رأي | متى نتحرّر من الإرث الاستعماري العنصري؟


مريم بريبري
صحفية

“الدولة عنف ضد العنف”.

هذا ليس عنوانًا لمقال، بل هو موضوع امتحان الفلسفة لباكالوريا علوم سنة 2006. بات العنف أداة التعبير الأولى والأساسية في العالم. سواءٌ كان ذلك في اطار رد الفعل أو في اطار البحث عن التموقع ضمن حرب البقاء التي تعيشها المجتمعات اليوم.

إنّ تسارع نسق الأحداث في تونس وكثافتها جعل الانسان يسير كآلة منشار حادّة تقضي على الأخضر واليابس وتمرّ. يغالبها صاحبها الوقت ليكسب أكثر وليقطع أشجارا أكثر. زاد تمعّن السلطة في العنف المادي والمعنوي والاقتصادي، بل وتفنّنها في ذلك، من توحّش الانسان وانتزع منه انسانيته. فمجرّد التفكير في وجود السلطة يجعل الشخص مسلوب الارادة ومقيّد الحرية، يخيفه الكلام والاحتجاج ضد كل أشكال العنف التي يتعرض اليها.

يعيش الشعب التونسي منذ عقود تحت آلة القمع وظلم السلطة. وإن احتج يجد نفسه أمام أمران : السجن أو الرصاص. مع ارتفاع وتيرة المحاكمات ضد كل من يفكر حتى في الاحتجاج والتعبير، صار المواطنون أمام ترسانة من الأحكام القضائية ومخاوف كبيرة من الفقر. في أصل الأمور، يبدأ العنف من الدولة للمزيد من التخويف أو “حفظ النظام”، تلك الاجابة الشهيرة. و من أجل حفظ النظام، يواصل النظام في القمع والتخويف للتعتيم على سياسات التجويع، رفع الدعم، والتداين والخ.

غالبا ما يبحث الانسان عن الأسباب الواضحة والمباشرة لمشاكله، وفي رحلة البحث هذه يعترضنا الانتهازيون، وهم غالبا ما يكونون أصحاب مصالح سلطوية أو مالية، يزيّفون الحقيقة ويقومون بتسويق رواية سهلة التصديق لتكون الجرعة التي يبتلعها عامة الشعب. وهنا سنتحدّث عن جرعة الفقر والجوع. نؤمن جميعا بأنّ في حرب البقاء، يكون البقاء للأقوى. ولكي تكون الأقوى ستبحث عن الحلقة الأضعف لتفتكّ منها وتنهكها وتستغلّها وتستعبدها. فأمام غلاء الأسعار وفقدان السكّر ومعظم المواد الأساسية، نحن لا نحتج ضد النظام الذي أنهك كاهل الشعب بالأداءات ورفع الدعم وانّما نحتجّ ضدّ المهاجرين من جنوب الصحراء، الذين قذفت بهم الحروب وظروف بلدانهم نحو بلادنا بحثا عن نقطة عبور بإتجاه أوروبا. نحن نحتجّ ضدّهم بتعلة فقدان المواد الأساسية وبتعلة انتشار الجريمة وبتعلة أنّ منظر البلاد أصبح لا يطاق.

نتحدّث عن بلاد تعاني من غياب البنية التحتية والصحة والتعليم وحيث النقل يكاد أن يكون اشاعة، ومع ذلك نبحث عن حقوقنا عند من هم أقلّ منّا حقوقا. تعيش تونس منذ مدة أزمة كبيرة في توزيع الماء، ومع ذلك صار الأمر يمر مرور الكرام. وانتقلنا بذلك الى تفعيل دائرة العنف: كلّ طرف فيها يصعّد عنفه ضدّ الحلقة الأضعف. والأضعف اليوم هم المهاجرون.

ماشهدَته البلاد في الفترة الأخيرة من أعمال ابتزاز وعنف ونهب وسحل في الشوارع ونفي في الصحراء وعلى الحدود على خلفية قتل شاب تونسي على يد مهاجرين، كشف حقيقة أغلب الشعب، من خلال تلك السادية المفرطة النابعة عن رغبة في الانتقام والثأر. لكن الثأر كيف وممّن؟ هذا ما استغلّه بعض النواب والأطراف التي تدعي أنها من المجتمع المدني والحزب القومي التونسي. إذ وجد هؤلاء الأرضية الملائمة للحفاظ على شعبيتهم من جهة، وذلك من خلال دعم واسناد موجات الغضب العنصرية حيال تواجد المهاجرين من جنوب الصحراء، ولعل ماشهدته البلاد في أحداث شهر أفريل المنقضي أكبر دليل على ذلك. ثم لتحويل أنظار الناس عن مشاكلهم الحقيقية ومعركتهم الأصلية/ من جهة ثانية.

فسياسات الضغط وشد الخناق التي يمارسها الاتحاد الأوروبي والمنظمات المموّلة منه، وحتى المؤسسات العمومية، هي كلّها سياسات ذات منحى واحد وهو إبقاء المهاجرين من جنوب الصحراء في تونس، ومنعهم هم وكلّ شباب وشابّات تونس من الهجرة غير النظامية وحتى النظامية. هذه السياسات الإستعمارية تواصل في تعميق الأزمة بفرض التأشيرة لدخول بلدان الاتحاد الأوروبي وبطلب وثائق ومعطيات شخصية لا تهمّ أحدا، ثم تفرض على تونس أن تقوم بدور حارس الحدود، وهذا مايحدث دائما. فلعلّنا تناسينا حادثة غرق الهجرة غير النظامية سنة 2018 وغيرها من الأحداث التي تأتينا منها بعض مقاطع الفيديو، التي توحي بأنّ الحرس البحري يحاول إغراق قوارب الهجرة وقتل المهاجرين. تأتينا الأخبار أيضا من اليونان. ففي جوان المنقضي قام الحرس البحري اليوناني بإغراق قارب به نساء و أطفال وكهول وشباب.

في يوم 7 أوت 2017، ندّد المجتمع المدني التونسي، وأساسا في صفاقس وجرجيس والعاصمة، بتواجد الباخرة العنصرية C-star بالمياه الاقليمية التونسية وباقترابها من سواحلنا. هذه الباخرة كانت تُعرف بإعتراضها لقوارب الهجرة ومحاولة ارجاعها وهي تابعة لمجموعة “جيل الهوية” اليمينية المتطرفة. إذ يتكون طاقمها من عدد من ناشطي اليمين المتطرف من فرنسا والنمسا وإيطاليا وألمانيا، وقد استأجروا الباخرة في إطار حملة ” دافعوا عن أوروبا” حاملين شعار :”لن تجعلوا من أوروبا وطنا لكم”. الاتحاد العام التونسي للشغل كان من أهم المنددين بتواجد الباخرة على سواحل جرجيس وساند حركة عمال الميناء والصيد بالجهة في احتجاجهم ورفضهم لتواجد هذه الحركة العنصرية على سواحلنا.

اليوم وبعد ثماني سنوات نجد بلادنا تستبطن نفس الشعارات الاستعمارية والعنصرية وتصدّرها ضدّ من تستشعر أنهم أضعف وتحت ويمثلون خطرا على” الهويّة”. إذ نطالع بيانات لبعض النقابيين الرافضين لتواجد المهاجرين بجهتهم ولإيوائهم. مقاطع فيديو لنواب ونشطاء و أصحاب دكاكين حزبية يغذّون هذه النزعات الشوفينية ويستغلون الأرضية لتصدير عنصريتهم البائسة. وفي نفس الوقت لا يستحون من التذلّل لبلدان شمال المتوسط من أجل المزيد من القروض والارتهان لها. زد على ذلك دعمهم الاستثمار الأجنبي الفلاحي المستنزف للمياه، وحتى الاستثمار التونسي الرأسمالي، الذي زاد من نسبة الفقر والجوع وعمّق أزمة البلاد الاقتصادية والاجتماعية. هم أيضا لا يخجلون من المواصلة في سياسات التداين ورفع الدعم، وآخر ما قد يشغلهم هو مشاكل الشعب الحقيقية. بل ويعتبرون أنهم بثورتهم على المهاجرين من جنوب الصحراء يقومون بتحرير البلاد من استيطان وهمي.

نحن اليوم نتحدث عن نفي في الشوارع و على الحدود، عن كسور واصابات وأمراض متعددة، عن عطش وجوع. ستعيش تونس على مدى أجيال وهي تتذكر هذه الجراح ولن تتجاوزها وتتحرّر منها مالم تتحرّر من الإرث الاستعماري الذي تغلغل فيها. وكما يقول المفكّر المناهض للاستعمار، فرانز فانون: “التحرر الحقيقي ليس بالثورة فقط، بل في التحرّر من إرث المستعمر”.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !