أزمة قاتلة في عقارب وبوادر حلّ في الأفق

مقال لريم الشعباني
متابعة مريم البريري

بعد الإفراط في استعمال القوّة، الإضراب العامّ وتسجيل حالة وفاة واعتداءات بالجملة، رئاسة الجمهوريّة على الخطّ.

فهل تتّجه الأوضاع نحو الاستقرار عبر إيجاد حلول جدّيّة ترضي جميع الأطراف المعنيّة والمتدخّلة في هذا الملفّ؟

“شهدت معتمديّة عڨارب من ولاية صفاقس إضرابًا عامًا يوم الأربعاء الفارط ويأتي ذلك على خلفيّة إسداء تعليمات بإعادة فتح “مصبّ الڨنة” بالقوّة العامّة لاستئناف عمليّات نقل النّفايات إليه، ممّا أسفر عن احتقان شعبيّ متواصل لليوم الرّابع على التّوالي، واجهته السّلطات بالغاز المسيل للدّموع  لتتعقّد الأوضاع خاصّة بعد فقدان شابّ لحياته إضافة إلى حالات الإصابات والاختناق الكثيفة التي تسجليها والإيقافات الّتي طالت عددا كبيرا من الشّباب والمواطنين”.

 بعد إعلان الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل الإضراب العامّ في القطاعين العامّ والخاصّ ويوم حداد على الرّاحل عبد الرّزّاق لشهب، تجمّع صباح يوم الأربعاء المنقضي عدد من أهالي عڨارب وسط المدينة ثم توجّهوا في مسيرة سلميّة نحو مصبّ النّفايات إلّا أنّ الأمور سرعان ما اتّجهت نحو التّوتّر مجدّدا حيث تمّ تسجيل عشرات الإصابات وحالات الاختناق بعد استعمال الشّرطة العشوائيّ للغاز المسيل للدّموع، الأمر الذي وثّقه عدد من الصّحفيّات والصّحفيّين الذين تعرّضوا بدورهم للاختناق والإصابة أثناء قيامهم بعملهم ومن بينهم مريم بريبري عضوة فريق موقع انحياز التي كانت حاضرة على عين المكان كما عاينت عدّة إصابات في صفوف النّساء والأطفال والشّيوخ إلى جانب تعمّد إبقاء عدد من المصابين عالقين، وكانت طبيعة المكان وصعوبة التّنقّل في أجزاء منها بين المرتفعات والحفر قد ساعدت على محاصرتهم.

وفي نفس السّياق، أكّدت بريبري أيضًا نفاذ الأوكسجين من المستشفى المحلّيّ ممّا الذي حال دون التّمكّن من إسعاف كل المصابين الوافدين آنذاك، بل واستدعى هذا العجز الالتجاء إلى مستشفى الهادي شاكر لتوفير الكمّيّات اللّازمة.

من جهته واكب فرع صفاقس الجنوبيّة للرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان الإضراب العامّ كما شرع في إجراء تحقيق ميدانيّ لتبيّن حقيقة ما استجدٍ من أحداث مؤخّرًا بالجهة.

تحقيق توجّه بعده فرع الرّابطة للرّأي العامّ ببلاغ يتضمّن جملة من النّقاط لعلّ أهمّها هو تسجيل استياء المواطنين الشّديد من حملات التّشهير والتّخوين الّتي تستهدف حراكهم ومحاولات توظيفه لأغراض سياسيّة وحزبيّة، إضافة إلى تسليط الضّوء على التّناقض بين رواية وزارة الدّاخليّة مع كلّ الشّهادات الّتي تم تلقّيها.

“غضب النّشطاء والأهالي من طريقة تعاطي السّلطات الحاليّة معهم لم ينس عددًا هامًّا منهم ما اقترفته الحكومات السّابقة والأحزاب الحاكمة سابقًا من تسويف وتجاهل ولا يستثني ما تقوم به أطراف منهم الآن من متاجرة بقضيّتهم واستثمار سياسيّ فيها”.

في المقابل، نظّم عدد من النّشطاء والنّاشطات بالعاصمة وقفة تضامنيّة انطلقت مساء الأربعاء من أمام المسرح البلديّ وتوجّهت نحو وزارة الدّاخلية مرفوقة بشعارات داعية إلى فكّ الحصار المسلط على مدينة عڨارب ومندّدة بالقمع المسلّط على أهاليها.

أمّا عن الهيئة الوطنيّة للوقاية من التّعذيب، فقد أصدرت كذلك بيانًا عبّرت فيه من جهة عن أسفها الشّديد لوفاة مواطن في ظروف مسترابة متعهّدة تلقائيّا بالتّقصّي حول ملابسات هذه الوفاة وأسبابها، وداعية من جهة أخرى الجهات القضائيّة المتعهّدة بالملفّ إلى التّسريع في البحث والإحالة وتحديد المسؤوليّات.

وفي إطار تفاعل مكوّنات المجتمع المدنيّ وبعد إمضاء ما يقارب الأربعين جمعيّة ومنظّمة على بيان مساندة مشترك، التأمت صباح اليوم ندوة صحفيّة بمقرّ النّقابة الوطنيّة للصّحفيّين التّونسيّين شاركهم فيها الحضور ممثّلون عن حراك “مانيش مصب” و أفراد من عائلة الفقيد وأكّد خلالها رئيس النّقابة الوطنيّة للصّحفيّين محمد ياسين الجلاصي على أنّه لا مجال للتّعويل على الحلول الأمنيّة مؤكّدا على ضرورة خلق حلول فعليّة تحفظ كرامة المواطن، وعلى دعم النّقابة وكل المنظّمات الشّريكة لها للأهالي.

من جهته، أكّد المكلّف بالإعلام في المنتدى التّونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة رمضان بن عمر أنّ الوفد الممثّل عن المنتدى الذي قام بالتّنقّل إلى منطقة عڨارب قد عاين إلى جانب أنواع مختلفة من القنابل المسيلة للدّموع، وجود خراطيش الرّشّ ممّا يشير إلى استعماله من طرف قوّات الأمن  خلال الاحتجاجات؛ مؤكّدا على عدم  وقوع إصابات به.

“توفّي عبد الرّزاق الأشهب عن سن تناهز ال 35 وقد كان الفقيد ناشطا في منطقته ومناديًا نحو تثمين الفضلات كما سبق وأن طرح فكرة تحويلها إلى أعلاف مبديًا استعداده لإطلاق مشروعه الخاص في هذا المجال طالبًا للدّعم والتّعاون”.

يذكر وأنّ القرار الخاصّ باعادة فتح المصبّ إضافة إلى طريقة لتنفيذه كان قد أثار غضب الأهالي الذين خرجوا للتّصدّي لعمليّة تنفيذه وقاموا بغلق الطّريق الوطنيّة عدد 14، لتشهد المنطقة خلال الليلة الفاصلة بين يومي الإثنين والثّلاثاء المنقضي مواجهات بين المتساكنين الغاضبين وقوّات الأمن الّتي أفرطت في استعمال الغاز المسيل للدّموع طيلة ساعات انتشرت فيها أخبار عن تسجيل حالات اختناق عديدة وسقوط جرحى لينتهي الأمر بتأكيد خبر وفاة الشّابّ عبد الرّزاق الأشهب. 

 تمسّكت وزارة الدّاخليّة من خلال بيان توضيحيّ لها بعدم تسبّب التّدخّل الأمنيّ في هذه الوفاة مؤكّدة على تعرّض الضّحيّة إلى وعكة صحّيّة طارئة تمّ نقله على إثرها إلى المستشفى مباشرة من منزله الذي يبعد 06 كلم على ساحة المواجهات بين السّكّان وقوّات الأمن. كما أفاد النّاطق الرّسميّ باسم محاكم صفاقس مراد التّركي بأنّ التّحاليل المجهريّة والبيولوجيّة جارية على عيّنات من الدّم والأنسجة إضافة إلى عدد آخر من التّحاليل، بينما رجح تقرير الطّبّ الشّرعيّ في الأثناء أنّ الوفاة قد تكون طبيعيّة مبدئيّا وناتجة عن انسداد على مستوى الشّريان التّاجيّ الأيسر ممّا تسبّب في قصور على مستوى القلب.

رواية رسميّة طعن عدد من شهود العيان وأفراد عائلة الفقيد في مصداقيّتها إذ أكّد جزء منهم تعرّض الفقيد إلى الاختناق بينما كان في طريقه لشراء الحليب لابنته الرضيعة إلا أنّ عبوات الغاز المسيل للدّموع الّتي كانت تطلق بصفة عشوائيّة أرادته قتيلا.

وفي نفس السّياق و نقلا عن بعض المتحدّثين مع مراسلة موقعنا، تم تداول حيثيّات أخرى تفيد بأنّ مناوشات مع قوّات الأمن كانت قد سبقت تعرّض الرّاحل عبد الرّزّاق للاستهداف عبر إطلاق قنابل غاز تسبّبت في اختناقه.

أمّا بعد أحداث الحرق التي  طالت مركز الحرس الوطنيّ بالجهة في اليوم الموالي لهذه الحادثة، فقد تزامن انسحاب قوات الأمن من وسط المدينة مع تمركز وحدات من الجيش الوطنيّ بهدف حماية المؤسّسات العموميّة.

ظلّت حالة الغليان مسيطرة وأكّد بعض المحتجّين لانحياز أنّه قد تمّ إلقاء القبض على عدد من الشّباب على خلفيّة المواجهات اللّيليّة وعمليّة الحرق مشيرين إلى أنّه قد تمّ اقتياد أشخاص للتّحقيق معهم ونسب هذه التّهم إليهم في حين أنّهم لم يتواجدوا نهائيًّا في صفوف المحتجّين ولا في المكان الذي شهد المواجهات مع قوّات الأمن.

ليس هذا فحسب، ففضلا عن الإيقافات الّتي طالت عددًا من المتساكنين والاحتفاظ بهم إلى حين إحالتهم على أنظار المحكمة؛ فإنّ موجة الغضب والاستياء تشهد تصاعدا كبيرًا خاصّة بعد حالات الإغماء والاختناق والإصابات الّتي تمّ تسجيلها إلى حدود عشيّة اليوم. ويقول عدد من الصّحفيّين والممثّلين عن بعض المنظّمات الحقوقيّة أنّه قد تم منعهم من قبل الأمن من العبور إلى المدينة كما تتواتر شهادات ومقاطع فيديو من أمام المستشفى المحلّيّ تفيد بأنّ الوضع كارثيّ وبأن عدد الوافدين المتضرّرين كبير.

وفي هذا الصّدد، أثار هذا الوضع حفيظة عدد من المتابعين/ات و روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ مستنكرين وقوع هذه التّجاوزات في ظلّ وجود وزير داخلية حامل لصفة محامٍ سبق وأن كان على رأس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة.

إلا أنّ تدخل رئاسة الجمهوريّة منذ ساعات قد خفّف من حدّة الأجواء كما سجّل وفد الممثّلين عن المجتمع المدنيّ بعڨارب ارتياحهم بعد اللّقاء الذي جمعهم برئيس الدّولة مؤكّدين أنّ سعيّد قد تعهّد بإيجاد حلّ سريع، كما لاقى خبر الأمر الرّئاسيّ بإطلاق سراح جميع الموقوفين على خلفيّة الاحتجاجات الأخيرة استحسانا. من جهة أخرى، انتشرت أجواء احتفاليّة في صفوف المواطنين بعد أن قامت الوحدات الأمنيّة بالانسحاب من المدينة.

“صدر بتاريخ 11 جويلية 2019 عن ناحية عڨارب قرار قضائيّ يقضي بالوقف الفوريّ لاستعمال “مصبّ الڨنة”، وبتاريخ 30 سبتمبر 2019 صوت المجلس البلديّ بعڨارب بالإجماع على القرار 131 الذي ينصّ على الغلق النهائيّ لهذا المصبّ الجهويّ المراقب”.

تم انشاء هذا المصب سنة 2008 داخل “المحميّة الطبيعيّة الڨنة” على أن لا تتجاوز فترة استغلاله مدّة الخمس سنوات، إلّا أنّ الأمر استمرّ لمدّة سنوات ولم يتوقّف خرق كل الاتّفاقات والتّعهدات المبرمة، لكنّ هذا لم يمنع نشطاء وسكّان المعتمدي من خوض سلسلة من المعارك المدنيّة والقانونيّة (داخل عدد من المجموعات على غرار “مانيش مصبّ”، “أمّهات بلا تلوّث”) من أجل بيئة سليمة ونظيفة، رافضين لما يعتبرونه “إرهابًا بيئيًّا” ومتمسّكين بما ينصّ عليه الفصل 45 من الدّستور: “تضمن الدّولة الحقّ في بيئة سليمة ومتوازنة وفي المساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدّولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التّلوّث البيئيّ”.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !