فيديو|سنتان على اعتصام الجدّة محرزية: ماذا عن حقّ الطبقات الشعبية في السكن؟

عمل صحفي ونصّ عمر مرزوق

تصوير ومونتاج وجدي المسلمي


بعد سنتين من إخلاء بيت الجدة محرزية في أريانة القديمة وطرد ساكنيها بالقوة العامة، عادت إبنتها سارّة مؤخرا للاعتصام أمام البيت في مدخل السوق، مجدّدة تمسكها بالحق في السكن الإجتماعي بعد تنكر الدولة لوعودها السابقة واستمرار المضايقات الأمنية في حق أبنائها المحرومين من تسوية وضعيتهم القانونية.

تلقّت عائلة الجدّة محرزية على مدار سنوات إنذارات الإخلاء المتكررة من بيتها العتيق الكائن بأريانة القديمة، لتحويله إلى منشأة تجارية أو عمارة سكنية على الأرجح، تحت مسمى “التنمية المحلية” و”رفع الحركية الإقتصادية” للمنطقة وغيرها من المقدمات التمهيدية التي دأبت على إستعمالها سياسة الإحلال العمراني الطبقي القائمة على حرمان الشرائح الشعبية والهشة من حقها في المجال الحضري المديني لصالح الاستثمارات الربحية والفئات الميسورة القادرة على الاستهلاك.

وتخوض العائلة هذا النزاع القانوني باعتبارها تقطن المنزل منذ منتصف الستينات بذمة عقود كراء قديمة موثقة تثبت أحقيتهم بالمنزل في تناقض مع قرار المحكمة القاضي بعكس ذلك.

شهد هذا النزاع ذروته منذ سنتين حين قررت السلطات إخلاء المنزل بالقوة العامة تمهيدا لهدمه، ضاربين عرض الحائط مصير عائلة بأسرها تعاني سلفا من الهشاشة الإجتماعية ومظاهر الإقصاء الناتج عن سياسات التمييز والوصم التي تطال معظم الفضاءات الشعبية وساكنيها المعدمين. مما دفعهم للاعتصام أمام المنزل لمدة تراوح الشهر تمسكا بنصيبهم من ذاكرة المكان والجسد واحتجاجا على قرار الإخلاء والضغوطات الأمنية. ونجحوا في كسب اهتمام الرأي العام بقضية الجدة محرزية التي استطاعت حشد الدعم المادي والمعنوي من قبل شرائح واسعة في المجتمع المدني والسياسي. وانتهت المواجهة بطرد العائلة من المنزل في مقابل وعود السلطة الجهوية بتوفير سكن لائق للعائلة وتسوية وضعيتها القانونية.

اليوم وبعد مرور سنتين، تؤكد سارة أن الملف لم يتحرك قيد أنملة ولم يجد الى حدود اللحظة إرادة التنفيذ، رغم أنها لم تتوقف عن تذكير الولاية باتفاقها السابق عبر مختلف أشكال التواصل. إذ تقول أنها عرضت الإشكالية على رئيس الجمهورية نفسه عند زيارته الولاية بشكل فجئي مؤخرا، وهو من أخبرها بأنه على علم بالمسألة وأنه سيقوم بالتدخل الضروري لحلحلة الإشكال.

وفي ظل غياب إرادة جدية لتوفير سكن لائق يقيها هي وأبنائها من خطورة الشارع ويحفظ لهم كرامة العيش، اختارت سارة خوض شوط آخر من المواجهة، تقول أنه ضروري في ظل تجاهل المسؤولين للظروف السيئة التي تعيشها بالإضافة إلى تواصل حرمان إبنها من بطاقة  تعريف ومن بقية وثائق الهوية الوطنية. وذلك رغم قضائه عقوبة بالسجن على خلفية “الانتصاب الفوضوي” و”هضم جانب موظف عمومي”. وهو يعاني الأمرّين نتيجة البطالة والإقصاء الممنهج من مؤسسات الدولة وخدماتها العمومية.

برنامج السكن الخصوصي… برنامج هش

السؤال الذي ظلّت سارّة تردّده، ومن خلالها بقية المحرومين من السكن، ” لماذا تغض الدولة البصر عن واقع الشرائح الاجتماعية بدون ملجأ؟”. خاصة وأنها قامت بتهجيرهم من مواطنهم الأصلية في أكثر من حالة. ولماذا تتعمد الإدارات الفرعية تعقيد إجراءات الانتفاع ببرامج السكن الإجتماعي؟

 تطالب سنويا آلاف الأسر، التي تتوفر فيها شروط السكن الإجتماعي المنصوص عليها في البرنامج الخصوصي لوزارة التجهيز والإسكان، بأن تُدرج أسمائهم في القائمات الجهوية للمنتفعين. فهذا البرنامج الذي انطلق منذ 2012، والمموَّل من قبل الصندوق السعودي للتنمية، لم يحقق إلى حدود اللحظة الأهداف المرجوة منه.

 ورغم الدعاية الواسعة التي صاحبت الإعلان عن هذا المشروع مطلع سنوات الثورة والوعود بتوفير 30 ألف مسكنا لفائدة فاقدي السكن والفئات محدودة الدخل، منها ما يتعلق بإزالة وترميم المنازل البدائية والمتداعية ومنها المستحدث كمساكن ومقاسم ترابية، إلا أنها كانت دعاية انتخابية بالأساس محدودة باستمالة الناخبين في تلك الفترة.

إذ بلغ عدد المترشحين للبرنامج 300 ألفا يكاد المخطط يخجل من محدودية تطلعاته بالمقارنة مع هذا العدد، وبالمقارنة حتى مع المساكن الاجتماعية المرصودة في العهد النوفمبري البالغ عددها 36851. والأرقام التي نشرتها وزارة التجهيز والإسكان في ما يخص تقدم البرنامج لهي أكبر دليل على هذا. فمن بين 9000 مسكن أُبرمت اتفاقيات بشأنهم، لم يبلغ المنجَز إلى حدود 2020 سوى 5000 تم إنهاؤهم وتسليمهم بالنسبة للعنصر الأول. ومن 13700 مسكنا ومقسما بصدد الانجاز يتوفر الآن 4000 تم تسليم 189 فقط منهم لأصحابها. حتى أن مئات المساكن المجددة أو المحدثة تكاد تبلغ عامها الخامس دون تسليمها لأصحابها، بما يعنيه ذلك من تكلفة إضافية للصيانة والحراسة، خاصة مع تتالي الاعتداءات على المساكن ومحاولات الاستقطان. وجدير بالذكر أن معظم المحاولات تم التعامل معها باعتبارها تحوزا دون وجه حقّ وقوبلت بالحل الأمني، كما وقع في النفيضة مطلع عام 2018.

 تُعزى هشاشة هذا البرنامج، حسب ما جاء على لسان المسؤولين، إلى ضعف رصيده المالي والعقاري. إذ تتحكم في نسق إنجازه بشكل رئيسي مصادر التمويل الأجنبية (السعودية وقطر بالأساس) وتعطل انجازه في عديد المناطق المنازعات العقارية متداخلة الأطراف. ولكن للسائل أن يسأل، ألم تكن جميع برامج الحضرنة والتطور العمراني والإسكان الاجتماعي منذ الإستقلال على نفس الحال؟

 الدولة تتدخل لإعادة إنتاج الامتيازات
تتعرض شروط الترشح لهذه القائمات الى عديد الانتقادات من قبل المترشحين. اذ يشير الكثيرون إلى ضرورة المرونة في ترتيب الأولويات وإلى إدماج أكثر ما يمكن من الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا في البرنامج الخصوصي، خاصة أمام محدودية التمويل العمومي واعتماده بشكل رئيسي على القروض لهذا الغرض. الأمر الذي كان له عديد المضاعفات في السابق كما جاء على لسان نجيب السنوسي (المدير العام للإسكان)، مشيرا إلى قانون المالية 2023 الذي نص على قرار إلغاء فوائد التأخير والفوائد التعاقدية لأصحاب المساكن الإجتماعية مقابل دفع المتبقي من أصل الدين، ولكن دون التعرض للأسعار المشطة لهذه المنازل البعيدة كل البعد عن المقدرة الشرائية للغالبية الساحقة من الطبقات الشعبية. هذا ناهيك عمّا شاب القائمات من شبهات فساد تعلقت أساسا بتسليم مساكن لغير مستحقيها. وهو ما يعيد في مخيلة الناس تجربة صندوق 26_26 التي تميزت بجميع أشكال الزبونية في توزيع المساكن والتصرف فيها بغير حق.

يبدو أنّ ما سبق ذكره قد دفع رئيس الجمهورية، في بلاغ صادر بتاريخ 20 ماي، إلى تحميل المسؤولية للجهات التي كانت تقف وراء هذه الإخلالات. لكن تبادل الاتهامات لن يغير شيئا في ظل غياب الشفافية ولن يمنع المزيد من التلاعب في المستقبل. وكل هذه الوعود لم تزد سوى من حنق الطبقات الشعبية وتجدد عدائها تجاه المضاربين الذين يحتكرون مضاجع الناس ويقضُّونها كلّما خيّم شبح الأزمة. وهي في الأثناء تكابد ويلات الريع العقاري ولا تحلم سوى ببداية شهر خالية من كابوس “الملّاك”. 

وإذ يطالب عديمي الامتيازات هؤلاء بحقهم في المدينة فهم يسعون باستمرار لتعريفه. لأن تعريف الحق ذاته يثير صراعا، وهذا الصراع يجب أن يستمر بالتزامن مع الصراع من أجل نيله. “ولن نصل إلى سياسات منطقية للمدن إلا عندما نفهم تماما أن أولئك الذين يبنون حياة الحضر ويبقون عليها لهم حق أساسي فيما أنتجوه، وأن من بين حقوقهم الراسخة حقهم في تشكيل المدينة ” (دافيد هارفي).


أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !