افتتاحية | أزمة مهاجري جنوب الصحراء: كفانا عارًا ولنحمّل المسؤولية لأصحابها !

تشهد صفاقس منذ أسابيع حالة غليان محورها قضية مهاجري جنوب الصحراء، وقد وصلت ذروتها إثر الحادثة المؤسفة لمقتل الشابّ نزار قبل بضع أيام خلال اشتباكات بين شبّان من منطقة ساقية الزيت ومهاجرين.

ما يحصل منذ أيام هو حالة هستيريا جماعية، أخرج فيها جزءٌ من شعبنا أقبح ما في البشر من مشاعر تختلط فيها العنصرية بالكراهية بالخوف بالجهل بالرغبة في الثأر… ورأينا فيها مشاهد مخزية لضمير أيّ انسان متوازن. مشاهد شباب مطاردين وآخرون رافعين أيديهم استسلاما ومتكوّمين فوق بعضهم البعض… بما يذكّر بمعاملة جيش الاحتلال الصهيوني لاخوتنا الفلسطينيّين أو بتعذيب سجناء أبوغريب ابّان الاحتلال الأمريكي للعراق… ومشاهد أمّهات تحملن أبنائها الرُضّع باحثات عن ملجأ أو في انتظار قطار ينقلهنّ خارج ولاية صفاقس التي باتت جحيما لهؤلاء… هذا ما استطاعت عدسات المصوّرين التقاطه.. وحدّث ولا حرج عمّا لم يُتح لنا رؤيته من مشاهد للعشرات من العائلات التي وقع دفعها من قبل السلطات التونسية في ظروف قاسية ولا إنسانية، حسب تقارير عديد المنظمات الانسانية، إلى الحدود الليبية. على الأرجح بهدف تشجيعها على تجاوز الحدود ودخول ليبيا التي ينعدم فيها الأمن ولا تتوفّر على قوانين تحمي المهاجرين واللاجئين، وسبق أن وُثّقَت فيها جرائم استعباد واستغلال بشعة لهؤلاء…

لا يمكن الحديث عن هذا الموضوع دون الوقوف أوّلاً على بشاعة ما يحصل، ودون أن نسجّل هذه الأيّام في خانة العار الذي سيلاحق شعبنا وبلادنا لأمد طويل… لكن، مثلما يقول الفيلسوف سبينوزا، ما معناه: “ليس الأهمّ أن نسعد أو نحزن، الأهمّ هو أن نفهم”. بعبارة أخرى، من السهل جدًا الاكتفاء بإدانة “عنصرية” و”همجية” بعض التونسيين الذين تجرّدوا من انسانيّتهم وهم يهينون أشقّائهم في البشريّة وأبناء قارّتهم من المفقّرين البائسين الذين اضطّرتهم ظروف بلدانهم القاسية إلى الهجرة نحو أوروبا، مرورًا ببلادنا، تمامًا مثلما يفعل الآلاف من الشباب التونسي كلّ سنة… لكنّ تحميل المسؤوليات للمتسبّبين الرئيسيّين عمّا يجري يُعدُّ أقلّ سهولة. وأصعب منه محاولة التفكير في حلول عاجلة، وأخرى بعيدة الأمد لهذه المعضلة.

سياسات الاتحاد الأوروبي ودولة البرجوازية التابعة هي المسؤولة

المسؤولية المباشرة عن تصاعد الأحداث في الفترة الأخيرة تعود بشكل أساسي إلى بعض المجموعات اليمينية الشوفينيّة، وصفحاتها المموّلة على شبكات التواصل الاجتماعي، مثل ما يُسمّى بـ”الحزب القومي التونسي” وحزب عبير موسي وغيرهم. هذه المجموعات تعمل منذ شهور طويلة، بتواطؤ بعض وسائل الإعلام الخاصّ، بشكل ممنهج على تجييش الشارع ضدّ المهاجرين عبر دعاية عنصرية فيها الكثير من الكذب والتهويل والتشويه، إلى درجة نزع الانسانية عنهم واتهامهم بـ”أكل لحم البشر” دون أن تتعرّض للمسائلة القانونية.

بل الأدهى والأمرّ هو ما شهدناه من تبنٍّ لجزء هامّ من خطاب هذه المجموعات الشوفينية من رئيس الدولة اثر اجتماعه سيّء الصيت بمجلس الأمن القومي في شهر فيفري الماضي. ونتذكر جميعا ما أعقب البيان الصادر عن ذلك الاجتماع من حملة اعتداءات وترهيب طالت المهاجرين الجنوبصحرائيين ولم تتوقّف إلى اليوم… وبالتالي، فإنّ السلطة في تونس، وعلى رأسها قيس سعيّد، تشترك في تحمّل المسؤولية المباشرة عمّا يحصل، خاصّة وأنّ الحكومة لم تتخذ أيّ قرارات ملموسة لحلّ هذا الوضع منذ اندلاع الأزمة قبل ستة شهور.


الّا أنّ هذه المسؤولية المباشرة عن التحريض والفشل في إيجاد الحلول لا يجب أن تخفي عنّا الأسباب البنيوية التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة المأساوية الحزينة. وهي بوضوح واختصار: سياسات الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة أوّلا، وفي مجال الاقتصاد والعلاقات مع بلدان أفريقيا ثانيا، وهما مترابطتين في الواقع.

إذ لا حاجة للتذكير بالتاريخ القبيح المديد للاستعمار الأوروبي لبدان القارّة، بل تكفي الإشارة إلى استمرار هذا الاستعمار بشكل غير مباشر عبر اتفاقيات التجارة الحرّة البينيّة القائمة على نهب المواد الأولية لبلداننا بأبخس الأثمان مقابل إغراق أسواقنا بسلعهم المتطوّرة، التي يمنعوننا بشتّى الوسائل من امتلاك تقنيات تصنيعها، وابقائنا في حالة تبعية دائمة لمنتجاتهم ولقروضهم. لا يمكن مقاربة موضوع هجرة شعوبنا الأفريقية – جنوب الصحراء وشمالها – خارج سياق هذه العلاقات غير المتكافئة والتبعيّة. فدول هذه القارّة الامبريالية العجوز، لم تكن تتبرّم من مهاجرينا طالما كانت بحاجة إلى اليد العاملة زهيدة الثمن لاستغلالها في إعادة تعمير مدنها وتشغيل مصانعها التي دمّرتها الحروب العبثية للقوى الاستعمارية الغربية فيما بينها، ولم تكن تخشى على “تركيبتها الديمغرافية” عندما كانت قبل ذلك ذلك تزجّ بخيرة شباب قارتنا في أتون حروبها تلك.

وهي إلى اليوم بحاجة للمهاجرين لتفادي تهرّم مجتمعاتها وضمان استمرار تفوّقها الاقتصادي والتقني على بقية بلدان الجنوب، لكنها تتعامل مع شعوبنا كما يتعامل أيّ رأسمالي مع ماكينات مصنعه: يقبل ما يحتاجه من مُدخلات لانتاج سلعته، ويلقي بالفضلات أو المواد الفاسدة أو مازاد عن حاجته في البحر. هكذا بالضبط يتعامل الأوروبيون معنا ومع المآسي التي تعانيها شعوبنا بسبب سياساتهم المدمّرة لفلاحتنا وصناعتنا وتجارتنا ولعلاقات شعوبنا ببعضها البعض.

الّا أنّه لا يمكن تحميل المسؤولية للأوروبيين وحدهم. فهم لم يكونوا قادرين على ترسيخ هذه السياسات لو لم يجدوا بين ظهرانينا النخب البرجوازية السمسارة المستعدّة لسنّ القوانين والتشريعات والاتفاقيات المكرّسة لهذه السياسات مقابل ما يحصلون عليه من امتيازات وأرباح. يكفي أن نشير إلى قانون عام 1972 سيّء الذكر، مرورًا باتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي سنة 1996، والانضمام لمنظمة التجارة العالمية سنة 1995 (ما أدّى إلى تدمير 55 بالمائة من الصناعة التونسية، والقضاء على قطاع النسيج، أمام المنافسة الخارجية) وصولًا إلى المحاولات المستمرّة لفرض اتفاقية “أليكا” وتغيير قانون ملكية الأراضي الفلاحية وقانون احتكار الشركات للبذور الزراعية والقوانين المنحازة للمستثمرين الفلاحيين على حساب صغار الفلاحين والخ. من ترسانة القوانين التي زرعت الكساد الاقتصادي وبطالة الشباب ونزوح أبناء الريف إلى الأحياء العشوائية المحيطة بالمدن الكبيرة وغيره.

هذه السياسات الاقتصادية اللاوطنية التبعية هي التي دمّرت إقتصاد مدينة صفاقس – بل وتونس برمّتها – منذ عقود، لا هؤلاء المهاجرين المساكين الذين لم يكفهم أن طُردُوا من بلدانهم شبه المستعمرة، بل تحوّلوا إلى يد عاملة شبه مُستعبَدة في معامل صفاقس وفي مطاعم ومقاهي العاصمة والمدن الكبرى وفي بيوت أثرياء برجوازيتنا التي يخرج اليوم البعض من ممثّليها (حزب آفاق تونس مثلا) للمطالبة بـ”إعادة فرض التأشيرة على مواطني كلّ دول جنوب الصحراء” (طبعا لن يجرأ ممثّلو هذا الحزب الكمبرادوري يوما على المطالبة بنفس الإجراء لمواطني دول “السيّد الأبيض”… لأنّهم عبيد عنده).

كما أنّه يجب التأكيد على أنّه لا ذنب للمهاجرين ممّا يتبرّم منه بعض مواطنينا بخصوص “منافستهم” لهم في وسائل النقل الجماعي المهترئة العمومي منها، وحتى الخاصّ، والمستشفيات العمومية البائسة وغيره. فالمسؤولية عن حالة هذه المرافق تعود حصرًا الى “سياسات التقشّف” التي تتّبعها الدولة التونسية منذ عقود. اذ هنالك بلدان حول العالم – وحتى في الجنوب – تعداد سكّانها أكبر بكثير من تونس، لكن بها مستوى محترم للمرافق العمومية لأنّ الدولة هناك تنفق على خدمة مواطنيها ولا تخشى من بعبع “التضخّم” الذي يبتزّنا به مسؤولو البنك المركزي “المُستقلّ” (عن الشعب) و”الخبراء” النيوليبراليون وأبواقهم من الإعلاميين.

ونفس الأمر ينطبق أيضا على ما يقوله البعض عن “منافسة” المهاجرين للتونسيين في مجال اليد العاملة عبر قبولهم بأجور أقلّ من العمال التونسيين. فنفس الظاهرة تنطبق مثلا على تفضيل بعض الأعراف تشغيل النساء مكان الرجال (لأنّ ظروفهنّ تكرههنّ على القبول بأجر أدنى وبظروف عمل أشدّ أحيانا). ويعود ذلك أساسًا إلى تعمّد الدولة الإبقاء على أجور دنيا لا تسدّ الرمق – من أجل جذب الرأسمال الأجنبي – وبسبب تقاعسها عن تطبيق قانون الشغل (الضعيف أصلاً) وتغاضيها عن العمل الهشّ ودون تأمين أو عقود للتونسيين، فما بالك بمهاجري جنوب الصحراء الذين تضطرّهم ظروفهم الأصعب إلى الرضوخ أكثر لابتزاز الرأسماليين التونسيين…

باختصار، المسؤول الرئيسي والأول عمّا نشهده من جرائم وقبح وعنصرية هي المنظومة الرأسمالية المعولمة، التي تدفع البشر إلى التنافس فيما بينهم من أجل لقمة العيش، عوض التعاون لمصلحة الجميع، وتٌقسّم المجتمعات إلى أقلّية مالكة محظوظة وأغلبية بائسة مضطهدة. وتفعل نفس الشيء بين شعوب البلدان الواقعة على هامش المنظومة، أي بلداننا في الجنوب. اذ تدفع، كما نرى اليوم، مفقّري هذه الشعوب نفسها إلى التقاتل والتباغض فيما بينها خوفا على لقمة العيش (التي يجعلونها صعبة المنال بسبب طبيعة الرأسمالية نفسها). وهنا يدخل خطاب الخوف من الآخر والعنصرية والاحتقار الطبقي والجهوي لتسهيل الحفاظ على استمرار مصالح الأقلية.

ما نراه اليوم هو الوجه البشع والحقيقي للمنظومة الرأسمالية المعولمة التي يذهب ريعها حصرًا للبرجوازيين، المحلّيين في بلداننا، وبدرجة أكبر لبرجوازيّي دول المركز الاستعماري في أوروبا والولايات المتحدة. ولا خلاص حقيقي لنا كي نرتاح من آفات العنصرية والفقر والبطالة وغيره سوى بتحطيم المنظومة الرأسمالية واستبدالها بنظام اقتصادي وسياسي جديد قائم على التعاون بين البشر والانتاج الجماعي الذي يستجيب لحاجيات كلّ المجتمع، ولا يراكم الأرباح في جيوب الأقلية فيما ينشر البؤس والمعاناة في صفوف الأغلبية.

لكن هذا يتطلبّ المزيد من النضال طويل الأمد والتنظم السياسي بالنسبة لأبناء الطبقات الشعبية في مختلف بلدان الجنوب، وحول العالم. لكن مالذي يمكن فعله الآن هنا لوقف هذه المأساة التي تحصل أمام أعيننا؟

ما الذي يجب فعله؟ الآن ثمّ لاحقا

الآن وهنا، على الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها في حماية أشقائنا المهاجرين من جنوب الصحراء. يجب حمايتهم من جرائم الشباب المُغرّر بهم ومعاقبة المجموعات والصفحات المحرّضة عليهم. كذلك يجب التعامل مع من لا يحمل منهم وثائق قانونية بطرق تحترم انسانيتهم وتستجيب لحاجياتهم الصحية والاجتماعية، وأن تقع حمايتهم في مناطق لائقة آمنة وليس تكديسهم في الصحراء على الحدود مع ليبيا أو غيرها. هذا واجب أخلاقي وإنساني على بلدنا الأفريقي أن يضطلع به تجاه إخواننا في البشرية وفي المعاناة بغضّ النظر عن توفّر الامكانيات، مثلما يفترض أن تقوم به تجاه التونسيين.

بالتوازي مع ذلك، يجب مطالبة الاتحاد الأوروبي بتحمّل مسؤوليته كاملة تجاه هؤلاء المهاجرين الذين ترغب أغلبيتهم الساحقة قطعا في التوجه نحوه لا البقاء في تونس. إمّا أن يقبلهم الأوروبيون عندهم، أو يتدبّرون أمر إعادتهم إلى بلدانهم على حسابهم. ولا يجب أن يتحوّل هذا الأمر إلى ورقة مساومة حول قرض صندوق النقد أو لتحصيل “مساعدات” من أوروبا، كما يدعو إلى ذلك بعض الشوفينيين والليبراليين. كذلك، يجب على الدولة التونسية أن تُفسح المجال لمن يرغب منهم كي يركبوا البحر ويصلوا إلى سواحل أوروبا دون اعتراض سبيلهم. ولتتحمّل أوروبا مسؤولية جرائمها وسياساتها تجاه شعوب قارّتنا. وعندها تكون الدولة قد جسّدت فعليًا ما سبق أن أعلن عنه رئيسها من أنّ “تونس ليست حارسة لغير حدودها”. قد لا يكون هذا هو الحلّ المثالي، لكنه يبقى أفضل من أن نتقاتل فيما بيننا وأن تحلّ الكراهية بين شعوبنا عوض مشاعر الأخوة والتعاون ووحدة المصير…

كذلك، يجب أن تعمل دولتنا على استيعاب جزء من هؤلاء في مجتمعنا وتمنحهم أوراق إقامة قانونية. اذ من الواضح أنّ البعض منهم يرغب في الاستقرار في بلادنا وأثبت أغلبهم خلال السنوات الماضية نجاحهم في الاندماج في مجتمعنا. يمكن أن يتمّ ذلك إثر دراسة دقيقة وبتشريعات واضحة لا تفضي إلى الإمعان في استغلالهم أو إلى تحويلهم – كما هو حالهم الآن – إلى جيش احتياط لفرض أجور أكثر زهدًا لابتزاز العمّال التونسيين.

هذا فيما يخصّ الأمد القصير. أمّا بالنسبة لما يجب فعله في الأمد المتوسط والبعيد، فهو واضح وسبق ذكره في منصتنا هذه عشرات المرّات. لا خلاص لنا الّا بالتغيير الجذري لسياساتنا الاقتصادية وتموقعنا الجيوسياسي، المرتبط حكما بالأولى. فعندما نصبح بلدًا ذي سيادة غذائية وطاقية ومالية، سنمتلك جزءًا كبيرًا من سيادتنا الوطنية وستقلّ إلى حدّ كبير تبعيتنا لدول المركز الإمبريالي الغربي. كما أنّ السبيل الوحيد الذي سيمكّننا من كسر هذه التبعيّة إلى الأبد يمرّ جتمًا عبر الانتقال بعلاقات التعاون مع بلدان الوطن العربي والقارة الأفريقية والجنوب عامة، إلى إقامة اتحادات كنفدراليّة وتكتلات اقتصادية اقليمية. وهاهي أحداث العالم تؤكّد كلّ يوم أنّه لا بديل لنا عن الاتحاد حتى نتخلّص من سطوة القوى الاستعمارية. كما سنكون عندئذ قد نوّعنا من علاقاتنا ومبادلاتنا التجارية الدولية وسنكون في احتياج أقلّ بكثير للقروض المشروطة للمؤسسات المالية الاستعمارية، وسيكون اقتصادنا أفضل وأكثر قدرة لا فقط على تحسين ظروف عيش مواطنينا، بل وكذلك المساهمة في مساعدة أشقائنا في بلدان أفريقيا وغيرها من بلدان الجنوب.










أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !