مرسوم كريميو في الجزائر الذي أعطى اليهود الجنسية الفرنسية إلى الغزو الصهيوني البريطاني الشامل الذي أجج الانقسام الطائفي.

بالفعل، تشير الأبحاث إلى سلسلة من الجرائم الإسرائيلية ضد الكوسموبوليتانية العربية. تورط الموساد، طبقا لما وثقه آفي شلايم، في تفجيرات المعابد اليهودية في العراق. وفي المغرب، على حد تعبير المؤرخين الصهيونيين بيني موريس وإيان بلاك، كانت هناك “عملية استمرت سبع سنوات أدارها الموساد جلبت سرًا عشرات الآلاف من اليهود المغاربة إلى إسرائيل”. وفي مصر، كتب المؤرخ جويل بينين بأنه “لا يمكن لأي نقاش حول وضع اليهود… بعد عام 1948 أن يكون مقنعا دون الاعتراف بأن إسرائيل ومصر كانتا في حالة حرب من عام 1948 إلى عام 1979”. وبعبارة أخرى، كان الصراع بين القومية العربية المناهضة للاستعمار والصهيونية المدعومة من الإمبريالية الاستعمارية هو السياق الذي أصبح فيه الوجود اليهودي في مصر هشًا. فكما يتابع بينين: “لقد تضرر أمن الطائفة اليهودية المصرية بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب اندلاع حرب السويس/سيناء”.

وفي تونس، تدهورت سلامة المجتمع اليهودي بعد معركة بنزرت، في أعقاب النضال المتعثر ضد الاستعمار في تونس، بعد أن تعاون بورقيبة والفرنسيون في تدمير تلك الشريحة من الحركة الوطنية التونسية التي يقودها صالح بن يوسف، الملتزمة بإنهاء الاستعمار بشكل كامل. وصلت سلامة المجتمع اليهودي إلى الحضيض خلال الحرب الأمريكية الإسرائيلية عام 1967 ضد دول المواجهة العربية. خلال تلك الحرب، أصبح تحالف تونس مع الولايات المتحدة نقطة خلاف متفجرة. اندلعت المذابح في تونس في أوائل جوان 1967. ومع ذلك، كما يقول أحد كبار مؤرخي اليهود المغاربيين: “قال لي أحد اليهود التونسيين سرًا إن ذلك كان ‘عملًا منسقًا، تم التخطيط له بالتفصيل في غرف عليا'”. ذلك هو نظام بورقيبة المعادي للقومية العربية، نفس النظام الذي اغتال بن يوسف والذي سجن البعثيين التونسيين من بعد.

التزم ‘حدّاد’ الصمت تجاه الأنظمة الملكية العربية الرجعية حليفة إسرائيل والمروجة لمعاداة السامية الصريحة كما أنه يساوي، من خلال إشارات مشوشة إلى القومية العربية، نظام بورقيبة التونسي، الموالي للولايات المتحدة، مع الحكومات العربية المناهضة للولايات المتحدة والمؤيدة للفلسطينيين في الستينيات مثل سوريا ومصر. مثل هذه المعادلات تمثل منشورات جيدة على إنستغرام ولكنها تزيف التاريخ. إنها تحجب المصالح الطبقية المختلفة للدول العربية المتمايزة عبر الزمان والمكان. إنها تحجب علاقاتهم المختلفة بالاستعمار الإسرائيلي.

وتصبح الهوية المزراحية حافزًا لتحويل كل السياسة العربية إلى كتلة متجمدة من القومية فتتبخر الإمبريالية والطبقة ويتم وضع القوى المناهضة للاستعمار والإمبريالية على نفس المستوى الأخلاقي مع تلك القوى التي تجسد القوة الاستعمارية والإمبريالية. وفي هذا السياق، وسط الإبادة الجماعية المفتوحة ضد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، ساوى ‘حدّاد’ مؤخرًا بين المحنة المأساوية ليهود تونس وحملة إبادة فعلية ينفذها الصهاينة مدعيًا أن “الكفاح من أجل فلسطين يشبه النضال من أجل حقوق الأقلية اليهودية”.

وبعيدًا عن الحفاظ على الانتماء اليهودي المشروع في المنطقة العربية أو العمل على رمزيته، وهو أمر يصعب تصوره في ظل وجود دولة صهيونية سبب وجودها هو إضفاء الطابع المؤسسي على الطائفية والاختلاف العنصري من خلال الهيمنة الاستعمارية العسكرية، تغطي رسائل ‘حدّاد’ الديناميكيات السياسية الضرورية لبقاء الإنسان، بما في ذلك بقاء الأقليات، في المنطقة العربية في ظل سُحُب مريرة من اللامعنى، مما يجعل قوى التحرر الوطني الضرورية لفتح الطريق إلى المستقبل غير مرئية. فعوض التعامل مع “المسألة” اليهودية العربية عبر التقييم الرصين للقوى اللازمة لتحرير فلسطين وحل المشكلة التي خلقتها الصهيونية، يتم ذلك من خلال الرثاء والحنين والمعادلات الزائفة.

يمكن للمرء أن يتخيل أن مثل هذه الشخصية لها بالفعل وظيفتها. فـ’حدّاد’ من أندر “النقاد” لإسرائيل الذي يظهرون في الصحف الإسرائيلية اليمينية.  كما أن لديه أيضًا مدافعون تونسيون وليس أقلهم “الفضاء الفني” في البحر الأزرق. لننظر أولاً إلى التمويل الأجنبي في تونس، وهو شكل من أشكال مكافحة التمرد السياسي والاجتماعي والأيديولوجي والثقافي. مثل هذا التمويل، الذي يأتي من الحكومات الأوروبية والأمريكية ومقاوليها بالمناولة والمؤسسات الخاصة، لا يمكن أن يكون بريئًا (إلا إذا سلّمنا بأن الحكومة الألمانية الصهيونية التي ساعدت في تدمير أفغانستان أو الحكومة الفرنسية التي تنتقص من سيادة غرب إفريقيا أو حكومة الولايات المتحدة التي ارتكبت محارق في العراق وسوريا، قادرة على توفير الأموال للمجتمع المدني التونسي عن طيب قلب). يعلم الجميع ذلك، ولكن مع تقدم الثورة المضادة مثل الطاعون في تونس وتضخم مخزون اليد العاملة وانخفاض القدرة الشرائية فمن المفهوم أن الناس بحاجة إلى الموارد من أجل البقاء. ولكن من الحماقة أن نتجاهل الدور الذي يلعبه مثل هذا التمويل في تشكيل ملامح المشاعر “المؤيدة للفلسطينيين” في تونس وأماكن أخرى وانتزاعها من أصولها العروبية واستبدالها بالليبرالية الغربية.

تكمن أصول B7L9 في ثروة المصرفي الاستثماري السويسري التونسي ‘كمال الأزعر’ الذي “يرد الجميل” الآن للمجتمع التونسي من خلال “دمقرطة” الفن. يدير ‘الأزعر’ شركة سويكورب Swicorp، وهي أداة استثمارية مدمجة بشكل أساسي في دوائر رأس المال الخليجي ولكنها تستثمر أيضًا في “الطاقة الخضراء“. كانت منصة “إبراز” التي أنشأها الأزعر، والتي كانت تحت إدارته المباشرة، بمثابة نقطة محورية لـ “نقاش ثقافي عربي” وأحاديث فنية منعزلة تمامًا عن الأسئلة الرئيسية المتعلقة بالتحرر القومي العربي ومليئة بالتفاهات المعتادة حول الاستبداد والإبادة الجماعية في سوريا.

تشمل مشاغل ‘كمال الأزعر’ الأخرى المنتدى الاقتصادي المغاربي (MEF) الذي يقدم أحاديث عصرية حول اقتصاد “التضامن” والشمول وأفكار أخرى لا معنى لها من صنع خطاب التنمية الدولية اليميني التي (وهذا غني عن القول) لا تشير إلى الطبقة أو الاستعمار على وجه الخصوص والتي تم نقلها إلى واجهات الأزعر “الثقافية” مثل B7L9. ربما من المناسب أن نذكّر بأن المملكة العربية السعودية قد انخرطت طوال العقد الماضي في حرب استئصال ترعاها الولايات المتحدة ضد اليمن وهي حرب يبدو أن B7L9 و MEF لم يلاحظاها.

يمكن وضع اختيار B7L9 لـ’حدّاد’ وقرارها بإطالة أمد معرضه في مواجهة التطهير العرقي الإسرائيلي في قطاع غزة في سياق خيارات تحريرية وتنظيمية أخرى. في الواقع، هي محاولة لرد الفعل على الغضب الواسع النطاق والعادل من حامل جواز سفر إسرائيلي يمشي فرحا في تونس، فنظمت المؤسسة بسرعة عرضًا من الأحداث حول فلسطين كإجراء وقائي ضد التطبيع الذي روجت له. دعونا نتفحص أي نوع من المشاعر المؤيدة لفلسطين ترعاها B7L9.

يوم السبت 11 نوفمبر، استقبل الفضاء الفني لقاء حول مجلة Funambulist الفرنسية والتي نشر محررها ‘ليوبولد لامبرت’ مؤخراً عدداً خاصاً بعنوان “إزالة مركزية الولايات المتحدة” يحث فيه على “رفض جعل الولايات المتحدة مصدراً لكل المشاريع الإمبريالية”. وفي الوقت نفسه، يحثنا ‘لامبرت’ على النظر في “الطموحات الإمبريالية لإيران” (ولكن ليس قطر أو المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة) حين يطرح حجج تغيير النظام ضد سوريا. وفي إعلام النظام العربي بعد عام 1979، هذا ليس نموذجاً جديداً. إذ كما يشير عامر محسن، حافظت هذه الأنظمة دائمًا على “النقد ‘الراديكالي’ والتناقض الكامل والعداء” تجاه إيران، وهو ما يردده المجال الثقافي الغربي المؤيد لفلسطين بالثرثرة حول “الإمبريالية الفرعية للجمهورية الإسلامية في العراق ولبنان وفلسطين وسوريا واليمن”، كما أكد المنظر الماركسي الغربي ديفيد هارفي.

من الجميل أن تكتب كلمات جيدة ولكن من الأفضل أن تعرف معنى الكلمات. الإمبريالية الحديثة تعني نقل القيمة وانكماش الدخل. إن الولايات المتحدة، الراعي الإمبراطوري للمحرقة المزدوجة في اليمن وفلسطين، هي الإمبراطورية الحديثة الوحيدة. إن الرغبة في “إزالة مركزية” الولايات المتحدة تأتي من الأوساط الأكاديمية الأمريكية نفسها ورغبتها في التنصل من المسؤولية عن إمبراطوريتها.

وبناءً على ذلك، يبدو أن البرامج الثقافية لـB7L9 تعكس الاهتمام الطبقي للطبقة الحاكمة السعودية والولايات المتحدة لاتفاقيات أبراهام. وكان لهذه الطبقة اهتمام واضح بهندسة القضية الفلسطينية وإعادة صنعها بما يتناسب مع مصالحها. إن رعاية الطبقة الحاكمة العربية للقومية الفلسطينية المعتدلة ولليمين الفلسطيني لها تاريخ طويل وكانت الآلية المفضلة لاحتواء الولايات المتحدة للقومية الثورية الفلسطينية. لقد كان يعني ذلك استئصال فلسطين من عمقها الاستراتيجي الإسلامي والعربي الاجتماعي والثقافي والإيديولوجي والسياسي وقبل كل شيء العسكري. ويعني ذلك أيضا فصل فلسطين عن موقعها في معسكر المقاومة الذي يضم اليمن الذي يطلق صواريخ باليستية على إسرائيل بينما يعترضها الأردن والمملكة العربية السعودية. لقد كان ذلك يعني إلقاء إيران في أيدي الشياطين في حين أن إيران هي المساند المركزي لمعسكر المقاومة. ويعني ذلك تشويه صورة حماس، التي تعمل، على حد تعبير ‘حدّاد’، على “كسر أي طريق… للحل المحتمل”. باختصار، كان يعني ذلك فصل فلسطين عن بنية الإمبريالية والاستعمار والطبقة التي تغذي إسرائيل وبنيتها التحتية المدمرة، والتي يجب تحديها إذا أردنا تحرير فلسطين، بدلاً من أن تصبح فصلاً آخر في كتاب أسود من الرعب والحِداد ونهاية العالم.

‘حدّاد’ وأتباعه مناصرون لفلسطين بنفس الطريقة التي تؤيد بها السلطة الفلسطينية وفتح والمملكة العربية السعودية، الغارقة في الأسلحة الأمريكية والمساعدات الأمنية لمكافحة التمرد، والتي تحرسها صفوف كبيرة من المنظمات غير الحكومية في رام الله الممولة من الخارج. إنهم ينتقدون التجاوزات الإسرائيلية وحتى أعمال النهب. إنهم مؤيدون لفلسطين ولكنهم أيضا معادون للقوى التي تحمل قضية التحرير الوطني الفلسطيني. هذا ناهيك عن سلسلة من الجماعات الأمريكية واللبنانية التي تمولها قطر والتي تحلق الآن عبر الشبكة الإلكترونية التونسية مؤيدة لفلسطين باستعراض صور الذبح والإدانة أمامنا.

ولكن هل تعتبر الإنسانية والشفقة والمعاناة مواد مفيدة لصياغة سياسة تحررية؟ أن تكون مناصراً لفلسطين هو شعور يتشكل من قبل الطبقات والأمم التي تطالب بهذه المناصرة وتتحملها وتناضل من أجلها وتموت من أجلها بالفعل. فإما أن تدعم حركة التحرير الوطني الفلسطيني بنشاط أو تعترض الصواريخ اليمنية المتجهة لإسرائيل.

إن ‘حدّاد’ كشخص ليس مهمًا جدًا. أنا موافق. ولندع المدافعين عنه يدافعون عنه، بل وبوسعنا أن نشكره لأنه كشف خطوط الانقسام هذه إلى العلن، ولو عن غير قصد.

شكرا لكورينا مولين على النقاش

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !