اسرائيل: سيكولوجيا الاستيطان وعقدة الذنب الغربية

بقلم عيادي العامري
باحث في قسم الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، ومشارك في تأسيس المقهى الفلسفي، ناشط اجتماعي وسياسي.




لا تثق بالحصان، ولا بالحداثة
لا، لا ضحية تسأل جلاّدها
هل أَنا أَنت؟ لو كان سيفيَ
أكبرَ من وردتي, هل ستسأل
إن كنتُ أَفعل مثلك؟
محمود درويش

موقعك كعربي في النظام الدولي هو الموت

علي القادري

سنة 1876، شهد المستوطن الأوروبي «إبادة» آخر أفراد شعب تزمانيا ، والتي كانت امرأة تدعى “تروجانيني”. هذه المرأة الأخيرة الشاهدة على شعب تزمانيا الذي اختفى كأثر بعد عين لم يسمح بدفنها إلا بعد مائة سنة، وفي ذلك القرن حاول «العقل الاستعماري» الأوربي تبرير جريمة الإبادة عبر إثبات أن هؤلاء التزمانيين «أقل» كفاءة دماغيا. وبالتالي هم لا يشبهون الإنسان المتحضر الأوربي ولا يستحقون بذلك الحياة أو التمتع بالحقوق البشرية.
إن هذه الحادثة، ليست استثناء في فهم علاقة «المستوطِن» بالشعوب التي يستوطنها، وهذا الشكل من العلاقة ليس وليد القرن الحالي، بل هو مجرد استمرار لأحداث الماضي المرعب للعقل الأداتي الغربي الذي نشأ وترعرع وتفعل داخل سياق حافل بكل أشكال الاستعمار والاستيطان.
سنحاول في هذا المقال بيان علاقة الغرب بالاستيطان الإسرائيلي، ومعرفة «الجذور» المبررة للرعاية الأمريكية والأوروبية لكيان استعماري-استيطاني. نعني بالجذور تلك البنى المعرفية والنفسية التي تشكل أساس الانحياز السياسي والعسكري في هذه العلاقة المثيرة للانتباه.

صورة لآخر تزمانية والتي تدعى تروجانيني والتي توفيت سنة 1876

تأسيس أمريكا، أو استيطان بلا هجانة
لا يمكن أن نفهم الموقف الغربي من جهة الولايات المتحدة الأمريكية ومثيلاتها من المستعمرات الأوروبية في القارة الأمريكية والقارة الأوقيانوسية تجاه إسرائيل خارج فهم المسار التأسيسي التاريخي لهذه الدول.
إن هذه الدول في مسار تأسيسها ليست سوى شكلا من أشكال التطهير العرقي لشعوب أصيلة، وليس هذا التطهير «غزوا» في شكله كذلك الذي عرفته الإمبراطوريات القديمة والذي عادة ما يكون عملية «إدماج» للشعوب الأصيلة في الإمبراطوريات الكبرى مما يخلق عادة حالات هجانة عرقية وحضارية. لكن الاستعمار الأوروبي لهذه الشعوب الأصيلة في أمريكا الشمالية وأستراليا وأراضيها لم تكن مجرد ضم وإدماج، بل تطهيرا عرقيا واستيطانا للأرض ونهبا للثروات.
شهد هذا المسار جملة من التحولات النوعية والتي يمكن إجمالها في تشكيل الهجانة من خلال جلب العبيد من إفريقيا. تعززت هذه الهجانة وتشكلت في إطار الثورة الليبرالية وما نتج عنها من إلغاء للعبودية (سنة 1865)، مما شكل أساسا حقوقيا و سياسيا لتجاوز مفاهيم المستوطنات نحو تأسيس مجتمع متعدد (ولو بشكل صوري)، وشكل مواطني في المستوى الحقوقي والسياسي وشكل رأسمالي في علاقات الإنتاج.
هذا المسار الإصلاحي الذي سارت فيه المستعمرات الأوروبية في القارتين لم يغير من الجوهر الاستيطاني للرجل الأبيض الغربي الذي يظهر في كل منعطف داخلي أو خارجي وخاصة عندما يمس من امتيازاته بوصفه الوريث التاريخي لعلاقات السيادة.
هذا الشعور بالأحقية الاستيطانية و بالحق في القيام بالتطهير العرقي تتقاسمه هذه المستعمرات مع المملكة المؤسسة لهذه الدول، ونعني بذلك بريطانيا العظمى، بوصفها موطن الأجداد المؤسسين وبوصفها ممثلة للحضارة الغربية التي لا يمكن التشكيك في أحقيتها في فعل ما تشاء وهذا هو منطق حق القوة.

لوحة فنية تحاكي وصول الأوروبيين لغزو أمريكا وإبادة الشعوب الأصلية

الشعور بالذنب، التطهر من الخطيئة
تمثل كل من ألمانيا وفرنسا القلب النابض للاتحاد الأوروبي في شكله الحالي، وهذا القلب يملك شعورا بالذنب تجاه “اليهود”، فالفرنسيون يشعرون بشكل من الخزي تجاه شطر من تاريخهم السياسي، خلال الحرب العالمية الثانية في فترة الاحتلال النازي لفرنسا. فتحت حكومة “الكولابوراسيون Collaboration” الفرنسية، التي كان يتزعمها الماريشال “فيليب بيتان” بين عامي 1940 و1944، تم تسليم العديد من اليهود الفرنسيين الذين يعيشون في فرنسا للنازيين من أجل كسب ود القيادة الألمانية.
يمثل فهم هذا الجزء من تاريخ فرنسا جزءا من فهم السردية التي يحاول العقل الدعائي الصهيوني تعزيزه و إظهاره بشكل مستمر، مما يجعل فرنسا تدين لليهود (الأشكناز بالخصوص ) بشكل دائم، وبالأخص للحركة الصهيونية (التي تحاول أن تكون الممثل السياسي الوحيد لليهود).
يتم تصريف الاعتذار بأشكال عدة، لعل أهمها سن قوانين تجرم وتعادي معاداة الصهيونية، رغم المسافة الهائلة و التي ينبغي أن تكون واضحة بين معاداة اليهود بوصفهم يمثلون ديانة وجملة من التقاليد التي تنتمي للإنسانية، وبين الصهيونية بوصفها حركة سياسية عنصرية تقوم على أساطير تاريخية لا أساس لها.

صورة تجمع زعيم النازية هتلر بزعيم فرنسا الماريشال فيليب بيتان 1940

لا تشعر فرنسا بمثل هذا الشعور بالذنب مع الجزائريين أو تجاه مستعمراتها السابقة، والسبب في ذلك أن الفرنسيين بوصفهم جزء من الحداثة المظفرة، يعتبرون أنفسهم أصحاب منة فيما فعلوه بالهمج من أفارقة وغيرهم من شعوب لا تملك أي حرمة. بل إنها لا تشعر بالذنب تجاه اليهود من جهة كونه يهودي. بل باليهودي ذي الأصول الغربية الذي “يستحق” التمتع بحقوق الإنسان.
فيما يتعلق بألمانيا، فإن الحساب مع اليهود يبدو عسيرا، والشعور بالذنب جزء متأصل في الضمير الألماني، الذي لم يترك في حاله أبدا، فمع كل رغبة في النسيان أو طي الصفحة المأساوية للهولوكوست، تذكره الصناعة الفنية والأدبية والسياسية المهيمنة بذنبه.
هذا التذكير المستمر و الذي يتحول إلي شكل من العزاء السنوي هو الوضعية التوجيهية التي تسعى الحركة الصهيونية العالمية إلى ترسيخها داخل الضمير العالمي والألماني بالخصوص وهي تعلم أن ألمانيا هي الجزء الأكبر من الاقتصاد والقوة السياسية الأوروبية.
لو تأملنا قليلا، في ضحايا المعسكرات النازية، لوجدنا أن الضحايا هم من اليهود و غيرهم من الغجر و الأوكرانيين والبولنديين والرومانيين والأقليات الجنسية والعرقية الخ، لكن ما أن نذكر المعسكرات النازية حتى تذهب ذاكرتنا ناحية اليهود، و كأن هذا الجنون النازي لم يلامس غير اليهود. هذا هو المعنى الذي يجعل من الهيمنة حقيقة و واقعا وصناعة ينفق فيها الكثير من المال.
هنا نفهم الفرق والمسافة بين ما حدث، وبين توظيف ما حدث، فالتوظيف هو شكل من الابتزاز الذي يجعل من التكفير عن الذنب رغبة ملحة ودائمة في الضمير الألماني والغربي، فيتم تحويل دعم إسرائيل من قبل “المستشارية الألمانية” شكلا من التأكيد في كل مرة أن النازي لن يعود أبدا. وأن الألمان مع اليهودي حتى وإن كان “صهيونيا/نازيا جديد.”

معسكر الاعتقال “أوشفيتس[3]


عودة النازي، عندما يستبطن الضحية نسق الجلاد
أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض. هذه هي المعادلة التي يتمناها الكيان الصهيوني، لكن لم يأت بعد ذلك اليوم الذي يباد فيه آخر فلسطيني، وسبب عدم قدوم ذلك اليوم هو بالأساس فعل المقاومة التي جعلت من الشعب الفلسطيني يقف الند للند أمام المستوطن الأخير.
يحمل الخطاب الصهيوني كل مقومات الخطاب النازي، فهو يؤسس للشر عبر محاولته نزع الآدمية عن الفلسطيني، ولعل استعمال وزير الحرب الصهيوني لمصطلح “حيوانات بشرية” لوصف فلسطينيي غزة يكشف جوهر النسق الخطابي الصهيوني الذي يعيد إنتاج النازية بشكل مستمر. إن خطاب القيادات الصهيونية السياسية والدينية لم تكتفي بمحاولة نزع الآدمية عن الفلسطينيين بل إنها تحاول أن “تعدم” الشعب الفلسطيني وتنكر وجوده وهذا ما ذهب إليه وزير مالية الكيان الحالي عندما قالها بشكل صريح “لا وجود للشعب الفلسطيني”.
في محاكمة آيخمان، ذلك الضابط النازي الذي كان يقوم “بواجبه القانوني” في نقل اليهود من مكان لمكان دون السؤال أو التفكير في نتائج أفعاله، وصفت المفكرة اليهودية حنة أرندت الشر بكونه حماقة لا يستحق الكثير من التفكير، بل إنه يحتاج مجرد أناس محدودي التفكير وليس لهم القدرة على النظر النقدي والأخلاقي في نتائج أفعالهم.
ألا ينطبق هذا القول عن تفاهة فعل الشر مع ذلك المجند الصهيوني الذي يركب الطائرة ويقوم بالضغط على الأزرار لينزل الصاروخ على مباني سكنية فيبيد عائلات بأكملها دونما أي تفكير أو تساؤل؟
إن هذا العزل الذي تنتجه التكنولوجيا بين الفاعل وما يفعله هو الجزء الإجرائي الذي يجعل من ارتكاب الشر وضعية غير مفكر فيها، فبين الفاعل و نتيجة فعله حجاب تكنولوجي و إيديولوجي يجعلان من الشر مجرد إجراء ولعل القصف بطائرات هو الشكل المفضل للجيش الصهيوني الذي يحاول تجنب المواجهة.
إن “أوشفيتس” المعاصر لن يكون بكل تأكيد سوى غزة، تلك المنطقة التي تشهد واحدة من أكبر الكثافات السكانية في العالم، والمحاصرة من كل الجهات برا وبحرا وجوا منذ سبعة عشر عاما. هناك حيث يتم اصطياد البشر بشكل عشوائي، فأينما سقط الصاروخ سيكون هناك قتلى بكل تأكيد، وهذا مؤكد بالحسابات والمنطق. ويظل الحلم الصهيوني هو أن يأتي ذلك اليوم الذي يشاهدون فيه جثة “تروجانيني” الفلسطينية ليباد شعب بأكمله.
ربما في ذلك الوقت، تصبح الأرض بلا شعب.

صورة للقصف الذي تنفذه الطائرات الصهيونية على منازل المدنيين في قطاع غزة 2023

من المؤكد أن ثمة عدة عوامل تجعل من الكيان الصهيوني الفتى المدلل للقوى الإمبريالية الغربية ولعل ذلك أمر يتخذ صياغات عسكرية واستخباراتية. لكن ما ينبغي فهمه و الإشارة إليه أن العلاقة بين الغرب و الكيان الصهيوني هي علاقة أكثر تشابكا وعمقا من مجرد التحالفات السياسية المتغيرة.
إن الكيان الصهيوني هي الوجه الحقيقي الذي يرى الغرب فيه (الأمريكي بالأساس) جزءا من ماضيه الاستيطاني (زمن امتيازات الرجل الأبيض الغربي المستوطن) والذي يحن إليه في أشكال عدة من بينها صعود القوى الفاشية التي تعتبر ‘أنه لا ينبغي أن تكون يهوديا لتكون صهيونيا” والتي تجعل من التنافس لإرضاء الصهاينة جزءا من حملاتها الانتخابية. وربما هذا ما دفع بالرئيس الأمريكي جوزيف بايدن ليرسل أكبر حاملات طائرات لديه (جيرارد فورد) للمساهمة في حصار 2 بالمائة من أراضي فلسطين التاريخية (غزة) ليكتمل مشهد صياغة “أوشفيتس” هذا الزمن في محاولة لصياغة “تروجانيني فلسطيني”.


[1]تزمانيا- إحدى الجزر في القارة أوقيانوسيا

[2] اليهود الذين قدموا من أوروبا الغربية

[3] معسكر اعتقال أوشفيتس  هو مجمع يضم أكثر من 40 معسكر اعتقال وإبادة أدارته ألمانيا النازية في الجزء المحتل من بولندا

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !