نقدُ نقدِ الرَيْع جزء 2: اقتصادٌ ريْعي أم اقتصاد تابع غير مُنتِج

الكاتب: حمزة إبراهيم










إنطلاقا من نقد الأوهام الإيديولوجية التي يستند إليها خطاب الاقتصاد الريعي سيبيّن هذا النص الوظيفة الموضوعية لهذا الخطاب: “تزييف الوعي”. فهو يٌخفي مشاكل أكبر وأهمّ مما يدّعي أنّه يفضحه. من خلال عرض بعض هذه المشاكل الاقتصادية البُنيوية سيتضح أنّ مشروع مناهضة الريع هو مشروع إعادة إنتاج الوضع القائم (أي البنية الاقتصادية لتونس وموقعها في التقسيم العالمي للعمل). الإجابة على هذه المشاكل ترسم ملامح بديل يمكن وصفه بالوطني الشعبي. وهذا النص، رغم علاقته به وما يمكن أن يوحي به عنوانه، لا يندرج ضمن النقاش حول نمط الإنتاج المهيمن أو ما يُسمّى بطبيعة المجتمع.

فهم مادي للاقتصاد

بيّن الجزء الأول من هذه المقالة أنّ أحد نقاط قوة خطاب مناهضة الريع هو بساطته: إفتَح السوق ودَعِ الناس تجمَع المال وتُثري وستتحسّن الأمور. هل هذه هي نتيجة أكثر من 300 سنة من بحث البشريّة في مجال الاقتصاد؟! عندما يقول هذا الكلام النائب السطحي المُجمَّد ياسين العياري نقول الشيء من مأتاه لا يُستغرَب. لكن هذا ما يقوله أيضا لوبي مناهضة الريْع وخبراؤه الاقتصاديون. فهل حقا جمع أو مراكمة المال يمكن أن يحسّن ظروف عيش المجتمع؟

هنالك إجابة سهلة: إن كان الأمر كذلك فيكفي طباعة الكثير من الأوراق النقدية وسيُصبح الجميع أثرياء. لكن دعنا ننطلق من الأساس المادّي للأمور. الجميع يفهم بداهةً أنّه لا أحدَ يأكل نقودا عند جوعه أو يسكن في بيت من ورق نقدي: النقود ليست ثروة. الثروة هي مثلا المنتجات الفلاحية التي نأكلها والمنتجات الصناعية، مثل الملابس أو وسائل النقل أو الحواسيب، والخدمات مثل المُداواة والنظافة التي نحتاجها في حياتنا. هذه الثروة متأتية من العمل أو من “الطبيعة” (ما وجده مجتمع ما في محيطه ولم ينتجه مباشرة) لا من المال. المال مسألة سياسية، فهو أداة تبادل وتوزيع للثروة، وهو علامتها وعلامة السلطة التي تترتّب عن امتلاكها… إلى غير ذلك.

بناءً عليه فإنّ مراكمة المال لا تعني مراكمة الثروة. أكثر من هذا، منذ صعود النيوليبيرالية ازداد الإنفصال بين مراكمة المال ومراكمة الثروة المادية عُمقًا، سواءٌ في مراكز الرأسمالية أو في البلدان التابعة لها مثل تونس. تمَظهَر ذلك بأشكال مختلفة يمكن تجريدها في تفشّي الأنشطة غير المُنتِجة. لنأخذ مثال التجارة، وهو المثال التقليدي (فتح جملة من الأسواق التجارية للمنافسة هو من أهمّ مطالب لوبي مناهضة الريع). يراكم الفاعلون التجاريون الناجحون المال (أصلا هذا هو معنى نجاحهم). لكن هل تُنتج التجارة ثروة للمجتمع؟ كلّا.

اذ تتمثل في شراء منتوجات بثمن وبيعها بثمن أعلى وتحقيق مدخول عن طريق الوساطة بين المنتج والمستهلك. بالتالي فإنّ دخول مزيد الفاعلين للتجارة عن طريق لبرَلَة هذا السوق أو ذاك وفتحه للمنافسة لا يزيد من ثروة المجتمع. فقط سيفتَكُّ الداخلون الجدد للسوق من منافسيهم حصة من المدخول المالي الجملي الذي يُحَصّلُه التجار من وساطتهم (هذا إن لم يُفلسوا هم أو منافسوهم).

في الحقيقة، مزيد الاستثمار في التجارة هو إهدار للموارد والعمل. مثال مُبَسّط: نفس العامل الذي سيشتغل في محلٍ تجاري كان يمكن أن يعمل مثلا في الأراضي الدولية ويساهم بقدر إضافي من الإنتاج في توفير الغذاء الذي يحتاجه المجتمع، أي في السيادة الغذائية للبلاد. طبعا يجب التأكيد هنا أنّ هذا الكلام ليس إدانة أخلاقية لممارسي التجارة، وخاصة للعمال التجاريين وصغار التجار، فهم يثابرون من أجل توفير قوتهم بكلّ السُبُل الممكنة في إطار ما تفرضه عليهم منظومة الرأسمالية.

ما قلناه عن التجارة ينطبق على عديد الأنشطة التي توصف بغير المنتِجة مثل التسويق والإشهار والتأمين والبنوك والمالية وغيرها. سنُعرّف العمل المنتِج على أنّه العمل الذي يغيّر الخاصيات المادية لشيء ما من أجل الاستجابة لحاجيات أو رغبات إنسانية. سواءٌ كان ذلك بصناعة منتوج (طهو وجبة) أو بتأدية “خدمة” (مثلا حلاقة شعر، أي تغيير خاصياته مثل شكله وطوله، أو تنظيف بيت أي تغيير حالة أرضيته والخ). كلّ الأعمال التي لا يشملها هذا التعريف هي أعمال غير منتِجة.
لمزيد التوضيح يمكن تصنيف الأعمال غير المنتجة إلى أعمال متعلقة بحركة البضائع (بيعها، تسويقها، تبادل سندات ملكيتها إلخ.) مثل الإشهار والمالية، وإلى أعمال إعادة-إنتاج المجتمع1 مثل السياسة والإدارة والمحاسبة والمحاماة والشرطة والقضاء والجيش2. الأعمال غير المنتِجة تستعمل -أي تستهلك- منتَجات وخدمات تُنتجها الأعمال المنتِجة. يمكن بالتالي اعتبارها استهلاكا اجتماعيا على غرار الاستهلاك الفردي للمنتجات والخدمات.

باستعمال نفس التعريف يمكن تقسيم القطاعات والشركات إلى منتِجة وغير منتِجة. هنا يجب الانتباه لكون قطاع أو شركة منتِجة تشغّل أيضا أعمالا غير منتِجة. إذ تُخَصّص اليوم أغلب الشركات إلى جانب التسويق أقساما كاملة لإدارة الأعمال أو “الماناجمنت” وإدارة “الموارد البشرية”. كلّ العمل المشتغِل في هذه الأقسام والأنشطة عملٌ غير منتج. إضافة إلى ذلك تفرض الشركات أكثر فأكثر على عمّالها المنتجين عديد الممارسات البيروقراطية من كتابة تقارير وتعمير استمارات معلومات وتوثيق لعملهم بهدف المراقبة والخ. على ثماني ساعات يمكن أن يقوم نفس العامل مثلا بخمس ساعات عمل منتِج وثلاث غير منتجة في أعمال بيروقراطية. وقد انفجرت هذه الظاهرة منذ صعود إيديولوجية “المناجمنت” النيوليبرالية والبقْرَطة المتواصلة التي تفرضها هذه الإيديولوجيا المهيمنة على كل جوانب العالم والحياة3.

من ناحية أخرى تخلق القطاعات غير المنتِجة طلبا على موارد ومنتوجات وخدمات كان يمكن إسنادها لقطاعات منتِجة. نفس شركة المعلوماتية التي تشتغل على تطبيقة تجارية أو إشهارية أو برمجية لبنك أو شركة تأمين (قطاعات غير منتِجة) مثلا كان يمكن أن تشتغل على برمجية لمعمل صناعات كهربائية أو غذائية أو لمخبر بحث بيولوجي أو فلاحي لو توفّر الاستثمار والطلب في هذه القطاعات.

إنّ التعريف الذي استعملناه للأعمال المنتِجة وغير المنتِجة هو تعريف ماركسي4. لكن يهمّنا في إطار الجدال حول مسألة “الاقتصاد الريْعي” التأكيد أنّ تقسيم الأنشطة الاقتصادية لمنتِجة وأخرى غير منتجة ليس خصوصية ماركسية أو اشتراكية بل هو سابق لها. فقد قسّم الليبراليون الكلاسيكيون وعلى رأسهم آدام سميث ودافيد ريكاردو الأعمال إلى منتجة وغير منتجة. يقول سميث: “هنالك نوع من العمل يضيف قيمة للموضوع الذي يُقَدَّم إليه: هنالك آخر ليس له مثل هذا الوقع. يمكن تسمية السابق، بما أنه ينتج قيمة، بالمنتِج؛ اللاحق غير منتج. هكذا يضيف عمل عامل صناعي، بصفة عامة، لقيمة المواد التي يشتغل عليها تلك القيمة اللازمة لإعالة نفسه وتحقيق ربح سيّده. لا يضيف عمل الخادم، على العكس، قيمة لأي شيء. […] عمل البعض من أكثر الطبقات المحترَمة في المجتمع مثل عمل الخدَم غير منتج لأية قيمة […] الحاكم مثلا، بكافّة المسؤولين عن الحرب والعدالة الذين يشتغلون تحته، وكلّ أفراد الجيش والبحرية هم عمال غير منتجون. في نفس القسم يجب تصنيف: رجال الكنيسة والمحامون والأطبّاء والأدباء بكلّ أنواعهم؛ اللاعبون والمهرّجون والموسيقيون […]”5 ويذهب حتى للقول أن الأعمال المنتجة هي تلك التي تنتج أشياء ملموسة: “عمل العامل الصناعي يثبّت ويحقق نفسه في موضوع معين أو في بضاعة قابلة للبيع […] عمل الخادم على العكس لا يثبّت نفسه في أي موضوع معيّن أو بضاعة قابلة للبيع”6 مُقصيا بذلك كل ما يُصنَّف اليوم كخدمات من خانة الأعمال المنتجة. مرتكزا على تعريفات سميث يكتب ريكاردو: “بحصرنا لتعريف الثروة في الأشياء المادية، العمل المنتِج هو ذلك الذي ينتج ثروة”7.

يختلف التعريف الذي نعتمده عن هذه التعريفات “الفيزياءوية”. لكن المهمّ هنا هو التأكيد على أنّ تصنيف الأنشطة الاقتصادية إلى منتِجة وغير منتِجة يُعدُّ من أُسُسِ الفهم “الكلاسيكي” للاقتصاد الذي يعتبر العمل (المنتِج) مصدر القيمة والثروة: “يكون كل مرء ثريا أو فقيرا حسب كمية العمل التي يمكنه التحكم فيها أو التي يقدر على شرائها”8. يشترك إذن في هذا الفهم الماركسيون والليبراليون الكلاسيكيون. إنّ هذا ما نسمّيه فهما ماديا للاقتصاد.

على العكس من ذلك بُنيَت النظرية النيوكلاسيكية (الإيديولوجيا المهيمنة على فهم الاقتصاد على الأقل منذ صعود النيوليبرالية في السبعينيّات) على مبدأ الذاتوية الليبرالية: كل الأنشطة الإقتصادية متساوية مبدئيا ولا يمكن أن يُفَرِّقَ بينها إلا ثمن تبادلها في السوق الحرّ عبر العرض والطلب، وأي معيار آخر لا يمكن أن يكون إلا اعتباطيا. بينما عبّر تبني وجهة النظر المادية عن صعود البرجوازية وثقتها في عقلانية نظامها، تعكس النظرية النيوكلاسيكية أزمة هذا النظام المتواصلة ولجوء هذه الطبقة وممثليها للتضليل الإيديولوجي.

في هذا السياق اضطلعت النظرية النيوكلاسيكية بوظيفة اخفاء أهمية العمل في إنتاج الثروة. يعتبر الكلاسيكيون أنّ قيمة المنتوجات تنبع من كمّية العمل التي يتطلّبها إنتاجها. يقول سميث: “الثمن الحقيقي لأي شيء، هو ما يتكلّفه للمرء الذي يريد التحصل عليه من مشقة وصعوبة الحصول عليه”9 ويضيف ريكاردو: “إنّه من الطبيعي أن يُقَيَّم ما يتم إنتاجه عادة في يوميْ أو ساعتيْ عمل بضِعف ما يتمّ عادة إنتاجه في يوم أو ساعة عمل”10. على العكس من ذلك تدّعي النظرية النيوكلاسيكية أنّ القيمة متأتية من العرض والطلب. بالتالي يصبح السوق نفسه محرّك خلق الثروة ويتمّ تهميش العمل واعتباره مجرّد عاملٍ كبقيّة عوامل الإنتاج.

تطرُقُنا لمفهوم العمل المنتج إنما هو فرصة جديدة لمزيد توضيح مفهوم الريْع السائد في البلاد والخلط الحاصل حوله. اذ نلاحظ أنّ بعض من نتفق معهم في عديد التحليلات والسياسات الاقتصادية (الاقتصادي جمال العويديدي مثلا) يتبنّون شعار محاربة الاقتصاد الريْعي. يعود ذلك إلى خلط في مفهوم الريْع. حيث أنّ من بين تعريفات الريع الكلاسيكية (والمستعمَلة إلى اليوم11) كونه المدخول المتأتي من أنشطة اقتصادية غير منتِجة، بالمعنى الذي حددناه أعلاه. فيوصف اقتصادٌ بالريعي حينما تتفشى فيه أو تهيمن عليه الأنشطة الاقتصادية غير المنتجة. على هذا الأساس يُندّد العويديدي مثلا بـ “لوبيات الريع” التي تُغرق البلاد بالتوريد ويدعو لفرض قيود للحدّ منه. في نفس الوقت يندّد اللوبي بالريْع في التوريد ويدعو لفتحه للمنافسة ما سيؤدي لمزيدٍ من التوريد (مثلما بيّن الجزء الأول من هاته المقالة). هذا التناقض في السياسات المقترَحة يعكس اختلافا في التعريف. هذا أنّ مفهوم الريع (النيوكلاسيكي) السائد اليوم هو الذي يُعرّفه كفائض الربح المتأتي من تشوّش السوق التنافسيّة المفتوحة (أنظر جزء 1 لأكثر تفصيل) وليس المفهوم الكلاسيكي الذي يعرّفه كمدخول من نشاط غير منتِج. إنّ استعمال مفهوم الريع بمعانيه الكلاسيكية اليوم، مهما كانت نوايا من يستعمله، لا يمكن إلّا أن يغذي هيمنة خطاب مناهضة الريع النيوليبرالي السائد ويوحي بوجود إجماع وطني حوله. ولذا نرى أنّه من واجب كلّ مناهضي المشروع النيوليبرالي الإمبريالي التمايز عن هذا الخطاب والتباين معه ومهاجمته.

إنّ الأوهام الإيديولوجية وإن صمدت في وجه النقد النظري لا يمكن أن تصمد أمام نقد الواقع المادي لها. فبحلول وباء كورونا اكتشفت (!) كلّ الحكومات النيوليبرالية حول العالم أنّ كل الأنشطة الاقتصادية ليست متساوية، وأنّه توجد أنشطة أساسية أو حيويّة وأخرى ثانوية أو كَماليّة. إنّ كل عاقل يفهم أن نشاط شركات الاستشارة ووكالات الأسفار لا يمكن أن يساوي عمل قطاعات الصحة والنظافة والغذاء مثلا. مفهوم العمل الأساسي ليس مطابقا لمفهوم العمل المنتِج إنّما هو مُكَمِّلٌ مُهِمٌّ له. إن صناعة الخبز وصناعة  الشكلاطة عملان منتِجان لكنّ أوّلهما أساسي وثانيهما كمالي. إن معيار الأولوية الناتج عن مفهوم العمل الأساسي مهمٌ أيضا في سياق البلدان التابعة المطروح عليها تغيير بنية اقتصادها وتطوير قوى الإنتاج: هل تستعمل مثلا العملة الصلبة12 الشحيحة التي تجنيها لتوريد آلات تُطوّر بها إنتاج حاجياتها أو لتوريد بضائع استهلاكية لتعيش برجوازيتها استعراض المجتمعات الغربية؟

الناتج الداخلي الخام13

رغم أنه يركّز أكثر على “المستهلك” الضحية والعائلات المستكرشة لأسباب سياسية واضحة إلا أنّ لوبي مناهضة الريع إدّعى دائما ومنذ البداية أن الإقتصاد الريعي حاجز أمام “التنمية”. رغم هلامية هذا المفهوم فقد أصبح عمليا وبمرور الزمن وهيمنة النيوليبرالية مرادفا لنمو الناتج الداخلي الخام (ن.د.خ). لم يكن الأمر دائما كذلك. يكفي مثلا النظر لتقارير الأمم المتحدة في وسط القرن العشرين: “في بلدان شرق أوروبا لا تُعتبَر الخدمات غير المتّصلة مباشرة بإنتاج ونقل البضائع منتِجة وتُقصى قيمتها من الدخل الوطني. بالنسبة لبلد فقير يحاول تطوير صناعته وتقليص سوء التشغيل الرائج في متاجر الخدمات، يمتلك التعريف الماركسي للدخل الوطني أفضليات واضحة على المفهوم الأكثر إدماجا الملائم للاقتصادات الصناعية الثرية والذي يَرُوج الآن تبنيه في البلدان غير المتطورة”14. كانت “التنمية” مرادفا لنمو القطاع الصناعي لا فقط بحساب المعاملات المالية ولكن بحساب حجم الإنتاج.

 يُعرَّف الناتج الداخلي الخام كمجموع القِيَم المضافة داخل حدود بلد ما خلال سنة. كما يمكن احتسابه بجمع المداخيل (لذلك يسمى أيضا بالدخل الوطني) أو المصاريف المالية لكلّ الفاعلين الاقتصاديين. القيمة المضافة في النظرية النيوكلاسيكية هي الفارق بين التكلفة المالية للمواد الأولية والمداخيل المالية التي يجنيها الفاعل الاقتصادي. وهي تنقسم إلى أجور (مدخول العمل) وأرباح (مدخول رأس المال). هل الن.د.خ مقياس جيد للثروة التي ينتجها المجتمع؟ وهل نموّه يعني ازدياد هذه الثروة؟ وحتّى مصمّمه الاقتصادي الأمريكي سيمون كوزناتس كان قد نبّه أمام الكونڨرس من استعماله كمؤشر وحيد لقياس الثروة والتطور الاقتصادي: “رخاء أمّة ما لا يمكن استنتاجه من قياس الدخل الوطني […] أهداف المزيد من النموّ يجب أن تُحدِّد مزيدًا من نموّ ماذا ولماذا”15.

لنستعمل أدوات التحليل التي قدّمناها لفحص هذا المؤشر. إشترى صاحب مستودع بضاعة بقيمة 5000 دينار وباعها بعد شهر بـ 8000 دينار. لنقل أن التكلفة الوحيدة هي كراء المحل بـ 1000. قد حقق بالتالي قيمة مضافة بـ 2000 دينار وساهم بهذا القدر في الن.د.خ. لكن هل تم خلق ثروة جديدة للمجتمع؟ المشكل يصبح صارخا عندما نهتمُّ بمُضاربٍ في البورصة يشتري منتوجا ثم يبيعه إثر ذلك بدقائق بُعيْد ارتفاع سعر تداوله مساهما بذلك في ارتفاع الن.د.خ، وبالتالي في التنمية! هذا ما تؤدّي إليه الشعوذات الميتافيزيقية حول وثن المال. إنّ الن.د.خ، كتعبيرة مُكَثَّفَة عن النظرية النيوكلاسيكية حيث السوق هو مركز خلق الثروة، لا يهتمّ بعملية الإنتاج. بالتالي لا يفرّق بين الأعمال المنتِجة وغير المنتِجة ويعتبر كلّ المبادلات المالية عمليات إنتاج ثروة.

بنفس المنطق عندما يتلقّى بنك فائدة ديْن من شركة منتِجة فهو “يفتكُّ” نصيبا من انتاجها. من وجهة نظر الن.د.خ يحتسب ذلك كقيمة مضافة للقطاع المالي. لكن المشكلة لا تتوقف هنا. فمثلما أشرنا أعلاه، من أجل افتكاك هذه القيمة تُعبّئ البنوك وتستهلك مواردا وعملا (إضافة إلى عمّالها) مثل خدمات شركات معلوماتية وعاملات نظافة كان يمكن أن تُوجَّه لأنشطة منتِجة.

نستنتج إذًا أنّ الن.د.خ يزداد بُعدًا عن واقع الاقتصاد كلّما ازداد وزن الأنشطة غير المنتِجة. هذا المشكل لم يكن مطروحا عندما كانت الفلاحة والصناعة يشكلان الجزء الأكبر من الن.د.خ لكلّ الدول لكنه أصبح مشكلة جدية (مسكوت عنها لأسباب إيديولوجية وسياسية بينّا بعضها) منذ صعود قطاع الخدمات حيث تُوجد جُلّ الأنشطة غير المنتجة. إن ارتفاع حصة قطاع الخدمات من الن.د.خ تعكس أساسا16 ارتفاع نسبة العمل غير المنتِج مثلما تُظهر ذلك كلّ الاحصائيات حول العالم وكما سيُبيّنه هذا النص حول مثال تونس.

إذا سلّمنا إذن بأنّ نمو الن.د.خ يعكس تطورا اقتصاديا أو على الأقلّ ازديادا في ثروة المجتمع (أو “تنمية” كما يقولون) فهذا يعني أنّ ارتفاع عدد مختلف المحلّات والمُركّبات التجارية وتحرير البورصة والمضاربة وقطاع المالية عموما ووكلات الأسفار والعقارات والاتصال والتسويق والحفلات، أي الوسطاء الطفيليّين بصفة عامة، يعني تطورا اقتصاديا بما أن “القيمة المضافة” لهذه الأنشطة ستساهم في نمو الن.د.خ (ولعل لبنان مثال مأساوي على ذلك). لكن يمكن أن نذهب أبعد في إغضاب النيوليبراليين: إنّ استثمارات الدولة عموما (مُمَوَّلة بقروض أو مباشرة من البنك المركزي) مثل الانتدابات في الوظيفة العمومية سواءٌ كانت في أعمال منتجة (الصحة أو التعليم) أو غير منتجة (الشرطة والبيروقراطية) تساهم كذلك في ارتفاع الن.د.خ.

إنّ هذا التجاهل لعملية الإنتاج والتركيز على المبادلات المالية له تداعيات أبعد، إذ يخفي ظواهر مهمّة ويؤدّي إلى عديد المعضلات العبثية. لنفترض أنّ شركتيْن منتجتيْن ‘أ’ و ‘ب’ تنشطان في قطاعيْن منتجيْن مختلفيْن، قطاع ‘ف’ بالنسبة للأولى وقطاع ‘ق’ للثانية. لنفترض أنّه في سنة معينة لأسباب خارجة عن نطاقهما ارتفعت الأسعار في القطاع ف وانخفضت في ق. القيمة المضافة للشركة أ ستترتفع وستنخفض بالنسبة للشركة ب. هذا سيعني ارتفاع إنتاجية عمّال أ وانخفاضها بالنسبة لعمّال ب، حتى لو أنتجوا نفس الكمّيات في نفس الفترة الزمنية ولم يتغير عددهم. فالإنتاجية النيوكلاسيكية هي القيمة المضافة (ثمن المخرجات – ثمن المدخلات) على عدد العمال. يمكن إذن أن نقول أنّ الشركة أ حصّلت جزءا من القيمة التي أنتجتها الشركة ب بواسطة آليات السوق. القيمة المضافة ليست إذن القيمة التي يُنتجها فاعل اقتصادي بل التي يُحصّلها بعد المرور بفضاء التبادل (السوق) مهما كان إنتاجه من عدمه. نفس الشيء يحدُث مثلا عندما ترتفع نسب فائدة القروض (نتيجة ارتفاع القيمة المديرة مثلا، شيء نعرفه جيدا في تونس) وتدفع شركة منتجة جزءا أكبر من القيمة التي تنتجها للبنوك فتنخفض قيمتها المضافة حتى وإن ارتفع إنتاجها. هناك المزيد: إن تحصّل عمّال الشركة أ على زيادة في مدخولهم (بفضل نقابة قوية مثلا) فالنظرية النيوكلاسيكية تقول أن إنتاجيتهم ارتفعت (وهي لم ترتفع). وإن اتجّه ارتفاع القيمة المضافة نحو الأرباح تقول أنّ إنتاجية رأس المال ارتفعت17. هذا أنّ التلازم بين إنتاجية العمل ومدخوله ليس فرضية يتم التثبت من صحتها على محكّ الواقع، بل هي مُسَلَّمَة يتم تشويه الواقع دفاعا عنها. النظرية النيوكلاسيكية إيديولوجيا ميتافيزيقية.

طبعا تحصٌل عمليات تحويل القيمة هذه على مستوى الاقتصاد بأكمله، فهي عمومًا ليست عمليات افتكاكٍ مباشر لمنتوج فاعلٍ من آخر إنّما نتيجة توزيع حقّ ملكيّة واستهلاك البضائع المُنتَجة على مختلف الفاعلين (منتِجين أم لا) عبر آلية السوق. ومن البديهي أنّ هذه العمليات لا تنحصر في إطار وطني، خاصّة منذ تعَمَّق الاندماج الاقتصادي العالمي.

الن.د.خ هو وريث الن.و.خ (الناتج الوطني الخام). بينما يُحصي هذا الأخير القيمة المضافة لكلّ الفاعلين (أفرادا أو شركات) الحاملين لجنسيّة البلاد مهما كان مكان نشاطهم يُحصي الن.د.خ القيمة المضافة لكلّ الفاعلين الاقتصاديين داخل حدود بلد ما مهما كانت جنسيتهم. هذا يعني أنّ القيمة المضافة للشركات الأجنبية في تونس تُحتسب ضمن الن.د.خ التونسي، بما في ذلك الأرباح التي يتم تحويلها إلى الخارج (بلد إقامة الشركة أو إلى ملاذ ضريبي). بالتالي فإنّ ارتفاعا في الأرباح التي يتم تحويلها إلى الخارج هو ارتفاع في الن.د.خ التونسي. لكن الأرباح هي فقط الجزء المرئي (وهو ليس بالهيّن) من القيمة التي يتم تحويلها إلى الخارج. تقوم الشركات عبر-القطرية بتحويل جزء كبير من القيمة التي تُحصّلها (خاصة في بلدان الجنوب) إلى بلدان المركز والملاذات الضريبية عن طريق ما يسمى بـ “تسعير التحويلات”. تتمثل هذه الممارسة في توريد بضائع أو خدمات (يمكن أن تكون وهمية) من المقرّ الأصلي للشركة بأسعار أعلى من قيمتها. بهذه الطريقة يتمّ تحويل جزء كبير من الأرباح في صيغة تكاليف (هكذا يتم تسجيلها في المحاسبة). نفس الشيء يتم عن طريق تدليس الفواتير في المعاملات بين شركات مختلفة عن طريق وسطاء مختصّين. يتم الترفيع في أسعار التوريد والتخفيض في أسعار التصدير لتحويل الفارق إلى الخارج. بين تسعير التحويلات وتدليس الفواتير تخسر “البلدان النامية” أكثر من 1.5 تريليون (ألف مليار) دولار سنويا18.

اقتصاد غير منتِج

بعد هذه المقدمات النظرية العامة يمكن توصيف بنية الاقتصاد التونسي من خلال المعطيات المتوفرة. بتسليط الضوء على بعض المشاكل التي تطرحها سيتبيّن أنّ من شأن إيديولوجيا مناهضة الريْع، بسبب اختزاليتها وجهلها بهاته المشاكل، أن تُعمّقها. ربما ينفع هنا التأكيد أنّ وصف الاقتصاد التونسي بغير المنتِج يشير إلى استشراء الأنشطة غير المنتِجة (بالمعنى الذي وضّحناه أعلاه) لا إلى تدنّي إنتاجيته. فالإنتاجية مسألة مغايرة تمامًا سنتطرّق إليها على حِدا.

ليس هنالك إحصائيات حول وزن الأعمال المنتِجة وغير المنتِجة في تونس، فالإحصائيات الرسميّة مثلما بَيَّنَا لا تستعمل هذا المعيار. لكننا سنحاول استقاءها منها. في الثلاثي الرابع من سنة 2019 كان 14% من الناشطين في الاقتصاد التونسي يشتغلون في قطاع الفلاحة والصيد البحري و34% في الصناعة و52% في قطاع الخدمات19. تُشغِّل التجارة والبنوك والتأمين وحدها أكثر من 13%. يمكن تقدير المشتغلين في الخدمات الإدارية والقانونية وخدمات أخرى غير منتجة بـ 8%20. نتحدث إذن على أكثر من خُمس الناشطين. هذا دون اعتبار قطاع الاتصالات (لدمجه مع قطاع النقل في الإحصائيات) وهو مرتع للأعمال غير المنتِجة من تسويق وإشهار وبيروقراطية، ودون احتساب نفس الأعمال غير المنتجة في قطاع الصناعة عموما. لا نبالغ إذن إذا قلنا أنّ ربع طاقة العمل المشتغلة على الأقل تشتغل في أنشطة غير منتجة.

هذا الحال ليس طبعا خصوصية تونسية فهو حال عديد البلدان وخاصة مراكز الإمبريالية. لكنّه في البلدان التابعة يُعَبِّر عن استنساخ سطحي للاقتصاد المتطوّر والعادات الاستهلاكية الاستعراضية في غياب أساسها المادي في الإنتاج21. هذه نتيجة الهيمنة الإيديولوجية والثقافية للإمبريالية، كنتيجة لهيمنتها الاقتصادية والسياسية. تعيش هذه البلدان، كما سنُبيّن أسفله، من استلاب إنتاج البلدان التابعة، إضافة إلى التطور التكنولوجي لصناعتها. هذا يجعلها تحتاج لأعداد أقلّ من العمال المُنتجين. بدَل إعادة توزيع العمل المُنتج بالتخفيض في ساعاته، تؤدي هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية إلى استشراء الأعمال غير المنتِجة22 بهدف مراكمة أرباح خياليّة. تجدُر إذن المقارنة بالتطوّر التاريخي لهذه البلدان بدَل النظر إلى صُورها الآنية السطحية.

لم تنزل نسبة العمّال الصناعيين (اللون الوردي) في ألمانيا تحت الـ 40% وشغّلت مع الفلاحة (اللون الأزرق) إلى حدود 1970 أكثر من 60% من العمال وفي فترات أكثر من 70%. تشير هذه النسبة الصغيرة التي يمثلها قطاع الخدمات عموما إلى نسبة محدودة جدا من العمل غير المنتِج.

ارتفعت نسبة العمل غير المنتِج والبطالة23 في تونس مقارنة بكوريا الجنوبية بداية من عام 2011. إن كان هذا الارتفاع الحادّ والسريع ناتجا أساسا24 عن ارتفاع البطالة إثر الثورة مباشرة (لعزوف الرأسمال المحلي والخارجي عن الاستثمار) فإنّ تواصله في مستويات مرتفعة (مقارنة بما كان عليه وبكوريا الجنوبية) يفسّره ارتفاع نسبة العمل غير المنتِج، حيث عاد مستوى البطالة عام 2013 (15,9%) إلى المستوى الذي كان عليه سنة 2000 (15,7%). على كل حال كان فارق التطور الاقتصادي قد اتّسع بين البلديْن منذ ما قبل عام 2000.

إذا نظرنا للتطور التاريخي نلاحظ ارتفاعا ملحوظا في نصيب الأعمال غير المنتجة من التشغيل. تضاعف مؤشر خلق مواطن الشغل غير المنتج في تونس25 من شبه استقرار تحت 20% حتى منتصف الثمانينيّات إلى مستويات تناهز 40% وتتجاوزها. ليس هذا الإهدار للعمل بالضرورة خصوصية تونسية. نظرا للتطور التكنولوجي الذي شهده العالم، لم تَعُد الأنشطة المنتِجة (وخصوصا الصناعية والفلاحية) تحتاج نفس الأعداد من العمّال لتحقيق نفس الأرباح بنفس عدد ساعات العمل. نلاحظ أن البلدان التي بدأت تطورها الاقتصادي في النصف الثاني من القرن العشرين، حتى أكثرها نجاحا، لم تُكَرّر التطور التاريخي للبلدان السابقة، خاصّة من ناحية التوزيع القطاعي لقوة العمل. شهدت نسبة العمل غير المنتِج خارج الدولة في كوريا الجنوبية26 هي الأخرى ارتفاعا اجماليا (أنظر الرسم البياني أسفله). كما أن نسبة العمال الصناعيين لم تقترب يوما من النسب التي عرفتها ألمانيا. من الأجدر إذن مقارنة توزيع الموارد، أي الاستثمار.

الاستثمار هو ما يستهلكه الفاعلون الاقتصاديون من أجل تحقيق أرباح (عن طريق الانتاج أو آليات التبادل) في إطار الرأسمالية. إنّ ارتفاع نسب استثمار القطاعات غير المنتِجة يعني إهدارا لموارد حقيقية، أو بلغة أخرى أنّها تستهلك منتوجات وخدمات مُنتِجة وعُملة صلبة دون إنتاج شيء.

ارتفع مؤشر تشكيل رأس المال الثابت غير المنتج27 (أعلاه) في تونس من أقل من 5% إلى أكثر من 15% بين سنتي 1970 و2010 بينما بقي في كوريا الجنوبية شبه قار بين 5% و8%. يعني ذلك أنّه بدَل أن تذهب المباني والبرمجيات والآلات والتجهيزات (التي يتمّ توريد جُلُّها بالعملة الصلبة)، إلى تطوير إنتاجية الصناعة أو لتجهيز قطاع الصحة يتم استهلاكها من قبل أنشطة ثانوية وغير مُنتِجة.

ولئن صار هذا المنحى الذي أخذته الأمور بمثابة سيرها العادي، فإنّه قد انطلق قبل أكثر من 30 سنة كسياسة واعية. “لم يعد حلّ مشكلة التشغيل […] مرتبطا أساسا بميدان الصناعة. النزعة شفافة في خطابات القادة السياسيين […] ويتم تحقيقها على أرض الواقع بوضع جملة من البرامج المُسَمّاة برامج مساندة التشغيل. سنعطي كشاهد على ذلك تصريحا لمحمّد مزالي، الوزير الأول الأسبق في الثمانينيّات: “إذا أخذنا مثلا التصور المتداول للتشغيل فنُعاين أنه لا يشمل كلّ المفاهيم التي يجب أن يتضمّنها. فعلا، لم يَعُد من الممكن أن نواصل البحث عن إمكانيات التشغيل وتحويل البلاد إلى معمل عملاق يقطنه حصريا الأٌجراء في حين توجد وسائل أخرى لضمان موارد دخل للمواطنين وجعلهم عناصر منتجة في الحقول وفي المحلات الصغيرة وفي الورشات وحتى في مساكنهم” […] تحمل البرامج التي تشكّل جُلّ هذا القطاع كخاصية مشتركة طابع المعونة […] ونوعا من النشاط المرتبط بـ[القطاع] الثالثي [أي الخدمات] والحِرف الصغيرة ذات سوق محلي [تحت جهوي] وتستعمل تجهيزات وأنصاف-منتوجات تكون غالبا مستوردة تماما مباشرة أو بصفة غير مباشرة”28. لكن إن كانت هذه الأنشطة الصغيرة تُهدر جزءا مهما من قوة العمل فإنّ إهدار الموارد وامتصاص الجزء الأهم من الإنتاج المحلي هو من نصيب المُجَمَّعات التجارية والمالية الكبرى.

ماهو رأي لوبي مناهضة الريْع في هذا؟ لا شيء. فهذه بالنسبة إليهم ليست مشاكل أو ربما هي مشاكل ثانوية. من الأجدى إذًا التساؤل عن استتباعات مطالب هذا اللوبي في علاقة بهذه المشاكل. المطلب أو السياسة الأساسية التي يطرحها هي فتح الأسواق للتنافس. وأيّ أسواق؟ نلاحظ أنّ القطاعات التي يدعو لفتحها تكون عموما غير منتِجة وأساسا أنشطة تجارية (هذا ليس مفاجئا فهذه القطاعات تركّز جزءا كبيرا من الدخل الوطني) وهامشية وغير مُحَدِّدة في البُنية الاقتصادية للبلاد. يكفي مثلا النظر إلى اهتمامات حملة “وقيّت للقيد أن ينكسر”. على ستة عشر نقطة تهتمّ أقلّ من 8 نقاط بقطاعات يمكن أن يكون لها علاقة بالإنتاج29. ماذا يعني فتح قطاع غير منتج أو ثانوي للتنافس؟ هذا يعني دخول مزيد الفاعلين إليه، أي توظيفه لمزيد من الموارد الحقيقية (آلات، مباني، مواد أولية، خدمات…) ولقوّة العمل، طبعا على حساب القطاعات المنتِجة والحيويّة وذات الأولوية. مثلما أشرنا في أولّ النص، العُملة الصلبة التي قامت بتوريد شاشة إشهارية ضخمة كان يمكن أن تُورّد تجهيزات صحية (سنعود في ما يلي إلى لغز توريد كل هذا وعدم صناعته!). في أفضل الأحوال ستقوم المنافسة بتقليص أرباح هذه القطاعات نسبيا مقارنة بقطاعات أخرى. لكن بأيّ ثمن؟ بإهدار المزيد من الموارد والعمل فيها.

في أسوأ الأحوال سيتم فقط تقاسم نفس الأرباح النسبية مع المنافسين الجُدد. لكن يجب التساؤل حول سياسة فتح الأسواق أيضا في القطاعات المنتِجة. هل من العقلاني في بلاد تعاني شحًا في وسائل الإنتاج (أي في “رأس المال”) توظيف المزيد منها في قطاعات تملك قدرة إنتاجية كافية؟ هل يستدعي التحكّم في الأسعار هذا التوظيف للموارد والعمل في حين يمكن تحديدها (الأسعار) بمجرد قرار سياسي؟ أليس من الأوْلى توجيه هذه الموارد والعُمّال إلى قطاعات أولوية وحيوية غائبة تماما عن البُنية الاقتصادية للبلاد، وما أكثرها!

مطالب اللوبي تطرح إذن التساؤل التالي: لماذا لا تطالب جمعية “آلارت” بفتح قطاع صناعة المحركات الكهربائية أو الهيدروجينية ووسائل النقل أو صناعة المعدات الكهربائية المنزلية أو المعدات الفلاحية للتنافس؟ الجواب سهل: لأن لا أحد يريد الاستثمار فيها رغم أن لا أحد موجود (ما عدا الأجانب!) في هذه القطاعات لمنعهم من دخولها. لكنّ الحال لم يكن دائما كذلك. فإلى غاية السبعينيات كانت الدولة تستثمر في هذه القطاعات وكانت عدة شركات عمومية وخاصة تنشط فيها. اهتمام الدولة بقطاع واستثمارها فيه يمكن أن يكون بإحداث شركة عمومية أو بإقرار تسهيلات وتشجيعات وضمانات لحث الخواص على الاستثمار فيه. هذا أنّ المستثمرين، على عكس ما تروجه الأساطير الإيديولوجية، لا يحبّون المجازفة ويضعون أموالهم في القطاعات التي تَعِدُ بربحٍ أكبر وأسرع. قلَّ ما تكون هذه خصائص الأنشطة المنتِجة. “[…] إن تُركت الأسعار والكميات تماما لاضطرابات السوق، يمكن أن لا يتم الاستثمار في القطاعات والتكنولوجيات التي تتطلب التزاما كبيرا من الوقت أو من رأس المال وستذهب حصة أعلى من المرغوب من استثمار الاقتصاد إلى مشاريع عائدات سريعة. لوحدها، يمكن أن تميل الشركات أكثر إلى البقاء داخل حيز ضيق من خطوط المنتوجات المألوفة بدل أن تتفرع إلى قطاعات ومنتوجات جديدة […] يمكن أن لا يملك باعثو مشاريع دون مساعدةٍ النظرة الاستشرافية والوصول لرأس المال لاتّباع آفاق المدى البعيد. يمكن أن تَحصِر قراراتهم البلاد في التخصص في قطاعات ذات آفاق متدنية”30.

إذا وضعنا إذن جانبا الخطاب الأخلاقوي حول حق الجميع في الإثراء وجمع المال ونظرنا إلى البنية الاقتصادية بأكملها، فسنجد أنّ الرخص وكراسات الشروط وشتّى أنواع الحواجز لدخول السوق هي سياسات لها عقلانيتها الاقتصادية. لكنْ يجب تكميلها بحوافز لتوجيه الموارد والعمل، وهذا ما كان يحصل إلى حدود السبعينيّات. إنّ ما يهاجمه اللوبي من تشريعات ليست كما يدّعي ويتوهم تواصلا لاقتصاد ريعي مهيمن على البلاد منذ القرن 13، أو منذ حكم العثمانيين أو الاستعمار الفرنسي، أو عبثية بيروقراطية صرفة. إنما هي بقايا السياسات الاقتصادية لفترة السبعينات، التي هشّمها الإصلاح الهيكلي المستمرّ، والتي نجحت بعض المصالح القطاعية القوية أو المحظوظة في الدفاع عنها. إلى جانب مناهضة الريع (سنعود إليها مطولا في بقية المقالة) ساهمت سياسة التقشّف باسم التوازنات المالية في استشراء الأعمال غير المنتِجة. تم الحدّ من مصاريف الدولة على حساب ميزانية التجهيز حيث تُوجد الاستثمارات المنتِجة بينما واصلت ميزانية البيروقراطية الإدارية والحاملة للسلاح تطوّرها31. انعكس هذا التقلّص على مستويَيْن: انهارت القطاعات المنتجة المرتبطة مباشرة بالدولة وعلى رأسها الصحة والتعليم وشركات الدولة. من جهة أخرى استشرت الأنشطة غير المنتِجة في القطاع الخاص في غياب حوافز كافية للاستثمار في قطاعات منتجة جديدة. فتوجّه رأس المال إلى قطاعات غير منتجة بهدف الربح السريع، ووجد من يفتقدون رأس المال أنفسهم مُجبرين على تحصيل قوتهم بكلّ السبل الممكنة.

إلى حدّ الآن، ركّز النقد تحديدا على الأنشطة غير المنتِجة. لكن في الحقيقة قطاع الخدمات عموما يطرح إشكاليّتيْن. أولهما تتعلق بمسألة الإنتاجية32. إنّ الخدمات عموما أعمال يصعب تطوير إنتاجيتها باستعمال التكنولوجيا. إذ لا نرى كيف يمكن أن يصبح عمل نادل أو حاضنة أطفال أكثر إنتاجية. أما القطاعين الصناعي والفلاحي فهما الأكثر قابلية لتطوير الإنتاجية. إلى جانب أهدافه ومكانته الاستراتيجية، تطوير الإنتاجية ضروري خاصة في فترة انتقالية (نحو تغيير بنية الاقتصاد) بالنسبة لبلد تابع يعاني عجزا مزمنا في ميزانه التجاري. تحديدا الإشكال الثاني الذي يطرحه قطاع الخدمات هو مسألة التبادلية33 أي قابلية منتوج ما أن يتم بيعه في مكان بعيد عن مكان إنتاجه، وخصوصا هنا أن يكون موضوع تجارة خارجية. من طبيعة الخدمات عموما أنّ تبادليّتها ضعيفة والكثير منها غير تبادلي. هذا من مفسّرات العجز في الميزان التجاري وميزان الدفوعات، وهو الحال حتى في دول مثل بريطانيا34.

نتساءل إذن كيف يمكن أن يدّعي اللوبي أنّ الريْع هو المتسبب في ضعف إنتاجية الاقتصاد التونسي وقدرته على المنافسة في الأسواق العالمية في نفس الوقت الذي يركّز فيه على قطاعات لا يمكن تطوير انتاجيتها بمستويات معتبرة ولا يمكن تصدير منتوجاتها. 

اقتصاد تابع

تُعَدُّ مسألة التجارة الخارجية والعلاقة الاقتصادية لتونس بالخارج عموما في قلب المشاكل العملية المطروحة على كلّ من يهتم بالشأن الاقتصادي. منذ بضع سنين أصبحت أزمة المديونية الخارجية تُكثّف المشاكل الاقتصادية للبلاد. إنّ أيّ اهتمام جدّي بالمسألة الاقتصادية لا يمكن أن يتجاهل مشكلة لها تأثيرات سياسية (السيادة والسياسات الاقتصادية) واجتماعية، أي مباشرة على الحياة اليومية للناس (بطالة، هشاشة، نقص في الخدمات الأساسية…) بهذه الأهمية.

“صار […] الاقتصاد التونسي – إن نظرنا إليه برُمّته – يقترض فقط لتسديد القروض السابقة وذلك من سنة 1986، ولم يشهد ميزان الاقتراض الخارجي حاصلا إيجابيا إلا ستة مرّات والصورة تُغني عن كلّ تعليق حول حجم تسديد الديون الذي حصل طيلة المدة اللاحقة لتدخّل الصندوق الدولي. هنا يمكن أن نقف على نقطتين اثنتين: الأولى هي أنّ الاقتصاد التونسي هو الذي يموّل الخارج لا العكس. فإن أردنا أن نحتسب مبالغ التداين وسداد الديون من 1986 إلى سنة 2010، فقد اقترضنا 41768 مليون دينار وسدّدنا 48631 مليون دينار. أي أننا موّلنا الاقتصاد العالمي بما يقارب 7000 مليون دينار”35. تشير هذه الفقرة إلى نقطتين: أوّلا أنّ تونس تموّل الخارج، أي أنها تصدّر منتوجات وخدمات دون مقابل. فبدل أن تذهب العملة الصلبة التي تجنيها من الصادرات لتوريد منتوجات وخدمات، يتبخّر جزء منها في شكل أرباح تدخل أرصدة المصارف والمؤسسات المالية العالمية تحت مسمّى خلاص الديون. ثانيا، أنّ الاقتراض أصبح بمثابة دوّامة. فكيف انطلقت؟

“تفاقم العجز التجاري بعد الأزمة البترولية انطلاقا من سنة 1975. إذ ارتفع العجز التجاري مع بلدان المجموعة الأوروبية […] جرّاء نزول أسعار أهم الموادّ التي تُصدّرها البلاد التونسية (أساسا زيت الزيتون والفسفاط ومشتقاته) وبقاء أسعار موادّ التوريد على حالها، لكن كذلك جرّاء السياسة الحمائية التي مارستها بعض البلدان الأوروبية […] هذا ما دفع الدولة التونسية إلى مزيد من الاقتراض الخارجي. ولأولّ مرة في تاريخ “دولة الاستقلال” التجأت إلى الاقتراض من الأسواق المالية […] في 1976 […] ممّا أدّى مباشرة إلى ارتفاع نفقات خلاص الفوائد […] وكانت تلك أول حلقة في دوّامة المديونية التي ستدخلها تونس”36. الأساس الاقتصادي لهذه الوضعية المالية هو العجز الكبير والمزمن للميزان التجاري التونسي37. هذا أنّ صادرات تونس لا توفّر العملة الكافية لتغطية وارداتها ولذلك هي تلجأ للاقتراض.

ليس هنالك، على مستوى وطني38، وصفات سحرية لتلافي هذا العجز. إذ يكون إمّا بالحدّ من الواردات أو بزيادة الصادرات أو بكِلَيْهما. كُنّا بَيَّنَّا في الجزء الأول من هذه المقالة كيف أن دعوات حركة مناهضة الريع لفتح التنافس في قطاع التوريد ستكون نتيجتها، إذا طُبِّقت على أرض الواقع، ارتفاعا في الواردات وبالتالي تفاقم عجز الميزان التجاري. بنفس المنطق يؤدّي فتح التنافس في التصدير إلى انخفاض مداخيل الصادرات. يخفض المتنافسون التونسيون على التصدير أسعارهم من أجل افتكاك حصص لبعضهم البعض في الأسواق الخارجية. يعني هذا الانخفاض في أسعار الصادرات انخفاضا في قيمتها المالية الجملية، وبالتالي مساهمة سلبية في الميزان التجاري أي نقصا في عائدات تونس من التصدير والعملة الصلبة.

قبل تحليل بُنيَته وتسليط الضوء على ما يُخفيه هذا العجز التجاري وارتفاع  التوريد من المهمّ الانطلاق ممّا يراه ويعرفه الجميع، ولكن لم يعد ينتبه إليه أحد، فقد تمّ التطبيع معه بعد هذه السنين الطويلة. نظرة سريعة للتجهيز المادّي لحياتنا اليومية أفضل من كلّ تعريفات التبعيّة. جُلُّ التجهيزات المنزلية من الثلاجة إلى التلفاز مرورا بآلة الغسيل مستورَدة ولا تُصنع مثلها في تونس. نفسه حال كل وسائل النقل من حافلات ومتروات وقطارات وسيارات وشاحنات ودراجات نارية. كلّ تلك الحواسيب والهواتف واللوحات الإلكترونية لا يُصنع مثيل لها في تونس. أيضا جُلُّ التجهيزات الطبية في المستشفيات لا تُصنع في تونس. وتطول القائمة.

نلاحظ أنّ الرسميْن البيانيَّيْن لا يختلفان عموما ويشيران إلى ارتفاع تاريخي دائم لنسبة واردت تونس مقارنة بكوريا الجنوبية. عدم اختلاف الرسمَيْن يعني أن هذا الارتفاع في واردات تونس ليس مرتبطا بالتصدير. أي أن هذا التطور للواردات ليس مرتبطا مثلا بمواد أولية من أجل صنع صادرات، وأنها مُوجَّهة للاستهلاك والاستثمار في السوق المحلية. السؤال الطبيعي الموالي هو التالي: إلى أي مدى هي مُوجَّهَة للاستثمار وإلى أي مدى هي موجهة للاستهلاك؟

يأتي الرسمين البيانيين أسفله بالإجابة. إلى جانب انخفاضها مقارنة بكوريا الجنوبية، تتخذ نسبة الواردات الموجهة للتجهيز في تونس نزعة إجمالية للانخفاض. بالمقابل شهدت النسبة المخصصة للاستهلاك انفجارا منذ وسط الثمانينات حيث سرعان ما تجاوزت النسبة المخصصة للتجهيز (ما لم يحصل في كوريا الجنوبية) ووصلت في فترات إلى ثلاث أضعاف نسبة كوريا الجنوبية.

يمكن تفسير هذا الحال بأمرين: أولا تغير العادات الاستهلاكية بتقليد ثقافة مراكز الرأسمالية: “أفرزت هاته العائدات [النفطية] التي تم توزيعها وتحسُّن المقدرة الشرائية وارتفاع الطلب الداخلي اللذين نتجا عنها تطورا هاما في توريد البضائع الاستهلاكية الغذائية وغير الغذائية غذّاه انقلاب كبير في معايير الاستهلاك ضمن شرائح واسعة من السكان […] على عكس الستينيّات لم تأتِ هذه الصناعات في الواقع لتعويض واردات بقدر ما أضافت إليها أخرى جديدة عبر طلبٍ أثارته؛ بصفة يصبح من غير الملائم قطعًا وصفها بتعويض واردات”39.

لكن توريد التجهيزات يشير في نفس الوقت إلى مسألة اقتصادية مُحَدِّدة نظريا واقتصاديا بالنسبة للبلدان التابعة مثل تونس. إنها مسألة الصناعات الموجهة للإنتاج أو ما يسمّى بالصناعات الثقيلة (أو ما يسمّى كذلك بصناعة أو إنتاج “بضائع رأس المال”). “في بلدان متوسطة أو كبيرة، تطوير صناعات بضائع رأس المال شرط ضروري لتعزيز قدرة البلد على تطوير تجديدات صناعية متجسّدة. التكاليف الاجتماعية لعدم القيام بذلك لا تلتقطها أسعار السوق الحرّ المُعتمَدَة للاختيار بين بضائع رأس المال المحلية والمستوردة. مثل هذه الأسعار لا تحتوي لا على تكاليف العجز التجاري المزمن للبلدان المتوسطة وكبيرة الحجم التي لا تنتج بضائع رأس المال ولا تكاليف نقص القدرة على تجديد وتكييف التكنولوجيا المتعلقة بصناعات بضائع رأس المال. الغياب النسبي لصناعة آلات يعني أنّ ارتفاعا في الاستثمار يصبح ارتفاعا في الواردات. بما أن الكثير من الأثر المضاعِف يتسرب إلى الخارج في حين يزيد توريد الآلات من القدرة الإنتاجية، تتقلص ربحية الاستثمارات. زيادة على ذلك يعني الغياب النسبي للقدرة على تكييف التكنولوجيا المستوردة أنه عند ارتفاع الطلب المحلي على منتوج جديد ظهر بالكاد في البلدان المتقدمة […] تتم الاستجابة له بالواردات. لكون هذه الواردات في مرحلة سرعة-نمو-الطلب الإبتدائية من دورة المنتوج، تميل للنمو أسرع من من صادرات الصناعات التحويلية التي تميل أن تكون في مرحلة أكثر تأخرا وأكثر بطء في النمو؛ وتميل للنمو بسرعة أكثر من الصادرات الفلاحية التي تجابه مغلبها نموا بطيئا جدا في الطلب. تتسبب هذه العناصر في نزعة نحو اختلالات تجارية مزمنة. للدولة إذن دور في توجيه الإسناد القطاعي للاستثمار حتى تُقلّص الواردات وتزيد من الأثر المضاعِف وتَحُدّ من النزعة نحو الاختلالات التجارية وتُعزز القدرة المحلية على تكييف التكنولوجيا المستوردة”40.

لنأخذ مصنع حليب أو دواء. هذه صناعات موجّهة للاستهلاك (صناعات “خفيفة”). لصناعة هذين المنتوجين أو غيرهما بكميات كافية وفي وقت معقول وبجودة مقبولة (أي بمستوى جيد من الإنتاجية) يستعمل المصنع جملة من الآلات لضخ كميات محددة من الحليب في العلب ولإغلاق هذه العلب ونقلها عبر مختلف مراحل الإنتاج، أو لخلط المسحوقات الكيميائية المكونة للدواء والضغط عليها لتصبح أقراصا إلى غير ذلك. تُطرح إذن في هذا المستوى مسألة إنتاج هذه الآلات والتجهيزات التي تُستعمل لإنتاج الحاجيات الاستهلاكية. تمثل هنا مقارنة تونس وكوريا الجنوبية معضلة تكاد تكون طريفة إن لم تكن مأساوية. ففي نفس الوقت الذي تورّد فيه كوريا الجنوبية نسبة أعلى من التجهيزات، تمثل صناعتها لها أكثر من 4% من الن.د.خ41. بالمقابل تورّد تونس نسبة أقل منها في حين يكاد يكون نشاطها في إنتاج هذه التجهيزات منعدما. يُمثّل قطاع الصناعات الكهربائية والميكانيكية في مجمله 5% من الن.د.خ. وفي قطاع الصناعات الكهربائية، على 335 شركة تشتغل إثنان فقط في “تجهيزات التحكم في العمليات الصناعية”. هذا يعني أنّ التبعية لا تتوقف عند مستوى توريد الحاجيات الاستهلاكية بل تشمل أيضا تلك التي يتم توفيرها محليا، إذ أنّ عملية إنتاجها تابعة للاحتكارات العالمية. هذا ليس صدفة بل هو في قلب التقسيم العالمي للعمل الذي تفرضه الإمبريالية عن طريق مؤسساتها وإيديولوجيتها.

مسألة الصناعات الموجهة للإنتاج غائبة تماما على كل الخطابات حول “التنمية” و “منوال التنمية” منذ عشر سنين، وبالتالي عن ذهن عموم الشعب التونسي. طبعا ليس لوبي مناهضة الريع من سيطرحها. فمجدّدا إيديولوجيا مناهضة الريع تمنع التطور في هذا الاتجاه. إذا استثمرت شركة مواد غذائية في صنع آلاتها (وهي الأقدر على ذلك لمعرفتها الجيدة لحاجياتها ومراكمتها خبرة في استعمالها وصيانتها) فهي تقوم بتوسّع أو اندماج عمودي وهذا مرفوض من منطلق مناهضة الريع. أما إذا استثمرت الدولة في مثل هذه الأنشطة مباشرة بإحداث شركة عمومية أو بطريقة غير مباشرة عن طريق تشجيع المستثمرين الخواص (خاصة أنّ هذه القطاعات تحديدا تستدعي استثمارات على المدى البعيد لا يُقدِم عليها رأس المال دون ضمانات) بجملة من الامتيازات فهذا هو الريع بعينه، بنفس المنطق.

كنّا أشرنا أعلاه إلى أنّ فكرة بناء اقتصاد صناعي كمحرّك أساسي للتنمية كانت سائدة وتحظى بإجماع في كلّ الأوساط إلى حدود السبعينيّات على الأقل. وكان ما يرسم الخط الفاصل بين الإمبريالية وأعدائها هو الموقف من مسألة الصناعات الثقيلة. فبينما سعت الإمبريالية عن طريق المؤسسات المالية الدولية إلى حصر أنشطة البلدان التابعة في الصناعات الخفيفة مرتكزة على إيديولوجيا الأفضليات المقارنة، دافع مناهضوها على أهمية ربط الصناعات الخفيفة بالثقيلة ودور الثانية في تطوير الأولى وتحقيق الاستقلال الاقتصادي، وبالتالي تحسين ظروف عيش الشعوب وإتمام الاستقلال السياسي42. هذان التوجهان يناسبان فترتين تاريخيتين مرّت بهما تونس. فترة رأسمالية الدولة (وليس الاشتراكية) مع أحمد بن صالح، عندما استثمرت الدولة في قطاعات مثل الصناعات الكيميائية والمعدنية والمعدّات الفلاحية وآلات استخراج البترول وإلى غير ذلك. ثم مع سياسة الاندماج التابع في السوق العالمي والخوصصة (وليس الليبرالية) تحت نويرة. وبعد أزمة مالية مرتبطة بعوامل خارجية سارع صندوق النقد والبنك الدولي إلى تفكيك وإضعاف ما أمكن من سياسات صناعية وشركات لا تتماشى مع أفضليات تونس المقارنة، أي الموقع التابع المسنَد لها في هذه المنظومة.

تقول نظرية الأفضليات المقارنة (وسنعود إليها بأكثر تفصيل أسفله) أنّ تونس، مثل كل الدول “النامية”، تحظى بعرض وفير من العمل43 وبشحّ في رأس المال (يجب فهم رأس المال ماديًا، أي كامتلاك لمجموعة وسائل إنتاج لا كمجرد نقود يمكن في الحقيقة خلقها وطباعتها). وبالتالي يجب أن تتّجه نحو أنشطة تحتاج لكثير من العمال وقليل من رأس المال. على هذا الأساس يأتي اندماج تونس في الاقتصاد العالمي على هيئة شكليْن أساسيَّيْن سيهتمُّ بهما هذا النصّ في ما يلي ألا وهما الاستثمارات الأجنبية والمناولة.

ذهبَ أكثر من 86% من التزامات الاستثمار الأجنبي المباشر سنة 2019 إلى الصناعات التحويلية والطاقة وفقط 12% منها إلى الخدمات. مثلت الاستثمارات بمساهمات أجنبية ثلث (941,4 مليون دينار) الاستثمارات في الصناعة (نصفها أجنبية خالصة). على نفس الشاكلة توجه ثلث الاستثمار الصناعي (941 م.د) إلى القطاع المصدّر كليا. تلقّى قطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائية أكثر من 27% (806٫7 م.د) من مجمل الاستثمار في الصناعة. 89% من صادرات قطاع الصناعات الكهربائية تتمثّل في أسلاك (“كوابل”) أغلبها موجّه لقطاع السيارات44. تنشط في القطاع 346 شركة منها 277 مصدّرة كليا و218 بمساهمات أجنبية منها 149 رأس مالها أجنبي تماما45. يمكن هنا الحديث عن قطاع مُستَعمَر مباشرة والتساؤل: هل لتونس قطاع صناعات كهربائية أم أن هناك قطاع صناعات كهربائية خارجي على الأراضي التونسية؟

يجب الآن تَمَثُّل هذه الأرقام. نلاحظ أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة متركزة في الصناعة وأنّ جزءا مُهمًا من الاستثمار الصناعي موجه كليا للتصدير لا للسوق المحلي. من وجهة نظر ميتافيزيقيّة يساهم ذلك في وهم الن.د.خ. على مستوى مادي، يعني ذلك أولا أنّ جزءا مُهما من الأنشطة التي أحصاها هذا النص وصنّفها كمُنتِجة (لفقر المعطيات الرسمية) تابعة للخارج، أي أنها في الحقيقة مُنتِجة للخارج. تستجيب هذه الأنشطة لحاجيات خارجية لا تونسية ويكفي انقطاع أو انخفاض الطلب في الخارج لأيّ سبب كان حتى تندثر أو أن يوفّر بلد آخر أجورا أدنى أو ضرائب أقل على رأس المال الأجنبي فيتم تحويل وحدة الإنتاج إليه. ثانيا هذا يعني تحويل قيم اقتصادية ومنتجات إلى الخارج دون مقابل.

تقوم الشركات في البلدان الإمبريالية بتحويل مراحل الإنتاج التي تتطلب الكثير من العمال (حيث إدخال التكنولوجيا غير ممكن أو أكثر تكلفة) إلى بلدان مثل تونس للاستفادة من مستوى الأجور المتدنّي. هذا يعني من ناحية أنه من غير الجدّي الحديث عن تحويل تكنولوجيا عبر الاستثمارات الأجنبية، فعمليات الإنتاج التي يتم تحويلها هي تحديدا تلك التي لا تحتوي على مستوى مهم من التكنولوجيا ويتم تحويلها أصلا لهذا السبب. من ناحية أخرى يجعل ذلك العمال التونسيين أقلّ إنتاجيّة لأنهم يشتغلون بأجور متدنية في عمليات لا تحتمل استعمال التكنولوجيا بينما يجعل العمّال في البلدان الإمبريالية أكثر إنتاجيّة حيث تبقى لهم العمليات الأكثر تطورا ويتقاضون أجورا أفضل. هذا يعني أن مسألة الإنتاجيّة ليست متعلّقة بالمجهودات التي يبذلها العمّال التونسيون أو ببراعتهم إنما هي مبنيّة من المنظومة الإمبريالية – وفيها – على شكل توزيع عالمي للإنتاجية. لكن ليست التكنولوجيا العامل الوحيد في حساب الانتاجية (بالطريقة النيوكلاسيكية). مثلما فسّرنا تقوم الشركات الأجنبية بتحويل أكثر ما يمكن من القيمة التي تُحصّلها إلى الخارج. هكذا يبدو أنّ عددا أكبر من العمّال التونسيين يحققون قليلا من القيمة المضافة بينما يحقق عدد أقل من العمال في البلدان الإمبريالية قيمة مضافة أكثر.

لا تتم عمليات تحويل القيمة هذه فقط من الشركات الأجنبية، بل بالعكس ربما تقوم بها لصالحها بشكل أفضل الشركات التونسية التابعة (المُصدِّرة كليا مثلا). أكثر فأكثر تلتجئ الشركات الأجنبية إلى مُناولين من هذا النوع. يقوم هؤلاء باستغلال أكبر للعمال وللبيئة ليصدّروا لها المنتوجات بأرخص الأثمان. هذا أنّ الشركات الأجنبية تضطرّ عموما، حماية لسمعتها، إلى توفير مستوى دخل وظروف عمل وسلامة أفضل وإلى احترام قوانين الشغل والبيئة وإلى غير ذلك. إنّ هذا التخفيض في تكلفة المنتوجات التي تستوردها هذه الشركات الغربية (مقارنة بإنتاجها في المراكز الرأسمالية) يجعلها تُحقّق قيَمًا مضافة أكبر يتمّ تفسيرها لاحقا بعبقريّة ذلك البيروقراطي الأمريكي في فنّ المانجمانت (الإدارة والتصرّف) أو ذلك المشعوذ الأوروبي في فنّ التسويق. بينما هي إنتاج تلك العاملة التونسية التي تشتغل دون عَقْد ودون تغطية اجتماعية وصحّية.

لإسناد أهمية هذه الممارسة بمعطيات إحصائية تكفي الإشارة إلى كون تونس تحتل المرتبة الأولى عربيا في تزوير الفواتير. حيث مثّلت التحويلات الناتجة عن هذه الممارسة بين 2008 و2015 أكثر من 16% من تجارتها الخارجية خارج المنتجات النفطية. لم نسمع، طيلة سنوات من الخطاب الهستيري حول الفساد، أحدا من أبطال مكافحته يتحدّث عن مثل هذه المسائل. طبعا هذا ليس مستغرَبا من أناس فاقدين لأي تصور اقتصادي يكرّرون كالببّغاوات: “الاستثمارات الأجنبية! الاستثمارات الأجنبية!”. عبارة أُخرجَت من إطارها الإيديولوجي وأصبحت بذاتها مُسَلَّمة مُحصَّنة من أي تساؤل.

مشروعان متناقضان

بنفس الشاكلة أصبحت مناهضة الريْع برنامجا في حدّ ذاته. يراها أغلب المنتمين للحركة والمتعاطفين معها كمعركة أخلاقية من أجل “المساواة في الفرص”. فرغم ميولاتهم الليبرالية، وما عدا قلّة متخصّصة في الاقتصاد، يتوقف فهمهم الاقتصادي والسياسي للمسألة عند أهمية التنافس النزيه لتحقيق “التنمية” والارتقاء الاجتماعي وفي تواطؤ الدولة مع كبار “العائلات” والكارتلات (أي البرجوازية) على حساب البرجوازية-الصغيرة و “الشباب”. لكن فكرة الريْع تتنزل ضمن إطار إيديولوجي ونظري أعقد من ذلك وتحمل مشروعا أبعد ممّا تقوله حركة مناهضة الريع ومساندوها.

إن وجود حالة ريع يَنتُج ويُعَبِّر عن عدم إسناد الموارد (والعمل مورد كغيره في النظرية النيوكلاسيكية) حسب الربحية والأفضليات المقارنة. كما ينتج عن تشوّش الأسعار ويساهم فيه. يهدف القضاء على الريع في إطار النظرية النيوكلاسيكية إذًا إلى إظهار “الأسعار الحقيقة” التي يمكن لسوق “حر” و “مفتوح” أن يُسند على أساسها الموارد حسب الربحية والأفضليات المقارنة.

لنفترض منتوجا نزَل سعر تداوله في الأسواق العالمية إلى7$. لكن تكلفته للمُصنِّعين المحليين توافق 9$. لحمايتهم (من الإفلاس) قررت حكومة فرض آداء على توريده يرفع ثمن بيعه محليا للمورّدين إلى ما يضاهي 10$ أو دعم المنتجين المحليين بمِنَح لتصبح تكلفة إنتاجه تساوي 6$. هذا يشكّل ريعًا بـ 3$ ناتجا على تشويش الحكومة للأسعار الحقيقية. بذلك تواصل تونس الإنتاج في قطاع غير مربح وليست لها فيه أفضلية مقارنة وتواصل توجيه الموارد إليه.

يمكن التساؤل هنا حول نقطتين. أولا، عن أي حقيقة يتحدث النيوليبراليون عندما يتحدثون عن “أسعار حقيقية”؟ المقصود هنا هو أسعار الأسواق العالمية. يفترض هؤلاء أن هذه الأسواق “مفتوحة” و “حرّة” يُحدِّد الأسعار فيها توازن العرض والطلب. لكن هذه الفرضية وهم إيديولوجي لا علاقة له بالواقع. اذ إنّه من الوقاحة أن يدعو البنك العالمي تونس للتخلي عن زراعة الحبوب ودعمها لافتقادها لأفضلية مقارنة بينما تُمطِر الولايات المتحدة الأمريكية (و.م.أ.) والاتحاد الأوروبي وروسيا وغيرها مُزارعي الحبوب لديها بعشرات مليارات الدولارات من المنح والدعم (أكثر من 600 مليون دولار للقمح وحده سنة 2016 في الو.م.أ.) وتتجاوز حصة ثلاثتهم من السوق العالمية سنة 2019 نسبة 70% و80% إذا أضفنا كندا. إنه من الطريف، من ناحية أخرى، أن حركة تُندّد ليلا نهارا بالاحتكارات والمفاهمات والكارتالات والتحكم في الأسعار لم تتساءل عن حال الأسواق العالمية من هذه الظواهر في عصر “العولمة”. تتحكّم أربع شركات في أكثر من 85% من السوق العالمي لتحميص القهوة وتُحقق ستة منها 98% من مبيعات البذور حول العالم46. يُعدّد أحد الباحثين الليبراليين المختصين في الكارتلات عبر-القطرية أكثر من 500 كارتل تم الاشتباه فيها وبحثها وتتبعها رسميا بين سنتي 1990 و2008 ولا شك في أنّ ما خفي كان أعظم. أثّرت هذه الكارتلات على أسعار 16 ترليون (ألف مليار) دولار من المبيعات حول العالم في شتى القطاعات47. كما تشير لنفس الظاهرة عديد بحوث منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وص.ن.د. تبيّن هذه العناصر حقيقة أسعار الأسواق العالمية بما هي مبنيّة سياسيا من الإمبريالية: “ليس للأسعار في نظام أسعار الاحتكار المُعَمَّم علاقة بما يسمى بالأسعار الحقيقية المُسنَدة للتنافس في الأسواق وفقا للخطاب الليبرالي الوهمي. إنها تشكّل نظاما يعكس استيلاء الأوليڨارشيات المتحكمة في أكبر الاحتكارات [الجماعية] على السلطة الاقتصادية والسياسية”48.

ثانيا، ماذا يعني إسناد الموارد حسب الربحية والأفضليات المقارنة؟ إنه من غير المربح اليوم لأي رأسمالي تونسي الاستثمار في صناعة آلات غسيل طالما يتم توريدها بأسعار ومن شركات كبيرة لا يمكنه منافستها. منطق الربحية والأفضليات المقارنة ينصّ على أنّ تونس لا يجب أن تستثمر في هذا المنتوج. إذا طبقنا هذا التفكير على بقية المنتوجات والقطاعات فهو يعني إبقاء بُنية الاقتصاد التونسي على ما هي عليه. هذا منطق الجمود وتطبيع القائم بإعادة إنتاجه. إنه منطق جوهراني لا-تاريخي. لكن مثلما بيَّنا هذه الأفضليات والربحية التي تستند للأسعار العالمية (فالأسعار المحلية متأثرة بها بصفة مباشرة وغير مباشرة) ليست طبيعية بل هي مبنية سياسيا وتاريخيا. الكوريون الجنوبيون ليسوا بصفة طبيعية أفضل من التونسيين في صناعة آلات الغسيل. إنما قامت حكومتهم بـ “تشويش الأسعار” وخلق “حالة ريع” لصالح مجمع آل جي (LG، ڨولدستار سابقا) وحمايته من منافسة مصنّعين غربيّين كانوا في لحظة معينة أفضل منه إلى أن أصبح مربحا أو ذا أفضلية. “وجهة النظر التى تقول أن نظام الأسعار المُعلَنَة (أسعار الدفتر) يشكّل معيارا موضوعيا يمكن عن طريقه الحكم على عقلانية الخيارات الاقتصادية هي رؤية فاقدة لأية وجاهة علمية. تقنيات تقييم المشاريع المبنية على حسابات الربحية التي تستند لنظام أسعار كهذا، التي يدافع عنها البنك العالمي، تنتمي لحقل الإيديولوجيا الصرفة”49. إنّ البنك الدولي نفسه يلامس حدود إيديولوجيّته حيث يستغرب أن تونس مازالت لا تنتج حتى بعض المنتوجات التي تحظى فيها بأفضليات مقارنة. في هذا الصدد يمسّ بإحدى مقدساته ويطرح إمكانية تقديم الدولة تشجيعات وامتيازات (قصيرة الأمد حتى لا تتحول لريع لا قدر الله!) في هذه القطاعات.

منطق مناهضة الريع هو إذن منطق تكريس القائم وإعادة إنتاجه. هذه ليست فقط ادعاءاتنا النظرية إنما هي تطلعات أصحاب المشروع أنفسهم. لا يحمل لوبي مناهضة الريع في تونس تصورا معينا لبنية اقتصادية يرغب في تكريسها فمُمارسته تنبع من ثقة عمياء ودوغمائية في السوق والتنافس، وهو قابل مبدئيا بالنتائج التي ستؤدي إليها هذه الآليات. لكن هذا لا يمنعه عن وعي وغير وعي من خدمة برنامج مُعلَن في النصّ المرجعي (في غياب نصوص نظرية أو برنامجية للوبي) لمناهضة الريع في تونس الذي أصدره البنك العالمي سنة 2013 بعنوان “الثورة غير المكتملة” .

رغم التنميق (وأحيانا التشفير) المُتعِب لبعض الأطروحات فإنّ الصورة العامة واضحة منذ الباب الأول. بعد التذمّر من كون الصناعات (التحويلية خصوصا) لم تساهم كفاية في النمو وبقيت انتاجيتها منخفضة يتأسّف النص على تراجع مواطن الشغل في قطاع المالية ذو الإنتاجية العالية حسب قوله (!) لصالح الخدمات للشركات: “[…] أراقت قطاعات خدمات عالية الإنتاجية، مثل الوساطة المالية، عملا امتصته قطاعات منخفضة الإنتاجية مثل الخدمات للشركات”.

يؤكد التقرير طبعا مرارا وتكرارا على أهمية الاستثمارات الأجنبية وعلى ضرورة المساواة بين المستثمرين الأجانب والمحليين في قانون الاستثمار. مرجعه في هذا الشأن (دائما بكل حياد وتكنوقراطية) مرسوم الاستثمارات الأجنبية الذي أصدره الفاشي بينوشي بعد الانقلاب الدموي في الشيلي. ثمّ من ناحية يقول أن تونس تفتقر لرأس المال (وأن أفضليتها المقارنة في وفرة العمل) ومن ناحية أخرى يتطرق لأهمية الشركات الكبرى ويلاحظ أنها قليلة في تونس. يعلمنا إثر ذلك أن شركات عبر قطرية كبيرة مستعدة للاستثمار في تونس إذا رُفعت القيود على الاستثمارات الأجنبية. في نفس صدد رفع القيود على الاستثمار يواصل الب.ع: “إنه أيضا بنفس الأهمية رفع الحواجز وتخويل استثمار أكثر في قطاعات لها إمكانيات نمو مرتفعة وآفاق خلق شغل في تونس – مثل خدمات الصحة وخدمات التعليم […]”.

إلى جانب خطورته فالتقرير أيضا عبثي: “جزء كبير من قياسنا للإنتاجية يعكس ببساطة ارتفاعا في حجم الإدارة العمومية […] تحليل لتقسيم الن.د.خ على مستوى قطاعي يُبرز أن قياسنا للإنتاجية متضخم بالأرباح الاحتكارية”. بعد مديح طويل للإنتاجية وأهميتها يتبيّن أنّ الريع والوظيفة العمومية يساهمان في ارتفاعها. زدني ريعا وإدارة حتى ترتفع الإنتاجية! لكن إن كان الب.ع يعتبر أن إنتاجية الإدارة ليست “حقيقية” فيمكن التساؤل لماذا يعتبر أن انتاجية القطاع البنكي حقيقية! كلاهما يُحدثان معاملات مالية، وإن كان الثاني يساهم بصفة غير مباشرة في الإنتاج وإسناد الموارد فالأول أيضا يفعل ذلك. مُجَدَّدًا تقف النظرية النيوكلاسيكية عند تناقضاتها. فهي رغم كل العتاد الرياضي الذي يوهم بطابع علمي، تلفيقٌ لجملة من الأفكار المتناثرة وأحيانا المتناقضة على أساس فرضيات إيديولوجية.

يرتكز نص الب.ع بكل صراحة على نظرية الأفضليات المقارنة. لذلك فهو لا يكترث للاستجابة لأية حاجيات محلية ويتساءل حصرًا حول آفاق تصدير المنتوجات في الأسواق العالمية. رغم الكثير من الحديث والأماني الفارغة حول التغيير الهيكلي (نحو قطاع الخدمات خصوصا) والمرور إلى قطاعات ومنتجات ذات قيمة مضافة عالية فإنه يستخلص في نهاية التحليل أن أفضلية تونس تتمثل في الأنشطة كثيفة العمل (تحتاج إلى الكثير من العمال) أي تحديدا تلك التي بيّنا أنها تحقّق أقل قيمة مضافة (رغم أنها تنتج أكثرها).

إن حديث الب.ع ومعشر الاقتصاديين عن “سلاسل إنتاج” عالمية و “حلقات إنتاج” تشكّلها، القيمة المضافة لبعضها عالية ولبعضها الآخر منخفضة، يوهم بأن هذه الحلقات متماثلة نوعيا. يخفي هذا المنطق الشكلي تاريخ تشكّل هذه الحلقات والواقع المادي الذي تجرده. تشكلت في الواقع هذه “الحلقات” عندما قامت الاحتكارات العالمية (الشركات عبر-القطرية) بتحويل مراحل من إنتاجها إلى بلدان لاستغلال أجورها الضعيفة (للحدّ من انخفاض نسبة الربح). من الأجدر إذن تصنيف هذه الحلقات إلى حلقات إمبريالية وأخرى تابعة. حيث أن الشركات الموجودة في الحلقات المهيمنة متمكنة من عملية الإنتاج (“سلسلة القيمة”) بأكملها ويمكنها تحويلها إلى مكان آخر أو إعادتها إلى بلد إقامتها في أي وقت بينما العكس غير ممكن. بالتالي إنّ الفرق في القيمة المضافة هو مجرد انعكاس كمّي لهذه العلاقة وهو أيضا سبب وجود هذه السلاسل. لم تخلق الإمبريالية سلاسل الإنتاج لتتسلّقها البلدان التابعة بل لتفتكّ منها الجزء الأكبر من القيمة المضافة.

مقابل هذا المشروع الإيديولوجي الذي تروّج له النيوليبرالية والامبريالية يقف مشروعٌ يُمكن وصفه بالشعبي الوطني. لا ينطلق هذا البرنامج من أيّة مُسلّمات ميتافيزيقية مثل الأسعار الحقيقية أو دغمائيات حول السوق والمنافسة أو غيرها من المبادئ والآليات. إنما يبدأ من الحاجيات المادية للأفراد والمجتمع.

هذا يعني أوّلا توجيه الموارد اللازمة لتحقيق السيادة الغذائية (خاصة في الحبوب) بأقصى سرعة. يكون ذلك باستغلال الأراضي الفلاحية المُهمَلة وتجميعها وتطوير صناعات ميكانيكية وكيميائية تُساند الفلاحة وتطوّر إنتاجيّتها50. ينضاف إلى ذلك اتخاذ الإجراءات الحمائية اللازمة لإحياء قطاع النسيج والحدّ من توريد الملابس. مثلما بينّا في ما سبق فإنّ شرط الإنتاج بكميات كافية (أي أسعار معقولة) والسيادة عليه هو الاستثمار في إنتاج وسائل الإنتاج.

يستوجب تعديل الميزان التجاري تخفيضا حادا في توريد كلّ الكماليات (وإيقافه التام متى أمكن) وعلى رأسها السيارات التي يجب تعويضها بتوريد وسائل نقل عمومية والاستثمار في صناعات نقل إيكولوجية. يمكّن ذلك في نفس الوقت من الحدّ من توريد المحروقات وتقليص العجز الطاقي. كما يمكن الانطلاق في تعويض واردات المعدّات الطبية بالبدء مثلا في انتاج مكثّفات الأوكسجين حيث فتحت شركة ميدترونيك تصميم أحد مراوح التنفس التي تنتجها للعموم.

لا يتّسع المجال لتفصيل هذا المشروع. طبعا تطول القائمة وتحقيقها طريق شائك يطرح عديد التحديات. هذه الاستثمارات يمكن أن تكون عبر شركات عمومية أو عبر تشجيعات  للخواص مصحوبة بضغوطات. إنّ التأكيد مجدّدًا على هذه النقطة هدفه توضيح طبيعة الصراع حول مسألة مناهضة الريع. إنّ كاتب هذا المقال لا يُخفي قناعاته الإشتراكية الماركسية لكنّ من المهم أن يفهم القارئ أنّ الخلاف بين دعاة مناهضة الريع وخصومهم ليس خلافا بين أنصار الرأسمالية وأنصار الإشتراكية. إنّما هو خلاف بين الليبراليين وغير الليبراليين.

ربما تنفع في النهاية إجابة برقيّة على سؤال تمويل هذه الاستثمارات، وهو كما فسّرنا ليس مشكلة حقيقية على المستوى الداخلي. المال ليس موردا، المشكلة الحقيقية هي جرد الموارد المادية الحقيقية المتوفرة. بالنسبة لخلق المال اللازم توفر النظرية المالية الحديثة الأدوات الكافية51 ويكفي إنهاء تبعية البنك المركزي لص.ن.د أي ما يسمّى باستقلاليته (الوهمية). بالنسبة لتمويل الواردات، إضافة إلى تعديل الميزان التجاري بالحدّ من التوريد ورفع التصدير حيث ما أمكن، لا مفرّ من إسقاط الديون الخارجية وهذه مسألة سياسية صرفة. يمكن أن يكون ذلك بانتهاز أزمة مالية عالمية أو بتشكيل جبهة دولية تمثل “خطرا منظوميا” لفرض ميزان قوى في التفاوض أو بالالتجاء إلى الصين (دون أوهام أُمَمِيّة) وإلى غير ذلك.

خاتمة

تناول هذا النصّ مشكلتيْ التبعية وإهدار الموارد والعمل في أنشطة غير منتِجة، فبيَّن أنَّ من شأن مناهضة الريْع تعميق هذه المشاكل. هذا أنها تدعو إلى توظيف المزيد من الموارد في نفس القطاعات. فهي بذلك، وعكس ما تدّعي، قوة محافظة على الأوضاع القائمة عبر مزيد تعزيز نفس البُنية الاقتصادية للبلاد. كما بيَّن النصّ أنّ سياسات مناهضة الريع من شأنها مزيد تعميق التبعية وعجز الميزان التجاري.

بمرور بعض الزمن الآن أصبحت “مناهضة الريْع” خطابا سياسيا وغاية مستقلة بذاتها. لكن وراء هذا الخطاب هناك عقلانية اقتصادية تتمثل في نظرية الأفضليات المقارنة وتوكيل مهمّة إسناد الموارد – بما في ذلك اختيار قطاعات وأنشطة الإنتاج الأولوية – للسوق. إنّ القول أنّ مناهضة الريع تعني شيئا آخر هو ضرب من ضروب النفاق أو الجهل أو السذاجة أو الكذب وأربعتهم موجودون داخل حركة مناهضة الريْع. إن كان المشروع المطروح غير هذا فتسمية مناهضة الريع غير مناسبة له. كما أنّ مواصلة توسيع وإعادة تعريف مفهوم “الريْع” لا يساهم إلا في مزيد خلط الأمور.

إنّ تحسين ظروف عيش الشعب التونسي غير ممكن دون استراتيجية اقتصادية ستلتجئ، إن طرحت في إطار الرأسمالية، بالضرورة إلى سياسات ريعيّة (بالمعنى المتداول اليوم) أي لتشويش الأسعار “الحقيقية” وتجاهل أفضلياتها المقارنة والحدّ من التنافس وإلخ. عقلانية هذه السياسات أثبَتها تاريخ الدول التي تريد اليوم إقناع تونس (وإرغامها) وغيرها من البلدان المفقرة بتجنّبها.

يتبع…


1. لا نتحدث هنا على أعمال إعادة-إنتاج قوة العمل (مثل الأعمال المنزلية من نظافة وطبخ واهتمام بالأطفال) التي تهتم بدراستها النسويات الماديات فهذه أعمال منتجة حسب التعريف الذي يستعمله هذا النص. أنظر الملحوظة عدد 4.

2. يمكن أن يعتبر القارئ هذه الأعمال ضرورية ويستغرب من هذا التصنيف لأنه لا يتصور العيش من دون هاته الأنشطة. ولو أنه يمكن تبيين أن هذه الأعمال ليست ضرورية عبر أمثلة تاريخية لكن هذا نقاش أنثروبولوجي خارج عن إطار هذا النص. ما يجب فهمه هنا هو أن الضرورة ليست المعيار المحدد في هذا التصنيف فالإستهلاك نفسه ضروري لتواصل الإنتاج ما يؤدي إلى فسخ الخط الفاصل بين الإنتاج والاستهلاك. حتى وإن اعتبرناها ضرورية فهي ضرورية لإعادة-إنتاج المجتمع (القائم) أو لتواصله وهي تستهلك مواردا اقتصادية لتأدي هذه الوظيفة السياسية والاجتماعية ولا تنتج قيما اقتصادية. بالتالي فهي تشكل كما قلنا استهلاكا اجتماعيا. لتعريف مغاير للأعمال المنتجة وغير المنتجة يوسع فكرة فائض القيمة الماركسية بفكرة الفائض الاقتصادي ولا يعتبر مثلا نشاط الدولة إهدارا اقتصاديا ويهتم بمعيار الضرورة أنظر:
Paul A. Baran - The Political Economy of Growth
Paul A. Baran, Paul M. Sweezy - Monopoly Capital: An Essay on the American Economic and Social Order

3. حول هذا الموضوع أنظر:
Béatrice HIBOU - La bureaucratisation du monde à l'ère néolibérale
David Graeber - The Utopia of Rules: On Technology, Stupidity, and the Secret Joys of Bureaucracy
Nicos Poulantzas - Classes in Contemporary Capitalism

4. Anwar M. Shaikh & E. Ahmet Tonak - Measuring the Wealth of Nations: The Political Economy of National Accounts
يتبنى هذا النص أساسا تعريف المرجع أعلاه مع تحوير طفيف لاختلاف المسائل المدروسة وبغاية التبسيط. يقسّم الكاتبان أولا الأعمال إلى أعمال إنتاج وأعمال لا-إنتاج. ثم يقسمان أعمال الإنتاج إلى أعمال منتجة بمعنى منتجة للقيمة الرأسمالية تدور مباشرة داخل دورة إنتاج رأس المال وإعادة إنتاجه. بينما يعتبران بقية أعمال الإنتاج مثل التعليم والصحة في القطاع العمومي أو الأعمال المنزلية كغير منتجة للقيمة الرأسمالية ويدرسان علاقتها بمراكمة رأس المال تحت عنوان "المراكمة بالاستلاب" التي تقوم بها الرأسمالية في علاقة بأنماط الإنتاج الأخرى التي تهيمن عليها. يعتبر النص الحالي كل "أعمال الإنتاج" كأعمال منتجة.

5. Adam Smith - The Wealth of Nations

6. نفس المرجع أعلاه

7. David Ricardo - Notes on Malthus

8. آدم سميث، نفس المصدر.

9. مقتبس في:
David Ricardo - On The Principles of Political Economy and Taxation

10. نفس المرجع أعلاه.

11. Brett Christophers - Rentier Capitalism: Who Owns the Economy, and Who Pays for It

12. سنستعمل هذه الترجمة لـ "Hard Currency" بدل "عملة صعبة". الترجمة الرائجة السيئة الأخيرة توحي بسوء فهم للفكرة وتساهم في استمراره. عكس العملة الصلبة هو العملة اللينة ("Soft Currency") لا العملة السهلة!

13. ما عدا إشارة أخرى، الأفكار تحت هذا العنوان مستوحات من:
Anwar M. Shaikh & E. Ahmet Tonak - Measuring the Wealth of Nations: The Political Economy of National Accounts
John Smith - Imperialism in the Twenty-First Century: Globalization, Super-Exploitation, and Capitalism’s Final Crisis
?Steve Keen - Debunking Economics: The Naked Emperor Dethroned

14. United Nations' Economic Survey of Europe Since the War (1953)

15. مقتبس في:
Jason Hickel - Less Is More: How Degrowth Will Save The World

16. ساهم ارتفاع إنتاجية الصناعة والفلاحة وانخفاض أسعار منتوجات هذين القطاعين بنسبة أصغر في هذه الظاهرة.

17. في حين أن الإنتاجية في النظرية النيوكلاسيكية هي جملة إنتاجيات عوامل الإنتاج، العمل ورأس المال أساسا، نلاحظ دائما أن كل المعلقين مختصين كانوا في الاقتصاد أم لا يربطون الإنتاجية ضمنيا أو صراحة بالعمل ويتمادون في ازدراء العمال لضعف انتاجيتهم (المفترض) بينما لا يتحدثون أبدا على إنتاجية رأس المال. هل يعتبرون أن رأس المال غير منتج؟! هل هؤلاء ماركسيون دون أن يعلموا؟!

18.  Jason Hickel - The Divide: A Brief Guide to Global Inequality and its Solutions

19. معطيات المعهد الوطني للإحصاء

20. حسب نشرية المعهد الوطني للإحصاء حول خاصيات أعوان الوظيفة العمومية سنة 2017 تشغل وزارات الفلاحة والصيد البحري والشباب والرياضة والتعليم والتعليم العالي والصحة والشؤون الاجتماعية قرابة نصف الأعوان. لتجنب إهمال الأعمال المنتجة التابعة لبقية الوزارات وللقطاع الخاص اعتبرنا أن ثلثي الأعمال المندرجة ضمن خانتي خدمات الصحة والتعليم والإدارة والخدمات الاجتماعية والثقافية سنة 2019 منتجة. هذا يعني أننا اعتبرنا كل موظفي "الوزارات المنتجة" منتجين وهذا طبعا غير صحيح فليس كل موظفي وزارة التعليم معلمات ولا كل موظفي وزارة الصحة ممرضات. هذا واعتبرنا أن كل الناشطين الخواص، وهم هامشيون في هذه القطاعات، منتجون.

21. توتّر شديد في طرقات ممتلئة بشتى أنواع السيارات شبه متوقفة طيلة كيلومترات. منظومة تنقل عبثية مبنية على السيارات تشبه عديد البلدان الغربية. سيارات ليست تونس متمكنة من صنعها على عكس هذه البلدان.

22. أنظر:
David Graeber - Bullshit Jobs: A Theory

23. أرقام المعهد الوطني للإحصاء والبنك الكوري ومكتب الإحصاء الوطني الكوري. أخذنا بعين الاعتبار نسبة البطالة لأنه من غير المعقول اعتبار بلد منتجا أكثر من آخر لكون نسبة العمل غير المنتج (من الشغل) فيه أصغر في حين نسبة البطالة أعلى بكثير. قمنا عمدا بإقصاء الإدارة والعمل غير المنتج المرتبط مباشرة بالدولة حتى نبين أن نزعة صعود الأعمال غير المنتجة لا تساوي "تضخم القطاع العام" كما يمكن أن تدفع للتفكير الإيديولوجية المهيمنة. في الرسم البياني يعني غياب النقاط على منحنى كوريا الجنوبية في بعض السنوات غياب المعطيات.

24. من الممكن أن حسابا أكثر صدقا للبطالة مقارنة بالتلاعب بالأرقام في فترة بن علي قد ساهم في هذا الارتفاع أيضا.

25. أرقام التقرير السنوي للبنك المركزي. حسبنا النسبة المئوية من خلق مواطن الشغل في خانة "تجارة وأخرى".

26. أرقام مكتب الإحصاء الوطني الكوري. حسبنا النسبة المئوية للعاملين بالتجارة والمالية والتأمين وإدارة الأعمال والعقارات من مجموع المشتغلين. التغييرات الحادة تفسَّر جزئيا بأخذ المكتب أنشطة جديدة بعين الاعتبار أو تدقيق وتفصيل تصنيفه للأنشطة. كان مثلا قطاع المطاعم إلى حدود سنة 1992 مندمجا مع قطاع التجارة فاحتسبناه ضمن الأنشطة غير المنتجة. عموما، حيث وُجِدت صعوبات في تقدير نسبة الأعمال غير المنتجة، قمنا بالمبالغة في تقديرها حتى لا نُتَهَم بتطويع الأرقام لتأكيد أطروحتنا. من المهم أيضا التنبيه أنه لا يجوز مقارنة أرقام ومستويات هذا المؤشر بمؤشر خلق مواطن الشغل غير المنتج في تونس. الأخير يقيس عدد مواطن الشغل الجديدة التي يتم خلقها بينما يحصي الأول مجموع العمال في قطاعات معينة. المغزى من المؤشرين هو ارتفاع وزن الأعمال غير المنتجة في البلدين. للأسف لا تُمَكِّن المعطيات المتوفرة من مقارنة مباشرة لمستوى هذا الارتفاع لأنها ليست من نفس النوع.

27. قطاع السكن الذي يمثل وحده حوالي 18% من تشكيل رأس المال الثابت منتج. لكن يجدر التساؤل حول طبيعة هذا السكن واستعماله وأولوياته. نتحدث مثلا عن المساكن السياحية والمساكن الخالية لفترات طويلة من السنة إلى غير ذلك. يجدر أيضا ملاحظة أنه بطرح قطاع السكن الذي يركز لخصوصيته حصة كبيرة من تشكيل رأس المال الثابت يرتفع المؤشر من 15% إلى حوالي الربع.

28. Hassine Dimassi et Hédi Zaiem - L’industrie : mythe et stratégies, in TUNISIE AU PRÉSENT : Une modernité au-dessus de tout soupçon ? 1987

29. النقاط التي يمكن اعتبار أنها في علاقة بالإنتاج هي النقاط رقم 2 و3 و5 و7 و9 و12 و15 و16. تتطرق النقطة 3 إلى "مشتقات الكاكاو". من المعلوم أن البلاد تعاني أزمة شكلاطة وأنها أولوية المرحلة!

30. Robert Wade - Governing the Market: Economic Theory and the Role of Government in East Asian Industrialization

31. وليد بسباس - صندوق النقد وذاكرة الإصلاحات المفقودة (جزء 3)

32. من المهم توضيح الفرق بين الإنتاجية والإنتاجوية. الأخيرة إيديولوجية تشجع دائما على مزيد العمل أكثر ومزيد إنتاج أكثر بضائع (قيم تبادلية) وترى في العمل من أجل العمل والإنتاج من أجل الإنتاج قيما في حد ذاتها. أما الإنتاجية فهي مقياس اقتصادي يساوي الكمية المنتجة على المدة الزمنية التي يتخذها إنتاجها. إن المرور من إنتاج كمية 100 من منتوج م في 10 ساعات عمل إلى إنتاج نفس الكمية 100 في 5 ساعات يعني تضاعفا للإنتاجية. إنتاج كمية 80 من نفس المنتوج في 6 ساعات يعني أيضا ارتفاعا في الإنتاجية. حتى إنتاج نفس الكمية بجودة أفضل يعتبر أيضا ارتفاعا في الإنتاجية. عموما يعني ارتفاع الانتاجية أن عاملا أو مجموعة أو مجتمعا ينتج الأشياء بأقل عناء على عكس ما توحي به الخطابات النيوليبيرالية المهيمنة حول هذا المفهوم. إن لم يتم بالتالي ارتفاع الإنتاجية على حساب صحة العمال والبيئة هو دوما تقدم تقني. أما توظيفه فهو مسألة سياسية واجتماعية. بينما يمكن أن يترجَم هذا الارتفاع في مجتمع رأسمالي في ارتفاع للبطالة فهو يمكن أن يترجَم في مجتمع اشتراكي في انخفاض ساعات العمل.

33. Tradability

34. Ha-Joon Chang - 23 Things They Don't Tell You About Capitalism

35. وليد بسباس، المرجع السابق.

36. وليد بسباس - صندوق النقد وذاكرة الإصلاحات المفقودة (جزء 1)

37. هذا لا يعني أنه في النقطة التي وصلت إليها تونس وجل البلدان التابعة من التداين، يمكن حل هذه المشكلة بمجرد تعديل الميزان التجاري. لكن الحل المباشر للمديونية مسألة خارجة عن إطار هذا النص لطابعها السياسي البحت.

38. حول تشكيل كارتالات دولية لفرض أسعار أعلى لصادرات بلدان الجنوب وتكتلات دولية للتفاوض مع بلدان الشمال حول "شروط التبادل" إلى غير ذلك من التمشيات الأممية أنظر مثلا:
Samir Amin - Maldevelopment : Anatomy of a Global Failure

39. حسين ديماسي وهادي زعيم، نفس النص.

40. روبرت وايد، نفس المرجع.

41. أرقام البنك الكوري

42. بول أ. باران، نفس المرجع.

43. هذا يعني أن ثمن العمل أي أجور العمال ستكون منخفضة. في الواقع وبما أن أجور العمال لا يمكن أن تتدنى تحت مستوى معين يؤدي إلى موتهم جوعا تم تقليص هذه الأجور سياسيا بدعم المواد الأساسية حتى تتمكن تونس من منافسة بلدان لها أكثر وفرة من العمل ولأسباب تاريخية عمالها مستعدون لقبول أجور أدنى.

44. البنك العالمي - الثورة غير المكتملة: توفير فرص ووظائف أفضل وثروة أكبر لكل التونسيين

45. كل هذه الأرقام من بوابة الصناعة التونسية

46. Greg Sharzer - No Local: Why Small-Scale Alternatives Won't Change The World

47. John M. Connor - CARTELS & ANTITRUST PORTRAYED: Private International Cartels from 1990 to 2008

48. Samir Amin - Modern Imperialism, Monopoly Finance Capital, and Marx’s Law of Value

49. Samir Amin - Unequal Development: An Essay on the Social Formations of Peripheral Capitalism

50. حيثما أمكن يجب أخذ المسألة البيئية بعين الاعتبار لكن ليس على حساب ضمان الغذاء. يمكن تطوير أساليب إيكولوجية لتطوير إنتاجية الفلاحة بالتوازي أو المرور التدريجي نحو فلاحة بيئية بعد هاته الفترة الإنتقالية التي يجب أن تكون أقصر ما يمكن.

51. أنظر مقالات وليد بسباس على موقع انحياز.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !