رأي | عن صفاقس والعنصرية ومسؤولية النظام الذي يضطهدنا جميعًا

بقلم جنين العابدي، شيوعية

“Mon pays, la Tunisie, et l’Europe, tous les chemins mènent à la mort. Il n’y a rien à perdre maintenant.”

“بلدي، تونس، أو أوروبا… كلّ الطرق تؤدّي إلى الموت. لم يَعُد هناك شيء يُخشى على فقدانه الآن.”

ذلك كل ما استطاع مهاجر جنوب صحراوي قوله بعد تعرّضه لضربٍ مُبّرح إثر تصاعد وتيرة أعمال العنف بين سكان مدينة صفاقس والمهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء. أعلن -ضمنيا- في جملته تشابُكَ مفهوميَْ الموت والحياة في ذهنه ولدى المهاجرين. وبالتالي، لا دافع للعيش والنتيجة الحتمية لموتهم المعنويّ هي كسر حاجز الخوف ممّا قد يأتي. إنه إنذارٌ بعنفٍ ولّده العنف السابقُ لحادثة مقتل أصيل ولاية صفاقس على يد جنوب صحراوي.

نحاول في هذا المقال المختصر النبش عن مكامن العِلَل في فهمٍ ماديّ لخصوصيات مدينة صفاقس وأوضاعِ المهاجرين فيها والتراكمات التي أدت لهذه الحالة من الاحتقان والغضب.

صفاقس، مدينة الصراعات الاثنية

خزّنت الذاكرة الجماعية لسكان مدينة صفاقس سجلا من المواقف العنصرية على مدى دهرٍ من التفرقة والانقسام إلى “مركز” و”أطراف/هامش” أو كما يسود التعبير “بَلّدية” و”عْرب”. يملكُ الطرف الأول فيما يملكه رأسمالٍ رمزي وثقافي مُقترن -بطبيعة الحال- بموقعه من وسائل الإنتاج، يسكنُ المدينة ويحتكرُ لقب “الصفاقسي” محتقرا الطرف الثاني الذي يشمل أرياف وأحواز صفاقس حيث الفئات والطبقات الشعبية.

ظلَّ هذا التقسيم قائما إلى حدود الساعة، وكانت نتيجته قصص حٌبٍ عرفت الرفض بين مدنيّين وريفيّين، نبذٌ واحتقارٌ للعمال الريفيين في الأسواق وعُقدٌ نفسية رافقت أجيالا من سكان مدينة صفاقس على حد سواء. بذلك صفاقس لا تغدو إلا أن تكون معقلا للعنصرية القائمة على اثنية الفرد وطبقته في آن، باغترابٍ تام عن واقع أننا جميعا منتمون إلى جنوب هذا العالم كهامشٍ لفظته مراكز القرار الامبريالية.

تلك التراتبية أو التقسيمات فرضتها الرأسمالية العالمية ككيانٍ استعماريّ لتخلق بيننا “العنصرية” أداةً لغطرستها (أنظر “العنصرية: منتوج إيديولوجي للإمبريالية، المجموعة الماركسية الثورية)

حلول أفارقة جنوب الصحراء وتفاقم الأزمة

لعلّ تصنيف صفاقس كثاني أهم مدينة اقتصادية بتونس، ورخص تكاليف المعيشة بها مقارنةً بالعاصمة وقربها الجغرافيّ من قرقنة كمحطةِ عبورٍ نحو أوروبا، هو ما دفع المهاجرين للاستقرار والتمركز بها. لتشهد الوفود الأولى منهم مواطن شغلٍ وافرة تبعا لكون تشغيلهم مقترنٌ باستغلالهم من قبل رؤوس الأموال وأرباب العمل: ساعات طويلةٌ من العملِ الشّاق، اجبارهم على الإقامة في أماكن عملهم، أجور هشّة لا تتجاوزُ ربع ما يُسندُ للعامل التونسيّ في نفس المهنة، عقوباتٌ غير مُبرَّرة وانتهاكٌ يوميّ للكرامة والخ. قبولهم بهذه الأوضاع تحت ضغط الضرورة الاجتماعية دفع رؤوس الأموال وأرباب العمل لغلقِ أبواب التشغيل لغير المهاجرين جنيا للأرباح. ومع تزايد أعداد المهاجرين الجنوب صحراويين تبلورت أزمةٌ أخرى: أزمةُ السكن.

يُحدّثني مهاجرٌ جنوب صحراويّ أنّه يقطنُ بيتا بغرفةٍ واحدة مع خمس رفاقٍ له ويدفعُ كل منهم مبلغ الإيجار بشكلٍ مستقلّ للمؤجّر، الذي يجني منهم ثلاث أضعاف ما قد يجنيه من كراء المنزل لعائلة تونسية بعقد إيجار منظّمٍ بموجب قانون العقود. فضلا عن أنّ نسبةً كبيرة منهم يُشاركون أبناء الطبقات الشعبية بتونس حلم “الحرقة”. وهكذا صار وجودهم في أذهان سكان صفاقس والطبقات الشعبيةِ خاصةً يهدّد إمكان تشغيلهم ويحدّ من المنازل المعدّة للإيجار ويزاحمهم في قوارب الهحرة غير النظامية لأوروبا. والحال أنّ سبب كلّ تلك الأزمات هو النظامُ العالميّ الذي يسلبُ جنوب هذا العالم ثرواته كما حقّه في الحياة، بسلطته على الدول التابعة الحارسة لحدود بلدان الشمال، مع مصادرة حق الفئات الشعبية في السكن وفي غيره.

يُخاطبنا هذا النظام قائلا: “حيث ما كنتم سنُهجّركم أو/و نستعبدكم.” فهل الأجدى بنا توجيه غضبنا للحلقة الأضعف سياسيا واقتصاديا أم المُراكمة لخطابٍ يُدين العِلّة الأولى -النظام العالميّ؟ وبذلك يكون الرهان في ظلّ محدودية قدرتنا على التغيير الآنيّ هو انغراسُ خطابنا المناهضِ للعنصرية كمُنتَجٍ رأسمالي-امبريالي وسط الطبقات والفئات الشعبية.


الصورة: مركز احتجاز مهاجرين في ليبيا- الأمم المتحدة

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !