“نحبّ نموت في داري” ! : مظلمة الجدّة محرزية مثالاً على سياسة الإحلال العمراني الطبقي

بقلم: أمل عامر وشمس الدين الحمروني

اقتحمت القوّة العامّة بيت الخالة محرزيّة فجر الخميس27 ماي المنقضي وأخلته من ساكنيه، الّذين يتعرّضون منذ ما يزيد عن السّنة للهرسلة والتّرهيب لدفعهم إلى الرّحيل عن البيت، ليتّم على الأرجح هدمه وإقامة مشروع ربحيّ على أنقاضه. حصل ذلك في عزّ انتشار وباء كورونا، ممّا أدّى إلى إصابة الجدّة وإحدى بنيتها اللتيْن طُردتا معها.

تقطن الخالة محرزية البالغة من العمر 83 عاما في منزلها الكائن وسط مدينة أريانة القديمة منذ ما يقارب 70 عاما. منذ عقود تكافح للعيش تحت وطأة أوضاع اجتماعيّة متردّية، تنسج على مدار السّنين ذاكرة هي الآن مهدّدة بالهدم لبناء مساحة تجاريّة أو عمارة. ما نسجته الخالة هي وفلذات أكبادها مهدّد بأن يصبح محض مخلّفات هدم.

لكنّ حالة الخالة محرزيّة لا يمكن أن تقرأ كحالة اجتماعيّة معزولة أو وضعيّة إنسانية نتعاطف أو نتضامن معها. إذ بقدر ما يمثّل الاعتداء على الذّاكرة والعلاقة بالمكان -خاصّة عندما يطال إمرأة في سنّ الخالة محرزية تعبّر عن هاجسها الأكبر بالقول “نحبّ نموت في داري”- انتهاكا صارخا للكرامة الإنسانيّة، فإنّه يحيلنا على سياسة ممنهجة في التّعامل مع سكّان الأحياء الشّعبية ومراكز المدن القديمة. ما يحدث مع العائلة هو حالة تقتضيها ظاهرة الإحلال العمراني الطبقي (أو “الجنترة” في تعريب حرفيّ  لـ gentrification) الّتي تتخفّى وراء خطاب التّطوير والتّحديث وإعادة التّهيئة والتّخطيط إلخ.

محرز، عامل يوميّ من منطقة لافايات، يقول أنّه “يواجه خطر التّهجير القسريّ من شقّة هيّأها بنفسه في عمارة مهجورة إلى حدود 2006 على ملك إحدى العائلات النّافذة”. ويؤكّد أنّ”عائلتين من 17 عائلة مهدّدة بالطّرد أُخرجَتا حتّى الآن من مسكنيهما” .

1- الإحلال العمراني مسار ممنهج للفصل الطبقي

الجنترة أو الاستطباق أو الإحلال العمرانيّ  الطبقي هي مسمّيات مختلفة لمفهوم ظهر في ستّينات القرن الماضي، مع عالمة الاجتماع روث غلاس، للتّعبير عن عمليّة إحلال الطّبقات الدّنيا من المجتمع بطبقات أرقى منها ماديًا. وذلك نتيجة لزيادة القيمة الإيجاريّة للوحدات السكنيّة بسبب التغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي تطرأ على المدن بفعل مشاريع التّحسين والتّطوير الحضريّ، الّتي تتزامن مع توسّع دائرة نفوذ رؤوس الأموال بالاستثمار الرّبحيّ على أنقاض المناطق السّكنية الّتي اضطرّت الطّبقات الشّعبيّة للرّحيل عنها لعدم قدرتها على مجاراة النّمط الاستهلاكيّ. وقد ترجمت الباحثة المصريّة أمنية خليل المصطلح للّغة العربيّة إلى “إحلال عمرانيّ طبقيّ” نظرا لتركيز عمليّات الإخلاء على طبقات بعينها ومناطق بعينها لتقوم أجهزة الدّولة بإعادة تخطيط المدن عمرانيّا وطبقيّا إمّا بنفسها أو بإسناد مشاريع إعادة التّهيئة إلى شركات الاستثمار الخاصّة.

هذا الإحلال الطبقيّ لا يقصي أبناء الفئات من المجال فقط بل يقصيهم من التّشكيلة الطبقيّة للمدينة، يجرّدهم من انتمائهم للمكان بقدر ما ينزع عنهم الاعتراف بوجودهم. هم ببساطة هامشيّون غير مرحّب بهم في فضاء يحتلّه أفراد قادرون على الانخراط في الدّورة الاقتصاديّة سواء بالاستهلاك أو بالانتفاع من الاستثمارات الرّبحيّة. بعبارة أخرى هؤلاء “الأرقى” يتواجدون في المكان بناء على انتمائهم الطبقيّ مقابل تشريد من لا يتلاءم نمط وجودهم مع تصوّر المدينة العالميّة/المدينة المتحف.

لا تختصّ تونس بظاهرة الإحلال العمراني الطبقي. فالسّياسات النّيوليبيراليّة الّتي اعتمدتها دول المركز الرّأسماليّ أدّت إلى إعادة تشكيل المناطق العمرانيّة، وبالتّالي إعادة توزيع السّكن في المجال. حتّى أنّ روث غلاس استعملت المفهوم للمرّة الأولى لوصف عمليّة تهجير سكّان العشوائيّات من طبقات عاملة وفئات هشّة في لندن لصالح طبقات أكثر رفاها، كما تشكّل برلين في العقدين الأخيرين ساحة للنّقاشات الحامية حول نفس الظاهرة. أمّا بلدان الجنوب، الّتي تشهد عمليّات الإحلال الطبقيّ العمرانيّ كنتيجة حتميّة لسياسات الانحياز الحضريّ والتبعيّة الاقتصاديّة فهي كثيرة: مصر، الهند، الأردن، لبنان، البرازيل، تركيا…

يعتمد منوال صناعة الهوامش/الغيتوهات على تركيز مواطن الشّغل والامتيازات في الحواضر تزامنا مع استغلال الشّركات الاستثماريّة الأجنبيّة للعقّارات الزّراعية وتركيزها وحدات صناعيّة وخدميّة جاذبة للسّكان في المدن، ما يؤدّي إلى نزوح الرّيفيّين وظهور التّحضّر المفرط كنتيجة لعدم التّناسب بين فرص العمل ومرافق الحياة الّتي توفّرها المدينة وعدد الوافدين عليها من الفئات النّشيطة، ليبدأ الفرز الطّبقيّ فتتحوّل الأحياء الّتي كانت تؤوي طلبة وعمّال وفنّانين وموظّفين وبوهيميّن وفلاّحين وفتيات ليل ومارقين على القانون إلى أحياء تقلّ طبقات بعينها، فيطرد من هم “تحت” إلى الأطراف والهوامش وتشيّد الأحياء الرّاقية والمساحات التّجاريّة الكبرى وفضاءات التّرفيه والثّقافة في الحيّز المكانيّ الّذي احتلّته الطّبقات العليا.

2-خطاب وصم أبناء الطّبقات الشّعبيّة سلاح لتبرير إرهاب الدّولة:

ورغم تخفّيها وراء يافطة التّنمية والتّحسين الحضريّ ومكافحة الفقر والجريمة، إذ تبدأ بتحسين الوحدات السّكنيّة وتغيير نوعيّة حيازة المساكن والاستثمار في البنية التّحتيّة والمشاريع الربحيّة ورفع الأسعار، فإنّها تأخذ في مرحلة ما شكلا أكثر راديكاليّة بعد أن تصبح عنفا ممنهجا تمارسه الدّولة على من تكاد تطلق عليهم صفة ال”بدون”. فالدّولة، بعد تبلور فكرة المدينة العالميّة، تتعامل مع المدينة في حدّ ذاتها كـ”سلعة” فيصبح الفضاء الّذي يحتلّه التّحت مجالا خارجا عن سلطتها وغير مدرّ للرّبح، وهو ما يجعلها تفرض أحقّية طبقات عليا في حيازة المكان لقوّتها الاستهلاكيّة. وفي مواجهة تمسّك الأهالي بأحيائهم العشوائية الّتي شيّدوها في معظمها دون تدخّل الدّولة، ودفاعهم عن “بيوتهم” باعتبارها الشّكل الوحيد المسموح به لمن هم مثلهم من الملكيّة، يصبح مجرّد وجودهم في المكان خروجا عن القانون وتكشف السّلطة عن ترسانتها الأمنيّة وتفعّل أجهزتها القمعيّة ورقاباتها.

وعادة ما يهيّئ لعمليّات الإخلاء القسريّ خطاب وصم للأهالي وتجريم لهم فتروّج في الأوساط “النّخبويّة” كليشيهات تسم أبناء الأحياء الشّعبيّة بالبلطجة والإجرام والبربريّة لتبرير عنف الدّولة وتنزيله في سياق حمائيّ أمنيّ، ولتجريد “المرحّلين” من المساندة والتّعاطف باعتبارهم طفيليّين يشوّهون وجه المدينة المضيء وبالتّالي يسقط عنهم الحقّ في السّكن وفي المدينة. ولعلّ سقطة وزير الدّفاع عند وصفه للمشاركين في احتجاجات جانفي المنقضي بـ”الضّيوف محدثي الشّغب والفوضى” لحظة من لحظات صدق ومصالحة الدّولة الطبقيّة مع ذاتها

يلعب الخطاب دورا أساسيّا في سياسات الإحلال العمراني الطبقي. إذ يطبّع مع الممارسات القمعيّة للدّولة واعتدائها على الفئات الهشّة من خلال تذكير المجتمع بأنّ هذه الفئات مصدر للخطر، وبالتّالي فإنّ ردعها أو فرض الحجر عليها أمر طبيعيّ بل ضروري لحماية المجتمع منها. هكذا يداهم نفس الجهاز البوليسيّ، العاجز عن محاسبة المتهرّبين الضريبيّين وعن إيقاف مستثمر أجنبيّ مارس العنف الشّديد على عاملات بالقيروان، منزل عائلة تسكن حيّها منذ حوالي سبعين عاما دون أن يلقى صدّا ودون أن يتكلّم بعض كهنة معبد حقوق الإنسان عن حقّ الفقراء في السّكن وفي الذّاكرة.

3- الحقّ في المدينة

أصدر المفكّر وعالم الاجتماع الفرنسيّ هنري لوفيفير كتابا بعنوان “الحقّ في المدينة” في 1968 في إطار إحياء الذّكرى المائة لصدور المجلّد الأوّل من “رأس المال”. وفيه طرح المفهوم للمرّة الأولى متناولا المساحة والحيّز في علاقتهما بحقّ الأفراد في التّفاعل وفقا لعلاقاتهم الاجتماعيّة. ويتمحور طرح لوفيفر حول الفكرة القائلة بأنّ الهوامش والعشوائيات بماهي حاضنة لكتلة ضخمة ممّن تسحقهم آلة النّظام الرّأسمالي، يجب أن تؤخذ في عين الاعتبار بالنّسبة لأيّة حركة ثوريّة.

وعاد ديفيد هارفي في 2012 إلى “الحقّ في المدينة” ليستفيض في شرحه انطلاقا من العلاقة الوثيقة بين التّاريخ الرأسماليّ والتّاريخ الحضريّ باعتبار المدينة في سيرها المطرد نحو التغيّر تخلق نمطا من الحياة والاستهلاك يمكّن من تصريف فوائض الإنتاج وامتصاص الأزمات الاقتصاديّة، ومن الحدّ من الاحتكاك المباشر بين الطّبقات وبالتّالي تقويض محاولات احتلال العامّة للفضاء المدينيّ ( مشروع أوسمان لإعادة تهيئة باريس/موزيس “يهوي على برونكس بالسّاطور” أثناء تصميم نيويورك/ ما تعرّض له ميدان التّحرير في القاهرة من “إعادة تهيئة” بدأت ببناء مرأب سيّارات ضخم وانتهت برفع صور الشّهداء وطلاء رسومات الغرافيتي وإحاطة الميدان بالأسلاك الشّائكة.. ). ومن خلال تحليل علاقات الهيمنة داخل المجال الحضريّ، ينتهي هارفي إلى ما انتهى إليه لوفيفر قبل نصف قرن، إلى أنّ المدينة يجب أن تكون نواة الحركات الثّورية وأنّ الكتلة التاّريخيّة يجب أن تتحوّل إلى العمّال غير الآمنين والمهاجرين وغيرهم من سكّان الهوامش بدلا عن البروليتاريا الّتي لم تعد موجودة بشكلها القديم. وعلى ضوء نقده لتصوّر المدينة العالميّة، يعيد هارفي تعريف الحقّ في المدينة بأنّه لا فقط حرّيّة الولوج إلى الموارد المدينيّة بل “الحقّ في تغيير أنفسنا عن طريق تغيير المدينة” لأنّها «محاولةُ الإنسان الأنجح في إعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه وفق رغبات قلبه. ولكن، إن كانت المدينة العالمَ الذي خلقه الإنسان، فقد أصبحت العالمَ الذي حُكِمَ عليه العيش فيه. بالتالي، وبنحوٍ غير مباشر ودون أيِّ فهمٍ واضح لطبيعة مهمّته، في تشكيله المدينة، أعاد الإنسانُ تشكيلَ ذاته» (رولان بارك).

وقد تبنّت عدة حركات تمرّد وتنظيمات بداية من عصيان 1968 بفرنسا والولايات المتّحدة “الحقّ في المدينة” كردّ فعل طبيعيّ على ممارسات الرأسماليّة الشّرسة. وناضلت من أجل هذا الحقّ عدّة حركات حضريّة لتُتوّج جهودها بصدور “الميثاق العالميّ للحقّ في المدينة” في المنتدى الاجتماعي العالميّ الثّالث 2003.

في تونس، يكفي القيام باستبيان بسيط للوقوف على أنّ أصداء “الحقّ في المدينة” لا تكاد تُسمع. جلّ المشاركين حاولوا استنباط تعريفات عامّة للمصطلح في حين اكتفى أشجعهم بالقول “حقيقة لا أعرف شيئا”. وهو أمر متوقّع في ظلّ غياب العنوان عن ساحات النّضال والنّقاش النّظري على حدّ السّواء. وقد تكون وضعيّة الجدّة محرزية مدخلا لطرح الحقّ في المدينة على جدول أعمال المجموعات الثّوريّة.

4- يافطة الحفاظ على التّراث:

تعتبر دار الجدّة محرزية إحدى أقدم البيوت الأندلسيّة بأريانة العتيقة إذ يعود بناؤها إلى أكثر من 120 سنة، ممّا يجعل هدمها طمسا واضحا للهويّة الثّقافيّة والتّاريخية للمدينة. ورغم انخراط الدّولة في برامج وشراكات متوسّطية وعالميّة للحفاظ على التّراث فإنّها تشرّع بآليّاتها القانونيّة والإداريّة والأمنيّة لعمليّة الهدم في تناقض صارخ مع شعار “إحياء التّراث” الّذي تتخفّى وراءه شراكات ترسيخ التّبعيّة والانصهار في منظومة العولمة.

كتبت رانية، حفيدة الجدّة، في تدوينة نشرتها على صفحتها أنّ “إعطاء الأولويّة للحفاظ على التّراث على حساب حقوق الطّبقات الشّعبيّة قد يكون في حدّ ذاته في قلب عمليّة الإحلال الطبقيّ” إذ يكفي إقامة دور ضيافة ومطاعم ونزل تزاوج بين الحداثة والأصالة للتّغطية على مصادرة حقّ الفئات المضطهدة في الوجود على “هوى قلوبها”. ما جدوى الحفاظ على مبانٍ وأنماط معماريّة عتيقة إذا كان من يمنحونها الحياة يموتون في الهوامش؟ أيّ طابع وأيّ دفء لبيوت خالية من “ملح الأرض”، ممّن يختزلون في راحاتهم ووجوههم الحنطيّة ذاكرة المكان؟

لا تزيد محاولات الطّبقة البرجوازيّة مصادرة الثّقافة الشّعبيّة عن محاولات بائسة لاكتساب شرعيّة تفتقدها لتبدو حقيقيّة وأصيلة مقابل شرذمة من النّازحين الّذين تفرض عليهم، في تماه مع خطاب الدّولة، كليشيهات العجرفة والانبتات والبربريّة ( وإن كان خطاب الدّولة هو من يتماهى مع خطاب البرجوازيّة في الحقيقة).

الجدّة محرزيّة ليست إلاّ مثالا آخر عن انحياز الدّولة الطّبقي وحربها الّتي باتت معلنة على الطّبقات الشّعبية. ونضالنا لأجل حقّها في السّكن نضال من أجل حقّنا نحن، لأنّنا جميعا مهدّدون بالتّهجير من بيوتنا مثلما نحن مهدّدون بالإيقاف والقتل لأجل عيون من هم فوق.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !