فيديو| الأبيّض/ باطن الغزال: شركات تعليب المياه : تعطيش الأهالي وتجويع الفلاحين

تصوير-مونتاج-مقال وجدي المسلمي

بمشاركة غسان بن خليفة -آلاء الهادف- ريم الشعباني

“أحنا عندنا زوز إرهابيين توا الإرهاب الي في الجبل عنده غايته أخرى أما هذا إرهاب قاعد يمصّ لي في دمي.” بهذه الكلمات لخص مقداد العابدي، أحد سكان منطقة باطن الغزال (الأبيّض) من معتمدية جلمة بولاية سيدي بوزيد، المعاناة التي يعيشها الأهالي منذ سنوات عديدة جرّاء حرمانهم من المياه الصالحة للشرب. ومن المفارقات الغريبة في واقع الحال أنّ المنطقة الواقعة على سفوح جبل المغيلة، الفاصل بين ولايتيْ القصرين وسيدي بوزيد، تزخر بمائدة مائية ثرية وبعيون عذبة وتتمركز بها 3 مصانع لشركات تعليب المياه المعدنية ورابعهم طور التشييد. في حين يجد أهالي الأبيّض أنفسهم ظِماءٌ يُلاحقهم العطش المزمن منذ سنوات طويلة. كما توجد بالمنطقة المذكورة 4 آبار عميقة على مرمى حجر من القاطنين بها، تستغلها معامل التعليب وتزود بها مناطق أخرى في سيدي بوزيد وكذلك ولاية صفاقس بالمياه الصالحة للشرب.

ينص دستور 2014 في فصله 44 على أن “الحق في الماء مضمون” وفي فصله 20 على أن ” المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز”، فهل هذه النصوص تطابق واقع الحال؟ أما أن الدولة إختارت الانحياز لرأس المال على حساب المواطنين الذين أرهقتهم مواسم العطش المتواصلة؟ وأيهما أولى بالمياه؟ صغار الفلاحين أم “جيوب” المستثمرين؟

الحيف التنموي وشركات التعليب فاقما العطش

يبلغ تعداد باطن الغزال 16118 نسمة موزعين على 7 عمادات (- باطن الغزال الجنوبية 1- باطن الغزال الجنوبية 2- لبيض – العضلة – زغمار – سلتة 1 – سلتة 2) وتُعدُّ الفلاحة نمط الإنتاج الأساسي للسكان، خاصة غراسة الزيتون وتربية الماشية.  يقول مقداد العابدي، أحد المتساكنين بباطن الغزال، أن “الأهالي أرهقتهم مشقة التزود بالمياه عن طريق الصهاريج المجرورة بتكلفة 50 دينار للصهريج الواحد ونقلها من مركز البلدية”. كما تنعدم المياه بالمدراس الإبتدائية الثلاث في لبيض، وبالرغم من تواجد الآبار العميقة وشبكات التوزيع التي تمد المناطق المجاورة بالمياه،  ُفي حين يُحرم المتساكنون من الماء الصالح للشرب. ووصف العابدي ما يحدث  بــ”المظلمة والحيف”، وأضاف أنه بسبب غياب المياه بمنطقته لحويا (باطن الغزال الشمالية) إضطر للهجرة إلى ليبيا بحثا عن العمل،  تاركا ورائه زوجته أطفاله بعد إستحالة العمل الزراعي على أرضه. كما عبّر عن غضبه ممّا وصفه بـ”التجاهل” المتنامي من قِبَل الحكومات المتعاقبة إزاء قضية الماء بباطن الغزال.

وبحسب محمد علي العوني، الناشط بالمجتمع المدني في الجهة فإن معضلة التزود بالمياه في المنطقة تعود إلى سنة 1969، عندما أنشأت الدولة خلال تجربة التعاضد مجمّعات سقوية فلاحية بالمنطقة على مساحة تقدر بـ600 هكتار. تفاجئ الأهالي بعدها بسنوات  بتحويل نسبة كبيرة من الإمدادات المائية إلى المناطق المجاورة كولاية صفاقس وباقي مناطق سيدي بوزيد، مما أدى لضعف الإمداد بالمياه بالجهة.” وأضاف العوني أن “أزمة العطش بالأبيض تفاقمت مع تمركز وحدات تعليب المياه التي زادت في إستنزاف المائدة المائية في غياب الرقابة من الدولة،” وفق تعبيره.

والجدير بالذكر أنه بتاريخ 1 سبتمبر 1993 رخصت وزارة الفلاحة للمستثمر بلقاسم العرضاوي بإستغلال أحد الأبار العميقة بمنطقة باطن الغزال الشمالية، لإنشاء وحدة لتعليب المياه تحت علامة ’حياة‘. وبموجب بنود الاتفاقية الممضاة في هذا الصدد،  والتي حصل موقع انحياز على نسخة منها، ألزمت الوزارة المستثمر بتزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب بصفة مستمرة ومجانية”. إلّا أنّ “عملية التزود لم تدم سوى سنتين فقط من تاريخ بداية النشاط الفعلي لوحدة التعليب،” حسب العوني.

الاتفاقية الممضاة بين وزارة الفلاحة والمستثمر بلقاسم العرضاوي بتاريخ 1 سبتمبر 1993

وأضاف الناشط بالمجتمع المدني: ” البند 4  من الإتفاقية  ينص على أنها تبقى سارية المفعول إلا في صورة إخلال المستثمر بأحد بنودها، إلا أن الدولة لم تتدخل لتراقب مدى إلتزام المستثمر بالشروط”  وفق قوله. وقد حاول موقع انحياز الاتصال بالشركة المذكورة لأخذ تعليقها، الّا أنّه لم يتمّ الردّ على مكالماتنا.

الاتفاقية الممضاة بين وزارة الفلاحة والمستثمر بلقاسم العرضاوي بتاريخ 1 سبتمبر 1993

وبحسب غلاف العلبة لعلامة ’حياة‘، فقد تحصلت الشركة على التراخيص من ديوان المياه المعدنية بتاريخ 11 سبتمبر 1996. ولا تعد العلامة الوحيدة المتحصلة على الترخيص في الأبيُض إذ تتواجد  علامة  ’دليس‘  التابعة لمجموعة دليس المملوكة لرجل الأعمال حمدي المدّب منذ عام 2019، و’تيجان‘ التابعة لشركة سيبام للمياه المعدنية منذ 2018.

وتعمل الأخيرة حاليا على تشييد وحدة ثانية لتعليب المياه بالمنطقة. والجدير بالذكر أن وحدات التعليب الثلاث المتمركزة بباطن الغزال هي من أصل 29 وحدة تعليب بالجمهورية التونسية، حسب أرقام الديوان الوطني للمياه المعدنية والإستشفاء بالمياه عام 2021.

وفي هذا الصدد تتحدث دراسة أعدها المرصد التونسي للمياه عام 2021  على أنّ المناطق التي تتواجد بها وحدات تعليب المياه المعدنية في تونس تعاني أزمة عطش.  وتشهد هذه الجهات في غالب الأحيان إحتجاجات شعبية بسبب الإنقطاعات المتكررة للمياه. على غرار ولاية زغوان الملقبة بـ”عاصمة المياه” والقيروان التي تعد أحد أهم الخزانات المائية في البلاد، بالَاضافة لبلدية باطن الغزال من ولاية سيدي بوزيد. ولسائل أن يسأل عن الخيارات التي تعتمدها الدولة في علاقة بالمنظومة المائية، وعن جدوى الحديث عن دستورية الحق في الماء وسط هذه المفارقة.

إستنزاف المائدة المائية يهدد الفلاحين

يُجمع الفلاحون الذين إلتقاهم إنحياز على  أن الإستنزاف المتواصل للمائدة المائية بمنطقتهم قد يتسبب في تجويعهم وتهجيرهم مستقبلا لإستحالة مواصلة أنشطتهم الفلاحية في ظلّ شحّ المياه. وإعتبر الفلاح محمد جدياوي أن “المائدة المائية في لبيض إستراتيجية، كان على الدولة عدم التفريط بها” منتقدا سياسة الدولة في منح التراخيص لـ3 وحدات لتعليب المياه المعدنية بالأبيض في ظرف 3 سنوات فقط ضمن مساحة جغرافية صغيرة. وأضاف أن “نسبة إستنزاف المائدة  المائية بلغت 150% في حين ان النسبة المسموح بها قنونيا يجب ان لا تتجاوز 60% حد تعبيره.وقال محدثنا “أن جدول المعطيات المذكور به تجاوز النسبة المسموحة إختفت فجأة من موقع وزارة الفلاحة”.

جدول المعطيات المحذوفة

كما إتهم  الجدياوي صاحب شركة تعليب المياه ’حياة’ بأنه “عمد إلى حفر 5 آبار عميقة جديدة  في أرض فلاحية بالمنطقة دون تراخيص”. كما انتقد غياب المراقبة على أنشطة  وحدات التعليب وكذلك شبكات التوزيع التابعة للشركة التونسية لإستغلال وتوزيع المياه، وأردف قائلا “هذا الإستنزاف العشوائي سيتسبب في شح للمياه، ممّا سيظرنا  للبحث عن الماء للشرب بدلا من مواصلة أنشطتنا الفلاحية.” من جانبنا حاولنا الحصول على تعليق وزارة الفلاحة للتثبت من صحة المعطيات المذكورة، لكن لم يتم الردّ على اتصالاتنا المتكررة.

ووفق باحثون فإن تونس تعاني من ندرة في الموارد المائية إذ بلغ البلد مستوى الإجهاد المائي سنة 1994 بموارد متوفرة تعادل 532 متر مكعّب سنويا للفرد الواحد. ويتوقع أن ينخفض هذا المنسوب إلى 360 متر مكعّب سنة 2030 وإلى 150 متر مكعّب سنة 2050 بحسب دراسة صدرت  لمجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية عام 2019. كما يرى الباحث حبيب العايب أن تونس لا تعاني من نقص في الموارد المائية بل في سوء توزيعها إذ أن 80% من المياه المتاحة للريّ توجه نحو الفلاحة التصديرية.

المماطلة والعصا في مواجهة الإحتجاجات…هل تواطأت الدولة؟

لم تدفع هبّات الغضب المتكررة السلطات للتحرك نحو معالجة هذه الأزمة جذريا. إذ خاض المتساكنون منذ سنوات تحركات إحتجاجية للمطالبة بحقهم في الماء. وفي هذا الصدد قال طارق الخريجي أحد فلاحي المنطقة لانحياز أنهم”منذ سنوات لم يتركوا باب مسؤول الا وطرقوه من أجل إيقاف نزيف العطش الذي أصبح يهدد وجودهم”. وبالرغم من تتالي الحكومات وتعاقب المسؤولين إلا أن مطالبهم قوبلت بالمماطلة والتسويف، ولم تبادر الدولة لحل المعضلة وظل الوضع على حاله. وأردف قائلا “بل إن السلطات واجهت الحراك المطلبي للأهالي بالقمع والاعتقال، إبان تنفيذهم لإعتصام خلال شهر جويلية من سنة “2021.  وأضاف أن قوات الحرس الوطني إعتقلت 4 من المعتصمين وقايضت إطلاق سراحهم برفع الإعتصام.

هل الحق في الماء مضمون؟

تُعتبر الفلاحة مورد الرزق الوحيد  لأغلب متساكني باطن الغزال ومصدر عيشهم، القائم أساسا على غراسة الزيتون وتربية الماشية والدواجن. وأمام ندرة إمدادت المياه أصبح خطر الجفاف يهدد وجودهم على أرضهم و ربما سيدفعون في المستقبل القريب نحو هوة الفقر والعوز، ممّا سيضطرهم لمغادرة  أراضيهم والنزوح نحو مراكز الولايات الساحلية والعاصمة بحثا عن الحياة الكريمة. ولاتعكس النصوص القانونية والتشريعية بالبلاد واقع الحال في تونس حول دستورية الحق في الماء.

إذ تعيش جهات أخرى بالبلاد التونسية على غرار متساكني باطن الغزال أزمة عطش راهنة تهدّد وضعهم الصحي والحياتي. ويخوضون منذ سنوات صراعا من أجل البقاء، في ظلّ عجزهم عن تلبية احتياجاتهم في مستوى الشرب والرّي وعدة أنشطة حياتية أخرى ترتبط بالماء. ممّا يَعدو الحديث عن الحق في الماء مجرد حبر على ورق، لا يعكس حقيقة الواقع المعاش في تونس. إن مشهد العطش المتكرر بعدة مناطق من ولايات الجمهورية نتاج للسياسات الاقتصادية للدولة، التي عملت على دفع الإستثمار الخاص في قطاع تعليب المياه  وتشجيع الأنشطة الصناعية الإستخراجية، دون مراعاة الآثار الكارثية المترتبة عن نسق الإستنزاف الجنوني للمائدة المائية، على سيادتنا الغذائية وعلى الحقوق الإنسانية الحياتية للمواطنين.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !