رأيْ | حدود المقاربة “الوطنيّة” في التّعامل مع الهجرة

بقلم منذر سوودي

مدافع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية


“تونس لن تقبل أبدا بأن تكون حارسة لحدود أي دولة أخرى كما لن تقبل بتوطين المهاجرين في ترابها”

– من بلاغ رئاسة الجمهورية 19 جوان 2023، على خلفية استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيّد لوزيري داخلية كلّ من فرنسا وألمانيا –

رغم ما قد تحمله هذه الجملة في ظاهرها من تناسق وانسجام في الأفكار، إلّا أنّ عبارة “كما” وردت في غير محلها في هذه الجملة فقد جمعت بين الشيء ونقيضه.

ممّا لا شكّ فيه، لا يمكن أن يكون هناك أي اختلاف سياسي مع الجزء الأول من هذا المقتطف من التصريح الرئاسي والمتعلّق برفض لعب دور حراسة الحدود لأي دولة أخرى (المقصود بذلك دول الشّمال) بل، وعلى العكس من ذلك، أن يصدر هذا الموقف من أعلى هرم السّلطة، فإن ذلك يعتبر خطوة محمودة في الطريق الصحيحة رغم ما نلاحظه من اختلاف الواقع عن التّصريحات، على أمل أن نشهد تناسقا بينهما في الأيام القادمة وأن يُترجم هذا الموقف في السياسات العمومية للهجرة وفي وقف التنسيق الأمني في البحر.
إنّ الإشكالية تكمن في الجزء الثّاني والذي يحمل في طيّاته تفاصيل المقاربة المعتمدة: المقاربة “الوطنية” (في معناها القومي الضيّق) والّتي تجرّد تونس من محيطها ومن موقعها الجغرا-سياسي.

قبل الخوض في مسألة الهجرة خصوصًا، يجب الإشارة للفوارق في مفهوم المسألة الوطنية بين دول الشّمال ودول الجنوب، إذ يتجسّد مفهوم الوطنية لدى دول الجنوب عادةً في سياق فعل مقاومة. يبرز ذلك خاصّةً مع الدّور المهم الّذي لعبه “الوازع الوطني” كمحرّك في تحرّر شعوب هذه الدول من الاستعمار خلال القرن الـ20، فيما انتهت الحركات “الوطنية” في دول الشّمال إلى صنع شوفينيّات تكرّس تفوّق شعوبها على باقي الشعوب. 

ورغم ذلك، فإنّ ارتكاز الفعل السيّاسي على المقاربة “الوطنية” الضيقة، حصرًا، كمنطلق مجرّد في التاريخ ومنفصل عن باقي التناقضات، يجعل منه مجرّد محاولة لإعادة التموقع صلب علاقات الهيمنة (من دور المهيمن عليه نحو دور المهيمن)، في حين أن الغاية هي تفكيك علاقات الهيمنة. وغالبًا ما يؤثّث هذا الفعل السياسي مسيرته بخطاب رافضٍ لعلاقة الهيمنة القائمة وهو ما قد تستسيغه أذاننا ونشترك فيه مرحليًّا كما أشرنا إلى ذلك أعلاه.

أما فيما يخص مسألة التّوطين، ففي البداية وقبل كل شيء، فإنه لا يخفى على أي مطّلع عن كثب على ديناميكيات الهجرة من وإلى تونس، أنّ الأراضي التونسية هي بمثابة أرض عبور، وأنّ تواجد المهاجرين والمهاجرات داخل الحدود التونسية هو تواجد ظرفيّ (زمنيّا) وطرفيّ (في علاقة بمحطات مسارات الهجرة) وبالتّالي فإنّ مسألة التوطين مسألة ثانويّة إن لم نقل أنّها وهمية باعتبارها غير مطروحة حتّى من قبل المهاجرين أنفسهم. كذلك الأمر بالنسبة للجانب الأوروبي إذ لا يهمّه إن كان مصير هؤلاء المهاجرين التوطين على الأراضي التونسية أو الترحيل نحو بلدان المنشأ، بقدر ما يهمّه أن يمنعهم من أن تطئ أقدامهم شواطئ الضفّة الشمالية للمتوسط.

إنّ استحضار خطاب رفض التّوطين (بصفة مجّانية إذ لا وجود لمبرّر لذلك) لا يندرج في هذه الحالة إلّا في خانة فرض المقاربة “الوطنية” المغلقة والضيقة كمنطلق لتناول المسألة، وكذلك بهدف الفصل بين مساري الهجرة؛ هجرة التّونسيين والتونسيّات نحو أوروبا وهجرة أفارقة جنوب الصّحراء، نحو أوروبّا أيضًا، مرورًا بالأراضي التونسية. إلا أن هذا الفصل غير منطقي تماما نظرا لاشتراك المسارين في نفس الوجهة المقصودة (الضّفة الشمالية للمتوسّط) وفي نفس الوسائل (قوارب الهجرة غير النّظامية). يحتّم ذلك على الفاعلين السياسيين اعتماد مقاربة أشمل من المقاربة “الوطنية” الضيقة التي تضع تونس موضع ضحية لمؤامرة كونية تشارك فيها دول الشمال والجنوب إلى جانب عصابات “تتاجر بالبشر وأعضاء البشر” بما يجعلها تعيش حالة “غير طبيعية” (توصيف مقتطف من نفس البلاغ المذكور أعلاه).

على خلاف ما يروّج له هذا الخطاب، فإن الحالة الطبيعية لتونس هي أن تكون أرض عبور وأرض انطلاق لتدفّقات الهجرة نحو أوروبّا في عالم ينقسم إلى جزئين؛ شمال ناهب وجنوب منهوب. بل إنّ الحالة “غير الطبيعية” هي أن تكون تونس خارج هذا التّقسيم وأن تسطّر سياساتها العمومية بناء على موقع خيالي مجرّد وفي إطار “المنزل المغلق” (لا نهاجر ولا يهاجرون نحونا).

ما العمل؟

رغم ما تمثّله الهجرة من مجال للبحث ورغم أهمية فهم أسبابها ودوافعها، إلّا أن الخطر يكمن في تحويل تلك المحاولات البحثية لوسيلة للحد من الهجرة. فقد دأبت مؤسسة الرّئاسة على الإشارة في كل مرّة إلى “ضرورة معالجة الأسباب بدل النتائج بهدف وضع حد لهذه الظاهرة غير الطبيعية” في حين أنه من الأجدر أن يكون المنطلق في التعامل مع هذه المسألة نابعا من أرضيّة عمل سياسيّ تسلّم بحق كل إنسان أو مجموعة بشرية في التنقل واختيار مقر الإقامة باعتبار أن ذلك الحق متأتٍ من طبيعة الجنس البشري وطريقة عيشه والتي لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تُسنّ التشريعات في تعارضٍ معها.

أمّا في علاقة بالتّعامل مع موجات الإبحار “غير الشّرعي”، فلولا الاحتراز الأخلاقي، نظرا لما قد يترتّب عن الهجرة غير النظامية -في الظروف الحالية- من مخاطر بسبب غياب أبسط وسائل السّلامة، لاعتبرت أن الخطوة الأولى لمعالجة المسألة تكمن في رفع اليد وفتح الأبواب أمام المراكب بما تحمله من أصحاب وصاحبات جنسيات مختلفة. فـ”غير الشرعي” هو سنّ القوانين والتشريعات (أنظمة التّأشيرات) وانتصاب الأجهزة الأمنية والعسكرية (فرونتاكس نموذجًا) بهدف منع البشر من التمتّع بحقوقهم.

إن الدّور الّذي يجب على تونس أن تلعبه، بصفتها دولة تنتمي للجنوب المنهوب الثّروات، هو أن تسائل ذلك التّقسيم العالمي الذّي يسمح بحرية تنقّل السّلع والأموال في حين يشيّد الجدران ويحفر الخنادق أمام الإنسان فإذا تجاوز كل ذلك كان عرضة للإغراق والقنص بالرصاص. كما على تونس (بالشراكة مع دول جنوب ضفة المتوسط) أن تعمل أيضا على رفع القيود المفروضة على المهاجرين من أراضيها ومن دول الجنوب عمومًا كالتّأشيرات والتّرحيل القسري. دور لا يمكن أن تضطلع به تونس في الوضع الرّاهن الذي يتّسم بانفصال البلاد عن انتمائها الإفريقي و لدول الجنوب عمومًا والذين تشترك معهم في نفس الموقع من علاقات الهيمنة.

 أخيرا، ما هو مؤكد أن معالجة الظاهرة وفهمها فهما دقيقا لا يمرّ عبر عقد تحالفات مع حكومات وتيّارات من الشّمال تتبنى صراحةً مقاربات وتوجّهات معاديةٍ للمهاجرين والمهاجرات الوافدين والوافدات عليها من دول الجنوب.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !