نقد نقد الريْع جزء 1: خطاب الاقتصاد الريْعي ودُعاتُه

الكاتب: حمزة إبراهيم

تمت الإشارة في نص سابق إلى مقولة “الاقتصاد الريْعي” في علاقة بخطاب مكافحة الفساد وكأحد جوانبه. مع تراجع هذا الأخير في الساحة السياسية بسرعة لعدة أسباب مختلفة (لا سيما سقوط حكومة مكافحة الفساد بسبب شبهات فساد!)، اكتسب خطاب الاقتصاد الريْعي استقلالية وأصبح متداولا في المشهد الإعلامي والسياسي. سيبحث هذا النص في تاريخ هذا المفهوم ويوضح المشروع السياسي الذي يحمله والخلفية الإيديولوجية التي يستند إليها في علاقة بالواقع الاجتماعي القائم.

الريْع كخطاب وكمفهوم

بمفهومه التقليدي يمثل الريع المدخول المتأتي من الملكية. وذلك على خلاف الأجر وهو المدخول المتأتي من العمل أو الربح وهو المدخول المتأتي من الاستثمار. أبسط مثال هو المدخول الذي يتلقاه مالك أرض أو محل من الكراء. إلى غاية اليوم تُطلَق كلمة ريْع على معلوم الكراء باللغة الإنجليزية. استعملت مختلف المدارس الاقتصادية من الاشتراكية إلى الليبيرالية هذا المفهوم. كتعبيرة إيديولوجية عن البرجوازية الصناعية والتجارية الصاعدة، انتقد الليبيراليون الكلاسيكيون، وعلى رأسهم آدم سميث ثم دافيد ريكاردو، الريع العقاري للإقطاعيين لكونهم لا يساهمون في خلق ثروة للمجتمع على عكس البرجوازية التي تستثمر أموالها في الإنتاج الصناعي. بينما تجاوز الاشتراكيون هذا النقد إلى نقد البرجوازية والربح والتجارة.

1-  المفهوم

تقليديا وإلى يومنا هذا توصف بالريعية اقتصادات الدول (مثل بعض دول الخليج أو ليبيا أو فينزويلا أو الكونغو…) التي يأتي جزء كبير من مداخيلها من بيع موارد طبيعية أو مواد أوّلية تمتلكها (نفط، غاز، كوبالت…) لا من الإنتاج وتحويل المواد الأولية. منذ السبعينات ظهر مفهوم مُستَجَدّ يُعَرِّفُ الريْع بكونه الفارق بين المدخول الذي يحقّقه فاعل اقتصادي في سوق تنافسية والمدخول الذي يحققه في إطار اقتصادي آخر (مثلا سوق مُعَدَّلَة بقوانين تشجع الاستثمار أو إجراءات إدارية تضبط التنافس ودخول السوق). مثلا وللتبسيط، في حال نشاط شركة وحيدة في قطاع معين يمكنها بيع منتوج يتكلّف 20 دينار بـ 30 د محققة ربحا بـ 10 دنانير، بينما لو تدخل شركات أخرى السوق سيقوم هؤلاء المنافسون ببيْع نفس المنتوج بـ 23 دينار مثلا لافتكاك بعض حرفاء للشركة، ممّا سيضطرها إلى البيع بنفس ثمنهم (حتى لا تخسر حرفاءها) وتحقيق ربح بـ 3 دنانير فقط. الريع هنا هو 7 دنانير (10 ناقص 3) لم تأتِ من النشاط الاقتصادي للشركة بل من الإطار الاقتصادي الذي وُجدت فيه. تسمّى الوضعية نفسها، أي الاحتكار أو السوق المعدَّلة أو الإطار الاقتصادي عموما، كذلك بحالة ريْع. كلامٌ جميل لكنّ الأمور أعقد بقليل.

مثلما عبّر انتقاد الريْع الإقطاعي عند الليبيراليين الكلاسيكيين عن صعود البرجوازية والرأسمالية، يجب فهم هذا التعريف المُستَجَدّ للريْع الذي سيهمّنا في هذا النص، في علاقة بتاريخ ظهوره وانتشاره وتطوره. في أواخر الستينات دخلت الديمقراطية الاجتماعية في أزمة شاملة، ونجحت قوى رأس المال في استغلالها بعد انهزام “اليسار الجديد” (بمختلف تياراته). تُرجمت هذه الأزمة على مستوى السياسة الاقتصادية في أزمة الكاينزية بمراكز الرأسمالية، والنظريات الاقتصادية الوطنية التقدمية (أفكار راوول بريبيش مثلا) في بلدان الجنوب، وتُوّجت بصعود النيوليبيرالية1. وفي هذا السياق ظهر تحت أقلام آن قروجر وجوردون تولوك وجايمس بوشانان وروبرت توليسون مفهوم “البحث عن ريع”2. ينتمي الثلاثة الأخيرون إلى التيار الليبرتاري المحافظ الأمريكي. لمحة سريعة عن السياسات الاقتصادية التي يقترحها هؤلاء تجعل معزّ الجودي يبدو كديمقراطي اجتماعي خجول. مثلا، يقول بوشانان في مقال مشترك كتبه أنّ لبّ مشكلة إلغاء الميز العنصري هو كوْن المدارس التي تديرها الدولة أصبحت احتكارا، وأنّه يمكن كسر هذا الاحتكار عن طريق الخوصصة ممّا سيجعل مختلف أنواع المدارس تزدهر. وأنّ لكلّ فرد الحرّية في التجمّع مع من يختار (بلُغة أوضح أنّ البيض أحرار في عدم الاختلاط مع السود في المدارس العمومية وتأسيس مدارس مخصّصة للبيض). هذا يكفي ويُغني عن مزيد التعريف حسب ظننا . أما آن كروقر فتقلدت منصبيْ كبيرة الخبراء الاقتصاديين في البنك العالمي (ب.ع) ونائبة رئيس في صندوق النقد الدولي (ص.ن.د)، ولا حاجة للتأكيد على توجهاتها الليبيرالية.

إلى جانب الجامعات الغربية، حيث بسطت النيوليبيرالية هيمنتها، ساهمت المؤسسات المالية الدولية (ص.ن.د والب.ع) في نشر هذه المفاهيم، خاصة في البلدان التابعة، واستعملتها كأسُس نظرية لتعليل السياسات التي تفرضها عليها. فيما يخص تونس، تمّ استعمال هذا المصطلح في تقرير بعثة لص.ن.د يعود إلى سنة 2000. في سبيل مقاومة الريْع يدعو التقرير إلى التسريع في عمليات الخوصصة وإلى الانفتاح على المنافسة الأجنبية. بعد 2011 ، في تقرير “تونس: الثورة غير المكتملة” الذي أصدره الب.ع وَرَدت كلمة ريْع أكثر من 145 مرة في 336 صفحة (و أكثر من عشرين مرة في ثلاثين صفحة من صيغته التأليفية) كحُجَّة أساسية ضد “المنوال الاقتصادي الذي تقوده الدولة” ومن أجل لبرلة الاقتصاد التونسي وترك السوق يُسند الموارد حسب الأفضليات المقارنة لتونس. إذ يشجّع هذا التقرير على إبرام اتفاقية الأليكا الاستعمارية، ذاهبًا إلى القول أنّه من مصلحة تونس فتح قطاع الخدمات للمنافسة الأجنبية حتى بصفة أُحادية لتفكيك جزء من “منظومة الريْع”. أمّا فيما يخص الفلاحة، يقول التقرير أنّ “منظومة تدخّل الدولة القائمة قمعت الفلاحة بتشويش انتاج المنتوجات المتوسطية التي تمتلك فيها تونس أفضلية مُقارَنَة طبيعية […] تسعى السياسات الفلاحية القائمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في انتاج الحبوب من أجل ضمان الامن الغذائي. طبعا لا يمكن المخاطرة بالأمن الغذائي، ورغم ذلك فإنّ ضمان الأمن الغذائي لا يجب أن يكون مرادفا للسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في انتاج الحبوب”. على كل من يريد تفكيك الريع لتحقيق السيادة الغذائية ويناهض الآليكا في نفس الوقت، مراجعات نظرية جدية تفرض نفسها.

منذ ذلك الحين تتكرّر التوصيات بتفكيك “الريْع” (و “فتح المنافسة”) وآخرها تقرير البنك الدولي حول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الصادر بداية شهر أكتوبر 2019، والذي يربط الأمريْن مباشرة عديد المرات. في هذا الصدد يدعو التقرير على سبيل الذكر إلى تقليص الدعم ورفع كل القيود على التوريد.

هذه المعطيات كافية لإثارة الحذر والريبة تجاه هذا المفهوم عند كل أعداء المؤسسات المالية الدولية وإيديولوجيتها والمصالح الإمبريالية التي تخدمها. من المهم الإشارة إلى ذلك، إذ لقِيَ خطاب “الاقتصاد الريْعي” رواجا حتى داخل الأوساط اليسارية، ما يمكن أن يبدو غريبا بالنظر لتاريخ هذا المفهوم. لكن إذا رأينا إلى المسافة الشاسعة بين، من ناحية، “الريْع” كمفهوم اقتصادي بالخلفية الإيديولوجية التي يقوم عليها والمشروع السياسي الذي يتمفصل داخله، ومن ناحية أخرى “الاقتصاد الريْعي” كخطاب منذ بروزه في تونس سنة 2019 تقريبا فيمكننا تفسير ذلك وأكثر.

2-  الخطاب وتناقضاته

أحد تمظهرات هذه الهوة هو خلط المفاهيم عن حسن وعن سوء نية والتعامل مع المفهوم المستجد للريع كأنه تواصل وتعميم طبيعي لمفهوم الاقتصاد الريْعي، الذي استعمله يساريون وحتى ماركسيون لانتقاد المنظومات الاقتصادية التي خلّفها الاستعمار وكرّسها الاستعمار-الجديد في البلدان التابعة. نتحدث هنا عن الاقتصادات الاستخراجية التي تَستخرج منها الإمبريالية المواد الأولية وتمنعها من تحويلها داخليا، وبالتالي من التطور.

مثال آخر هو الخلط بين التنديد الأخلاقوي بالاحتكارات بمنطق الريْع، وبين ما يسمّيه الماركسيون بالرأسمالية الاحتكارية. لا يتسع هذا المقال لتناول هذا المفهوم، لكن سنشير باختصار إلى ثلاث نقاط: أوّلا، الرأسمالية الاحتكارية هي الشكل المهيمن عالميا لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ نهاية القرن 19، ممّا يُفقد وجود احتكارات في تونس أيّ خصوصية أو أهمية. يقول لينين: “إن كان علينا أن نعرّف الامبريالية بأكثر اختصار ممكن، فيجب القول أنّها الطور الاحتكاري للرأسمالية”3. بالتالي فإن الشركات التونسية مهما كانت “احتكارية” فهي بالمعنى الماركسي تابعة لاحتكارات عالمية (أي للإمبريالية) إمّا عن طريق التصدير (لعدم توفر طلب لمنتوجاتها محليا) أو عبر استيرادها التجهيزات والتقنيات من هذه الاحتكارات. ثانيا، يُعَدُّ الاحتكار، كأحد مراحل الرأسمالية، أرقى من التنافس (الذي لا يرتقي لأن يكون أكثر من مرحلة انتقالية مرّت بها بعض الدول)، نظرًا لتطويره قِوى الإنتاج عبر تجميع العمل وتركيز وسائل الإنتاج وتحكّمه في سلاسل انتاج معقدة وإلخ. “يتحول التنافس إلى احتكار. ينتج عن ذلك تطور عظيم في تجميع الإنتاج وخاصة في ميدان التطوير والاختراع التكنولوجي”. ثالثا، بالنظر للأسباب المذكورة أعلاه يرى الماركسيون في المرحلة الاحتكارية تمهيدا للاشتراكية من خلال توفير “ظروفها المادية”، ويناهضون النظام الرأسمالي في كلّيته بأفق تجاوزه نحو الاشتراكية ولا يندّدون بالاحتكارات من أجل العودة إلى “التنافس النزيه”. “النقد البرجوازي-الصغير الرجعي للإمبريالية يحلم بعودة إلى الوراء نحو التنافس ‘الحرّ’، ‘السلمي’، ‘النزيه’”. يلخّص رودولف هيلفرندينق فيقول: “ليست قضية البروليتاريا أن تعارض السياسة الرأسمالية الأكثر تقدمية بسياسة التبادل الحرّ ومعاداة الدولة التي تجاوزها الزمن. إجابة البروليتاريا على سياسة رأس المال المالي، على الإمبريالية، لا يمكن أن تكون التبادل الحرّ بل فقط الاشتراكية. إعادة إقامة التنافس الذي أصبح الآن من المُثل الرجعيّة لا يمكن أن تكون اليوم هدف السياسة البروليتارية، بل فقط الإلغاء الكلّي للتنافس بإزالة الرأسمالية”4.

وفي شأن آخر يقول لينين “[…] أنّ رأس المال النقدي منفصل عن رأس المال الصناعي أو المُنتِج، وأنّ صاحب الريْع الذي يعيش كُلّيا من مدخولٍ مُتأتٍّ من رأس مال نقدي منفصل عن صاحب المشروع [entrepreneur]”. الريْع هنا هو المدخول المتأتي من رأس مال غير منتج (عمليات مالية، مضاربة…).

هناك على الأقل محاولة مُتعمَّدة لخلط المفاهيم وهي في رصيد طارق الكحلاوي، الذي حاول ربط مفهوم البرجوازية الرثة5 للـماركسي أندري غوندر فرانك بإيديولوجيا الريْع والأدبيات التنموية الليبيرالية، التي قضّى هذا الأخير حياته في مقارعتها واعتبارها إيديولوجيا الإمبريالية. إنّ البرجوازية الرثّة هي تلك التابعة للإمبريالية وهي وسيطتها في استخراج فائض انتاج من بلادها، وبذلك فهي عاجزة عن بناء اقتصاد مُنتج مستقلّ ولا علاقة لهذا المفهوم بمسألة “الريْع” لا من قريب ولا من بعيد. إمّا أنّ طارق الكحلاوي لم يقرأ غوندر فرانك أو أنّه لم يفهمه أو أنّه يستخفّ بذكاء قرّائه. إنّ محاولة السفسطة المفضوحة والركيكة التي قام بها لا تستحق حتى النقد. هي فقط عارٌ على من يقدّم نفسه كأكاديمي، إذ تفتقد لأدنى حدود النزاهة والكفاءة الفكريّتين. لكنّ ربّما يصعُب على البعض الإقرار بأنّهم أصبحوا وكلاء لدى البنك العالمي فيستدعون بعض الأسماء محاولين إنقاذ ما تبقّى لهم من مشروعية.

يجعل هذا الخلط المفهوميّ خطاب الاقتصاد الريْعي مقبولا لدى عديد اليساريين (مثل خطاب مكافحة الفساد قبله)، خاصة عندما يكون أحد المروّجين له هو عزيز كريشان، العضو السابق في حركة آفاق (ولو أنّ مشروعيّته قد اهتزت بمروره التعيس بالمؤتمر من أجل الجمهورية وقصر المرزوقي). وإن كان عزيز كريشان هو أوّل من استعمل المفهوم الجديد للريْع في تونس إثر المؤسسات المالية الدولية، فهو لا يمثل التيار الأبرز ولا الأكثر تأثيرا في حركة مناهضة الريْع. في الحقيقة يمثّل كريشان تيارًا سياديًا في هذه الحركة، أو بالأحرى هو سياديٌّ موجودٌ داخلها على وجه الخطأ (لعدم فهمه كفاية أصل واستتباعات هذا المفهوم على مختلف الأصعدة، وبالتالي وقوعه في تناقضات يمكن تبيّن بعضها في هذا النص)، أو ربّما لغايات سياسية  (استقطاب البرجوازية-الصغيرة والمتوسطة مثلا). من جهة أخرى هناك تيار نيوليبرالي صريح ينادي بوضوح باللبرلة التامة للاقتصاد التونسي. بين هذيْن التيّارين نجد التيار الأبرز والأهمّ والأكثر تأثيرا – في كلمة واحدة القيادة الفعلية للحركة – حول أنيس مراكشي ولؤي الشابي وجمعية آلارت، أو ما سنسمّيه في بقية النص “لوبي مناهضة الريع”.

وُلد مفهوم الريع المُستَجَدّ كأداة لمناهضة السياسات الحمائية والقطاعية والصناعية. أي سياسات حماية الصناعات الناشئة وتعويض الواردات (عبر صناعتها محليا) عن طريق رسوم ديوانية أو مِنَح أو قروض تفاضلية أو امتيازات جبائية ودعم الشركات العمومية وتنظيم الأسواق وتحديد المنافسة. تمّت إدانة جميع هذه السياسات والإجراءات بدعوى خلقها حالات ريع، وضربها السوق المفتوحة والمنافسة الحرّة والنزيهة (إلى جانب تسبّبها في الفساد والمحسوبية) حسب أعلام النيوليبرالية.

لنأخذ مثالا بسيطا: قرّرت حكومة وطنية أو شعبية في إطار الرأسمالية إحياء صناعة الآلات والتجهيزات الفلاحية، فأقرّت منحة لدعم بعض المواد الأولية وقروضا بفوائد منخفضة وامتيازات جبائية لمن يستثمر في هذا القطاع. لنفترض أنّ هذه التشجيعات ستثير طمع عدد كبير من الرأسماليين. يمكن أن يؤدّي ذلك إلى افراط في الاستثمار مقارنة بالطلب، ما يمكن أن يتسبّب في وضعيات افلاس، وبالتالي في إهدار للموارد واضطرابات مالية. من جهة أخرى، ستتجاوز الحكومة الميزانية التي خصّصتها لتشجيع هذا القطاع إن كثُرت الشركات الناشطة فيه. هذه بعض الأسباب لحصر النشاط في هذا القطاع فيمَن هم مستعدّون وقادرون فعلًا على القيام بأكبر الاستثمارات. يتمثل هنا ريْع شركات هذا القطاع في المساعدات التي تتلقاها من الدولة، إلى جانب الفارق في الأسعار مقارنة بالسوق المفتوحة المفترضة (المشكلة هي أنّ هذه السوق بقيت مفترضة ولم تر ولن ترَى النور في غياب هذه السياسة “الريعية”)6. بالتالي فهذه السياسة مرفوضة من منطلق مناهضة الريْع.

هذا ما يقوله تقرير الب.ع لسنة 2014 المذكور أعلاه، وأيضا الاقتصادي حكيم بن حمودة: “في الواقع اعتبر زعماء التنمية في حقبة الليبيرالية التامة، التي افتتحها انتخاب مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريقان في الولايات المتحدة، أنّ الاستثمارات العمومية في القطاع الصناعي تحت حماية ديوانية عالية لم تُنتج إلّا ريْعًا وعدم نجاعة وسوء توزيع للموارد (…)”. هذا ما يقوله أيضا الصغيّر الصالحي، أحد أهم وجوه حركة مناهضة الريع: “الريع هو غياب المنافسة […] والمنافسة مرتبطة بالليبيرالية” . نفس الشيء يقوله عزيز كريشان عندما ينتقد سياسات تعويض الواردات ويتحدّث عن ضرورة الإصلاحات الهيكلية لص.ن.د وجوانبها الإيجابية في فتح التنافس وخلق النموّ7. لكنّه يعتبر أنّ هذا “الانفتاح” لم يكن كافيا، ويرى مثلا أنه يجب مزيد تسهيل دخول المستثمرين الأجانب للسوق التونسي. لا نظلم عزيز كريشان إذا قلنا أنه يقوم، في الجزء المخصّص لمسألة الاقتصاد الريْعي من كتابه “وعد الربيع”8، بتلخيص تقرير الب.ع “تونس: الثورة غير المكتملة” الذي تحدثنا عنه أعلاه والذي يشير إليه في الكتاب. لنكن واضحين وصريحين: تبنّي أطروحة الاقتصاد الريعي هو تَبَنِّ للأطروحة والحجة المركزية لهذا التقرير. وعليه فليتحمل من يدافع عن هذه الأطروحة الاستتباعات النظرية والسياسية لذلك.

هذا ما لا يستوعبه كلّ من يتوهم استعمال هذا المفهوم لأهداف سيادية أو غير ليبيرالية. فاتصال هذا المفهوم بالليبيرالية ليس صدفة تاريخية بل هو من أساسه: الريْع ينتُج عن كلّ إطار اقتصادي مخالف للسوق المفتوحة والمنافسة الحرّة والنزيهة، أي مخالف للمؤسسات المثالية للليبيرالية. تشخيص أنّ مرض الاقتصاد التونسي هو طبيعته الريعية يتضمّن وصفة للعلاج: إذا كانت المشكلة هي الريْع (بالمعنى الذي بيّناه) فالحلّ هو السوق والتنافس (لا التصنيع أو السيادة الغذائية مثلا والخ).

نفس الشيء كان يقوله أنيس مراكشي، أهمّ عناصر لوبي مناهضة الريع في أولى مداخلاته حول الاقتصاد الريعي. اذ دعا الدولة إلى اتخاذ خطوة إلى الوراء لأنّ تدخلها كفاعل في النشاط الاقتصادي يخلق الكرتلات والتفاهمات والاندماج العمودي ويضرب المنافسة. كما كتب ذلك في علاقة بـ “الستارتاب آكت”: “نأخذ امتيازا غير مستحَق (الإعفاء من الجباية) أو ما يُفترض منحه للجميع (إمكانية دفع وقبول العملة الصعبة، الاستثمار بالخارج) ونعطيه لبعض الشركات على حساب أخرى. من الطبيعي أن توجد اتهامات بالمحاباة والمحسوبية: كيف يمكن ان يكون الحال مختلفا؟ نوزع امتيازا على أساس حكم لجنة. من لن يتمتعوا به سيشتكون طبعا أنّ العملية جائرة. لكن المشكلة ليست هنا، إنها في المفهوم نفسه: توزيع امتيازات على البعض ومنعها عن آخرين. إذا كانت هذه الشركات الناشئة أفضل من بقية الشركات فليست بحاجة لامتيازات إضافية للنجاح”. ‘السترتاب آكت’ ومفهوم ‘الستارت آب’ نفسه هما بدورهما مجرّد ترّهات إيديولوجية لن تساهم في التطور الاقتصادي (بمعنى ما سنحدّده لاحقا) للبلاد، لكنّ المشكلة من وجهة نظر مكافحة الريع هي مبدأ تفضيل مجموعة معينة من الشركات على غيرها أي السياسات القطاعية (مثلا مساندة النسيج أو صناعة وسائل النقل على حساب السياحة أو الإشهار… لا سمح الله). لا يمكن تفسير انتشار خطاب الاقتصاد الريْعي بخلفيته الليبيرالية. بالعكس هي ربما عائق أمامه، فحتى مناهضة “ثقافة الرُخَص” صارت رغم شعبيتها (خاصة عند البرجوازية-الصغيرة) من الكليشيهات المستهلَكة. 

لطالما وقع تناول التراخيص كمشكلة ثقافة بيروقراطية تهيمن على الدولة التونسية. النقلة الجديدة تتمثل في القول بأن هذه التراخيص هي وسيلة في يد طبقة من الريْعيّين (المستفيدين من الريْع من عائلات و “مافيات” إلخ.) المسيطرين على الدولة لحماية أنفسهم من المنافسة عبر منع غيرهم من الاستثراء. عادة ما تجنبّت البرجوازية-الصغيرة مهاجمة البرجوازية لكونها ترى فيها مستقبلها، لكن أمام انسداد أفقها الاقتصادي أصبحت ترى نفسها أكثر قربا للشرائح السفلى من الشعب وتتحدث باسمها. إضافة إلى هذا الجانب الطبقي البنيوي، الذي سنعود إليه لاحقا بأكثر تفصيل، لعب احتكاك لوبي مكافحة الريْع ببعض اليساريين (ضالّي الطريق) دورا في إنتاج هذا الخطاب الجديد، وسرعان ما فهم أكثر قادة اللوبي ذكاءً (سياسيا) قوة هذا الخطاب. ومن هنا بدأ التحول من التحليل الاقتصادي إلى الفعل السياسي المباشر (تحت غطاء جمعية آلارت) ومن خطاب تقني إلى خطاب أخلاقي ومن “اقتصاد ريعي” إلى “منظومة ريعية” (اجتماعية وسياسية لم يُعرِّفها بعد من يدّعون ذلك). شيئا فشيئا تمّ إخفاء المنطق الليبيرالي تحت الطاولة. لم يعد الحديث يتمحور بصفة مباشرة حول نجاعة السوق ومساوئ تدخل الدولة بل أصبح الحديث يركّز على استثراء مجموعة من المستكرشين على حساب صغار الرأسماليين والمستهلكين – في كلمة واحدة على حساب الشعب. صراع طبقي من دون الصراع الطبقي. ففي محاولته توسيع شعبيته، يقدّم هذا الخطاب نفسه كخطاب لاسياسي عبر الإيهام بأنه ليس يمينيًا ولا يساريا ولا ليبراليا ولا اشتراكيا ولا مع التدخل الاقتصادي للدولة ولا ضدّه. هو فقط ضد “المنظومة الريعية” دون تعريفها بأكثر من كونها مجموعة امتيازات. هو ضد الامتيازات ومع الصالح العام. باختصار هو مع الخير وضد الشر.

أكثر من هذا يُطمْئن لوبي مكافحة الريع أنّه لا يدعو لانسحاب الدولة، بل يؤكد على أهمية دورها في ضمان التنافس النزيه ومنع الاحتكارات والكارتلات. لكنّ هذه المغالطة أبعد من أن تكون تنازلا ليساره، اذ هي في قلب الطرح النيوليبرالي، بل ومن آخر تحييناته. إدّعى الخطاب الأبرز في فترة صعود النيوليبرالية، ومن أهمّ مروّجيه الدجّال ميلتون فريدمان، بأنّ السوق ينظّم نفسه بشكل طبيعي. إذ يكفي تخليصه من تشويش الدولة والسياسة ليتحقّق الازدهار الاقتصادي.

 أدّت تجربة هذا التمشي على أرض الواقع إلى تزايد الريْع والاحتكارات التي ادّعى القضاء عليها. في بلدان الجنوب، نتج عن هذه المعاينة من ناحية مزيد تدخل المؤسسات المالية الدولية في مسائل خارجة عن اختصاصاتها الاقتصادية مثل “مكافحة الفساد” و “الحوكمة”، مُحَمَّلة بذلك الدول مسؤولية فشل السياسات التي فرضتها عليها9؛ ومن ناحية أخرى إلى مراجعات وصفها البعض بالمُنْحَنَى الأوردوليبيرالي داخل النيوليبيرالية10. تمثلت هذه المراجعات في إقرار ضمني بأنّ السوق ليس طبيعيًا أكثر من غيره من المؤسسات الاقتصادية (التخطيط مثلا)، وهو مثلها مبني سياسيا وأنّه لا يعدّل نفسه بشكل تلقائي وأنّ الدولة يجب أن تتدخل اقتصاديا لفرض التنافس والسوق ومنع الاحتكارات، باختصار لفرض مؤسسات النيوليبيرالية11. في الحقيقة هذا التناقض ليس جديدا، وهو في قلب الفكرة الليبيرالية وأساسها منذ ولادتها. يقول الاقتصادي كارل بولاني: “[مبدأ] دعه يعمل [دعه يمر] نفسه تم فرضه من الدولة. شهدت الثلاثينات والأربعينات [من القرن 19] استشراءً للتشريعات التي تلغي القوانين المقيِّدة، لكن أيضا ازديادًا في الوظائف الإدارية للدولة التي أصبحت مُجَهَّزَة ببيروقراطية مركزية قادرة على تحقيق المهام التي وضعها أنصار الليبيرالية”12.

هذا التناقض البنيوي ينعكس في زيف الخطاب الليبيرالي المهيمن حول البيروقراطية. ينص “القانون الحديدي لليبيرالية” حسب الأنثروبولوجي الأمريكي دايفيد قرايبر على أنّ “كلّ إصلاح للسوق وكلّ مبادرة حكومية هادفة للحدّ من البيروقراطية والدفع بقوى السوق ستكون نتيجتها النهائية الزيادة من الإجراءات التنظيمية ومن الكمّ الجملي للوثائق البيروقراطية ومن العدد الجملي للبيروقراطيين الذين تُشغّلهم الدولة”13. مهمّة بناء السوق والحفاظ على توازنه وصون التنافس النزيه ستستدعي ترسانة ضخمة من التشريعات وجيشا من البيروقراطيين لتطبيقها. إلى جانب صياغة التشريعات، سيستوجب تطبيقها مؤسسات إدارية مختصة ومحللين اقتصاديين لمراقبة الأسواق وأخصائيين قانونيين لدراسة الملفات ورفع القضايا، وبالتالي قضاة مختصين. إضافة إلى ذلك ستستوجب مراقبة احترام التشريعات مزيدا من الموظفين الإداريين المتكونين لمراقبة الشركات ولجمع المعطيات الوجيهة ما يستوجب توفير هذه المعطيات من قبل الشركات المعنية. وبذلك يزيد حجم البيروقراطية الخاصة التي لا تقل في الواقع أهمية عن بيروقراطية الدولة مهما تغافل عنها الليبيراليون14. هذه التكهنات مبنية على تاريخ الليبيرالية. يذكِّر بولاني أنه: “تم فتح الطريق للسوق الحرة والحفاظ عليه مفتوحا بتصاعد ضخم لسياسات تدخليّة مُحْكَمة ومنظّمة مركزيا ومستمرة. ملاءمة ‘الحرّية البسيطة والطبيعية’ لآدم سميث مع متطلبات المجتمع الإنساني كانت مسألة شديدة التعقيد. شاهِدْ تعقيد البنود الشرطية لقوانين التسييجات التي لا تحصى؛ كمية المراقبة البيروقراطية في إدارة قانون الفقراء الجديد […]؛ أو تزايد الإدارة الحكومية الناتج عن مهمة الإصلاح البلدي الفاضلة”. ويضيف: “استحداث الأسواق الحرة بعيدٌ كلّ البعد عن كونه خلّص من الحاجة للمراقبة والتعديل والتدخل. على العكس من ذلك فقد وسّع من مجالها. كان على الإدارة أن تراقِب باستمرار حتى تضمن أنّ المنظومة تشتغل بحرّية. بذلك حتى من كانوا يَرجون بأكثر حماس تحرير الدولة من كل خدماتها غير الضرورية وتطلبّت فلسفتهم برُمّتها الحدّ من أنشطة الدولة لم يجدوا خيارا غير تمكين نفس هذه الدولة من قدرات وأجهزة وأدوات جديدة تتطلبها إقامة [اقتصاد] دعه يعمل [دعه يمر]”15. لعلّ أصدقاءنا الليبيراليين يريدون الحديث بأكثر تواضع حول البيروقراطية.

لكنّ التناقضات لا تقف عند هذا الحدّ نتيجة الانزلاق الخطابي المتواصل نحو تعويم مفهوم الريع وتحويله إلى شعار سياسي. ذات ندوة حول وقع الكوفيد-19 على الاقتصاد التونسي (انزلقت بصفة غريبة نحو موضوع الاقتصاد الريعي!)، أثار حكيم بن حمودة تحفظاته على مفهوم الاقتصاد الريعي في علاقة بالسياسات الصناعية وحماية الصناعات الناشئة وأشار إلى التجارب (“الريعية”) لدول شرق آسيا في بناء صناعة قوية. يجيب أنيس مراكشي وإلياس الجويني أنّ مكافحة الاقتصاد الريْعي لا تعني منع السياسات الصناعية والقطاعية (وهي تعني ذلك كما بيّنا أعلاه من خلال كلامهم)، بل فقط أنّ الدولة يجب أن تطبّقها بحياد وشفافية على أساس قواعد واضحة بعيدا عن الزبونيّة والفساد. هكذا انغلقت دائرة التناقض. هكذا يفقد مفهوم الريْع أيّ محتوى خصوصي وأيّ قدرة تحليلية16 وأيّ محتوى برنامجي ويصبح مجرّد اسمِ جديد للفساد.

في الحقيقة يمكن أن نذهب أبعد من ذلك وسنُبيّن أنّ التعتيم والسلطة التقديرية هي أدوات لممارسة سياسات اقتصادية. سنكتفي في هذا المستوى بمثاليْن: حتى تتجنّب الضغوطات التجارية وتُعطي صورة اقتصاد “منفتح” (على السوق العالمية) كانت الحكومة التايوانية (إلى حدود الثمانينات على الأقل) تنشر قائمة ضيقة من المنتوجات التي تتحكّم في توريدها. بينما في الحقيقة القائمة الفعلية سرّية وأوسع بكثير من المنشورة. عندما تُقدِّم شركة طلب توريد منتوج ما تراجع البنوك القائمة السرية وفي حالة وجود المنتوج بها تُعلم وزارة المالية. تطلب مصالح الأخيرة من المُوَرِّد إثبات جدوى التوريد واستحالة توفيره محلّيا وتتولّى مهمّة تقصّي إمكانية توفير المنتوج من مُنتِجين محلِيِّين بثمن معقول، ولو أعلى من سعر توريده، وتُشرف على المفاوضات بين المُنتجين والمستهلكين المحليين. بالتالي تقوم بالحدّ من التوريد وتساهم في ربط المنتجين بالمستهلكين في السوق المحلية17. من جهتها، وللمحافظة على المظاهر السطحية لاقتصاد السوق، كانت الحكومة اليابانية تقرّر مسبقا وسرّيًا عدد الشركات التي يمكنها التواجد في سوق معيّنة وتفرضه بشكل غير مباشر عن طريق الإجراءات الإدارية وعلاقاتها بمنظمات الأعراف18.

من هم أعداء الاقتصاد الريعي؟

“عادة يكونون قد مرّوا بجامعات في الولايات المتحدة […]. يميلون لانتقاد تدخّل الحكومة ويقيسونه مقابل نموذج سوق تنافسي يشتغل بسلاسة. يقدّمون أنفسهم كأبطال المستهلكين والمنتجين الصغار ضدّ جشع المستثمرين الكبار الذين يريدون المزيد من المساعدات والتسهيلات والحماية. […] البحث المؤسساتي والتاريخ الاقتصادي يتمّ إهمالهما وحتى الاستهزاء بهما”19. هكذا وصف الاقتصادي الأمريكي روبرت وايد الاقتصاديين “الأكاديميين” أو “الأجانب”، كما يسمّيهم في تايوان الشق الثاني من الاقتصاديين المتكوّنين محلّيا أو في اليابان. نفس العداء أبداه أهمّ الاقتصاديين اليابانيّين تجاه السياسات الصناعية في بلادهم. حيث، كما في تايوان، وقع تهميشهم في مواقع القرار لصالح المهندسين، فيما هُمّشوا لصالح القانونيّين في كوريا الجنوبية20.

لا يخفى على أيّ ملاحظ أهمّية المقيمين بالخارج، والمتكوّنين بالجامعات الغربية وخاصة الفرنسية طبعا، داخل لوبي مكافحة الريْع. هذا عامل تفسيري، لكنّ الأهمّ هنا هو ملاحظة أنّ بلدانا ذات خاصيات اجتماعية-ثقافية بعيدة كلّ البعد (مبدئيا أو على ما يبدو) عن تونس قد أنتجت خطابات مماثلة لخطاب مكافحة الريع في تونس، على لسان مجموعات اجتماعية مشابهة. هذا الخطاب ليس أيضا ظاهرة آسيوية أو شرقية، فقد شهدته وتشهده أيضا البلدان الغربية أو الرأسماليات “الليبيرالية”. مثلما لا ينبع هذا الخطاب من خصوصيات ثقافية فإنّه لا يتعلّق بخصوصيات اقتصادية أو بمستويات معيّنة من التطور الاقتصادي. إذ شهدته بلدان متطورة اقتصاديا وأخرى أقلّ تطورا، وتشهَده حتى الدول المفترض خُلُوُّها من الريْع.

1-  البرجوازية-الصغيرة

يقول عالم الاجتماع الماركسي نيكوس بولونتزاس واصفا إيديولوجيا البرجوازية-الصغيرة الأوروبية في ستينات القرن الماضي أنها ضدّ “الاحتكارات ومع العودة إلى ‘المساواة في الفرص’ ؛ مع المنافسة النزيهة”21. هذا الخطاب إذن ليس نابعا من تحليل تقني “موضوعي” أو “محايد” لواقع خصوصي للاقتصاد التونسي، بل هو خطاب إيديولوجي مرتبط بموقع طبقي محدّد. هذا الخطاب هو التعبيرة الإيديولوجية للبرجوازية-الصغيرة عند انسداد أفقها الاقتصادي نتيجة تأزّم الرأسمالية. إيديولوجيا هذه الطبقة، بما هي وعيٌ زائف، تتمثّل أساسا في الطموح الواهم بالتسلق الاجتماعي إلى مرتبة البرجوازي – المصعد الاجتماعي وما أدراك! فطالما كانت الرأسمالية في نموّ والظروف المالية للبرجوازي-الصغير في تحسّن فإنّ وهم الصعود إلى مرتبة برجوازي قائم، والبرجوازي-الصغير مُصْطَفٌّ مع البرجوازية التي يرى (في الواقع يتوهّم) فيها مستقبله.

لكن مع كلّ تأزّم اقتصادي وتدهور أوضاعها تنقلب البرجوازية-الصغيرة على البرجوازية وتهاجمها. ورغم شدّة، وحتى عنف، هذا الهجوم أحيانا إلا أنه يبقى سطحيا وضيّق الأفق، أيْ برجوازيا-صغيرا. رغم كلّ الانتقادات التي يمكن أن توجهها هذه الطبقة للبرجوازية فإنّ أفقها وهدفها يبقى الانضمام إليها، أو الحلول مكان أفرادها وسببها منعها من ذلك. فالبرجوازية-الصغيرة لخوفها على ممتلكاتها وامتيازاتها (أو ما تراه كذلك) ليست قادرة على نقد المجتمع الطبقي في ذاته، وبالتالي المنظومة الرأسمالية ومقولاتها الإيديولوجيّة من “مصعد اجتماعي” و “تنافس نزيه” وإلخ. “يمكن تلخيص هذا السلوك من البرجوازية-الصغيرة بأنّها لا تريد كسر السلاليم التي تتصوّر أنّها ستُمكّنها من التسلّق”22.

لكنّ جُبن البرجوازية-الصغيرة لا يتوقف عند هذا الحدّ. إذ يدّعي هؤلاء حلّ مشاكل الاقتصاد التونسي دون الاهتمام بعلاقته بالاقتصاد العالمي (في نفس الوقت الذي يتشدّقون فيه بـ “العولمة”). هؤلاء لا يتجرّؤون على مجرد التفكير في إمكانية وجود علاقات هيمنة وصراع دُولِيَّيْن، ناهيك عن وجود إمبريالية. أصلا هؤلاء يتبجّحون بكونهم يقولون ما يقوله سفير الإتحاد الأوروبي السابق والب.ع في تقاريره. يلعبون دور الأبطال بالتهجّم على بعض العائلات البرجوازية محتمين بأسيادها من الإمبريالية وطامعين في أخذ مكانها أو مقاسمتها دور الوكيل في امتصاص فائض قيمة ما تبقّى من إنتاج تونسي.

2-  الإمبريالية

في خضم أزمة تتمظهر في الديون الخارجية، لا يتطرق خطاب مناهضة الريْع لا لهذه الديون ولا لميزان المدفوعات ولا للميزان التجاري ولا لمشكلة الاستثمارات الأجنبية ولا غيرها من المسائل المتّصلة بهذه الأزمة. لسان حالهم أنّ الأزمة تونسية بحتة فتونس جزيرة اقتصادية منعزلة عن العالم! هذا هو باختصار زُبدَة إيديولوجيا الإمبريالية، بما هي تفكيرٌ منفصل عن الواقع المادي يُسقِط عليه قوالبا جاهزة تُخفي دور وأزمة الإمبريالية23. فالمشكلة إنْ لم تكن في العقلية التونسية أو في الجينات العربية أو في جهل الشعب التونسي فهي في المؤسسات (الاقتصادية والسياسية) التونسية. إنّ هذا التفسير الأخير ولو بدَا أكثر تقدمية (زيادة على كونه مستورَدًا مباشرة من أدبيات ليبيرالية24 تروّج لنفس الإيديولوجيا الإمبريالية) يندرج في الحقيقة ضمن نفس المنطق الجوهراني. يمكن تبيّن ذلك من خلال محاولات البحث عن امتداد الاقتصاد الريْعي بعيدا في تاريخ تونس وكأنه خصوصية تونسية. نذكُر كأمثلة على هذا التمشّي مقال الصحفي الفرنسي تيري بريزيون وحواره مع الصغيّر الصالحي. يُرجع هذا الأخير في حوار آخر الاقتصاد الريْعي إلى الدولة الموحّدية في القرن 13 (!) حيث اختلط الاقتصاد بالسياسة حسب كلامه. كأنّهما كانا منفصليْن قبل ذلك أو أنّ السوق الحرّ والتنافس كانا سائديْن أو أنّ أوروبا القروسطية مثلا كانت ليبيرالية في تلك الحقبة. كأن فصل السياسة عن الاقتصاد وجد أو سيوجد يوما في مكان ما عدا العقل الليبيرالي المثالي.

إنّ مقولة الاقتصاد الريعي، مثلها مثل “رأسمالية المحسوبية”، ليست خصوصية تونسية أو جنوبية أو غيرهما، بل هي خطاب إيديولوجي وظيفته طرح مشاكل عرضية أو وهمية للتغطية على واقع السلطة الطبقية والإمبريالية. ففي نفس الوقت الذي يدّعي فيه لوبي مناهضة الريع والمؤسسات المالية الدولية أنّ الريْع هو سبب مشاكل وفقر تونس وغيرها من بلدان الجنوب، وأنّ تفكيكه وتجاوزه هو سبب تطور المراكز الرأسمالية، تتعالى الأصوات هناك في هذه المراكز نفسها للتنديد بنفس الاقتصاد الريْعي! لمحة سريعة مثلا عن المقالات الصادرة بهذا الشأن في كبرى الصحف الليبيرالية البريطانية أو الأمريكية تعطي فكرة حول ذلك. في كتابهما “أسطورة الرأسمالية: الاحتكارات ونهاية المنافسة”25 يقول الاقتصاديّان الليبيراليّان دينيز هارن وجوناثان تابر: “بعض القطاعات تتقاسم الولايات المتحدة مثلما تتقاسم المافيا حلبات سباق الخيل بين العائلات […]، الحكومة […] شجعت المفاهمات غير المعلنة والمفضوحة” ويتساءلان “في ماذا تقضي سلطات مناهضة الاحتكارات وقتها” في حين أنّ “عشرات القطاعات متركزة بشكل صارخ” ويندّدان بكون “الإجراءات المفرطة تقتل بالتحديد المشاريع الصغيرة التي تهاجم كبرى الشركات”، وبكونها تشكّل “حاجزا هائلا للدخول” وبكون “الترابط بين اللوبيات والإجراءات والأرباح متركز في عدد صغير من القطاعات المؤثرة سياسيا”، وطبعا لم ينسيَا “الاندماج العمودي” والى غير ذلك. لدينا هنا النسخة الأمريكية لإيديولوجيا مناهضة الريْع مع فرق طفيف. في نقده لـ “اقتصاد (منظومة) الريع” في تونس يعتبر اللوبي التونسي أنّ المؤسسات السياسية والاقتصادية الأمريكية مثالٌ يجب الاقتداء به، بينما تبيّن وتوثّق نُسخته الأمريكية في كتاب بـ 320 صفحة أنها نموذج للاقتصاد الريعي! هذا الكتاب ليس هامشيا فقد تلقى مثلا المديح من اثنين من أصحاب جائزة نوبل في الاقتصاد26. نفس الشي تقريبا يقوله أحد أهمّ الاقتصاديين الليبيراليين الفرنسيين جون مارك دانيال عن بلده في كتابه “دولة المفاهمات: لننتهي من حالات الريع”27.

المواطن أم المستهلك؟ الطبقات الشعبية أم البرجوازية-الصغيرة؟

هذا الموقع الطبقي البرجوازي-الصغير وإيديولوجيته ينعكسان عن وعي ولاوعي في المطالب الاقتصادية للوبي مناهضة الريْع. فتطرح كل الأمور إما من وجهة نظر “صاحب المشروع” أو من وجهة نظر “المستهلك” كأنه لا وجود لفئات اقتصادية اخرى. أحد أكثر المسائل التي يندّد بها اللوبي هي الكارتلات الاقتصادية. باختصار، يمكن القول أنّ الكارتل يمثّل مجموعة من الفاعلين الاقتصاديين (شركات مثلا وأساسا) يتفاهمون فيما بينهم (حول الأسعار أو جودة المنتوجات…) ويخرقون بذلك مبدأ التنافس. من الأهداف المفضّلة للوبي مناهضة الريع كارتل توريد السيارات، فهو حسب رأيهم من أسباب ارتفاع ثمنها (إن لم يكن السبب الأساسي). إذ يحقق أرباحا جمّة على حساب “المستهلك”. إجابة على هذه المسألة يدعو اللوبي إلى تفكيك هذا الكارتل وفتح السوق للتنافس ودخول فاعلين جدد ممّا، حسب المنطق الليبيرالي، سيُخفّض في الأسعار. لكنّ أصدقاءنا من فرسان الدفاع عن المستهلك يتوقّفون عند هذا الحدّ. سنواصل نحن بنفس منطقهم: يؤدي انخفاض الأسعار لارتفاع الطلب على السيارات، وبالتالي سيزداد التوريد من أجل تلبيته، وبذلك سيتفاقم عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات. حرّية دخول السوق هي إذن حرية البرجوازية-الصغيرة في الاستثراء بالمشاركة في إغراق البلاد بالواردات. حقوق “المستهلك” هي حقوق البرجوازية-الصغيرة في إهدار العملة الصعبة من أجل استهلاكها الاستعراضي.

لا يمكن أن يخطر ببال هؤلاء أنّ ارتفاع ثمن السيارات، خاصة إن كان سببه تحكما في الأسعار (من قِبل كارتل تتحكّم فيه سلطة شعبية مثلا)، يمكن أن يكون في مصلحة الطبقات الشعبية، أي أغلب المواطنين التونسيين. البرجوازية-الصغيرة لا يمكن أن تفهم وجود مصالح غير مصالحها فموقعها الوسطي في التراتبية الاقتصادية يجعلها تتوهم أنها محايدة وأن مطالبها كونية. “المواطن” هو البرجوازي-الصغير و “المستهلك” هو البرجوازي-الصغير، كلّ المجتمع برجوازي-صغير وإنّ لم يكُن فيجب أن يُصبح كذلك.

أكثر من هذا، إذا أخذنا كمبدأ للخيارات الاقتصادية مصلحة المستهلك، فلماذا لا نلغي أو نُخفّض أقصى ما يمكن من المعاليم الديوانية وكلّ حمايات الفاعلين الاقتصاديين المحلّيين حتى يتلقى “المستهلك” أرخص منتوجات العالم ثمنا وأفضلها جودة ويزدهر التنافس؟ هذا ما يطرحه البنك العالمي في تناسق مع إيديولوجيته والمصالح التي يمثّلها. دعاةُ خطاب الاقتصاد الريعي يعرفون طبعا أنّ طرح فتح الأسواق التونسية للمنافسة الأجنبية سيضعهم بصفة مفضوحة في موقع عملاء الخارج. لكنهم يتبنّون كلّ المنطلقات والتحليلات التي تؤدي إلى تلك الأطروحة.

في الحقيقة، ارتفاع ثمن السيارات وانخفاض الطلب عليها وعلى توريدها يمكّن من ادخار العملة الصعبة التي يمكن استعمالها مثلا في توريد وسائل نقل عمومية28 (دون الحديث عن “يوتوبيا” تطوير صناعة نقل محلية!). هذه إحدى السياسات التي يجب أن تتبعها أي حكومة سيادية شعبية. يمكن أن يكون ذلك عن طريق التأميم التام للتوريد في أفضل الحالات، أو يمكن في إطار موازين قوى (خاصة دولية) معادية في فترة انتقالية استعمال كارتلات توريد. تتفاهم معها الدولة، بصفة خفية وغير رسمية، على تخفيض كمية الواردات مقابل رفع الأسعار للحفاظ على الأرباح. سيجنّب ذلك الدولة فرض معاليم ديوانية أو حصص توريد رسمية، وهي إجراءات يمكن أن ينجرّ عنها ردود أفعال وتوتر سياسي وحروب تجارية مع الدول التي قد تتضرر من ذلك. هذا مثال على استعمالات “الفساد” واختلاط السياسة بالاقتصاد وعدم الشفافية في سياسات شعبية. هذه ليست أيضا مجرد مضاربات نظرية، فكارتلات التوريد (والتصدير) من الوسائل الملحوظة التي استعملتها دول شرق آسيا في تطورها الاقتصادي، وعلى رأسها اليابان29.

نعرف طبعا، وذلك أمر بديهي، أنّ الحكومات التونسية لا تنتهج مثل هذه السياسات، فهي لا تمثل مصالح الطبقات الشعبية ولا تدافع عن سيادتها بل هي حكومات البرجوازية التابعة للإمبريالية. لكن الفرق واضح وجليّ بين النقد الماركسي لطبقة تمنع البلاد من تطوير صناعة محلية لارتباط مصالحها بالخارج (عن طريق التوريد والتصدير والمناولة…) وبين مطلب البرجوازية-الصغيرة بالمشاركة والانتفاع من هذه التبعية والوساطة لصالح الإمبريالية. ما بلورناه فيما سبق عبر مثال توريد السيارات ينطبق على توريد كل منتوجات الاستهلاك الاستعراضي والخدمات الكمالية أو غير الضرورية وتلك التي يمكن تعويضها بنظيرتها وشبيهتها المحلية.

هنالك المزيد. الأرباح الكبيرة التي تفتكها الكارتلات من البرجوازية-الصغيرة (نُذكّر بأننا نتحدث طبعا عن منتوجات ثانوية واستهلاك استعراضي) عن طريق التفاهم على الأسعار هي مدخول حقيقي يمكن (ويجب خاصة في بلاد فقيرة) تحويله لاستثمارات في قطاعات منتجة وأساسية بدل استهلاكه. يتم ذلك في اقتصاد رأسمالي مثلا عبر الترفيع في الضرائب على الأنشطة والقطاعات غير الأساسية ممّا يمكن سلطة سياسية شعبية من استثمار جزء من هذه الموارد مباشرة. إلى جانب ذلك يجب أن تقوم هذه السلطة بالضغوطات السياسية الكافية (التهديد بالتأميم أو برفع الحماية والمساعدات مثلا30) والتشجيعات (امتيازات جبائية، تسهيلات مالية…) لدفع الرأسماليين لاستثمار هذه الأرباح في القطاعات الأولوية والمُنتِجة.

يمكن تبيّن صحة هذا التفكير من خلال المعطيات التالية. اهتمت دراسة مقارنة حول “أنماط تنمية” مجموعة من الدول بأربع أبعاد: نموذج الاستهلاك (مؤشره كثافة السيارات في ألف ساكن سنة 1980) والمساواة في المدخول (نسبة مدخول الـ 40% الأفقر من السكان على الـ 10% الأثرى بين 1970 و1980) والتنافسية العالمية (نسبة الصادرات على الواردات في المنتوجات المعدنية وقطاع الآلات في 1979-80) والنشاط الاقتصادي على المدى الطويل (معدل نسبة نمو الناتج الداخلي الخام على عدد السكان بين 1960 و1979). تلاحظ الدراسة أنه يمكن تقسيم هذه الدول إلى فريقين. فريق يتكون من تايوان وكوريا الجنوبية ويشبه نموذجه اليابان ويتميز بأقل استهلاك ومستوى أعلى من المساواة والتنافسية والنشاط الاقتصادي وفريق ثاني يتكون من المكسيك والأرجنتين ويشبه نموذجه الولايات المتحدة وهو على عكس الأول. لا يتجاوز عدد السيارات 25 على ألف ساكن في تايوان (أقل من 10 في كوريا الجنوبية) بينما يبلغ الخمسين في المكسيك و110 في الأرجنتين. في حين لا تصل التنافسية في صناعة المعادن والآلات في المكسيك إلى 0.1 وفي الأرجنتين إلى 0.3، تبلغ في كوريا الجنوبية وتايوان 0.7 و0.9 على التوالي31. هذه المعطيات تشير أيضا بصفة غير مباشرة إلى شيء آخر: بسبب اشتغالها في الأنشطة الاقتصادية غير المنتجة وقطاع الخدمات، ونظرا لنمط عيشها واستهلاكها الاستعراضي، تُمثّل البرجوازية-الصغيرة (أو ما يسمى بالطبقة الوسطى) القاعدة الاجتماعية للتبعية والفشل الاقتصادي، بينما مثّل ظهور طبقة عاملة صناعية القاعدة الاجتماعية لكلّ النجاحات الاقتصادية.

من المهمّ هنا أن نضيف ملحوظتين ذات طابع سياسي. إنّ ضرب الأنشطة الطفيلية وخاصة التجارية يكون أسهل كلّما كان مستوى التركّز في القطاعات المعنيّة أعلى وخاصة إذا سيطرت عليها كارتلات أو احتكارات. يكفي في هذه الحالات تأميم حفنة من رؤوس الأموال وتحويلها إلى أنشطة منتجة أو مثلا تأميم قطاع التصدير والتوريد للتحكم فيه ووضعه في خدمة الإنتاج المحلي. وفي حال اقتضت الفترة الانتقالية إرجاء إجراءات التأميم، سيكون من الأسهل الضغط والتفاهم بصفة رسمية أو غير رسمية مع حفنة من الأفراد والعائلات لفرض سياسات شعبية. على العكس من ذلك سيكون الأمر أصعب، وسيواجه حتما مقاومة اجتماعية أكبر وتكون تكلفته السياسية أعلى، عندما تمارِس هذه الأنشطة طبقة واسعة من صغار الرأسماليين.

ما يأخذنا للتنبيه لأحد الانحرافات التي يمكن أن يؤدي إليها الانفصال في العلاقة الجدلية بين الخطاب السياسي والنظرية. إن كان الهدف الأصلي من التنديد المتواصل باستحواذ قلّة من العائلات على اقتصاد البلاد تأجيج مشاعر الحقد الطبقي بغاية التعبئة الشعبية ضد البرجوازية، فإنّ ذلك يمكن أن يصبح إشكاليا في حال غياب بديل وبرنامج شعبي اشتراكي. إن أصبح إسقاط هذه العائلات هدفا في حد ذاته مهما كان البديل، فإنّ هذا الخطاب يمكن أن يصبّ في صالح حركة مناهضة الريع وخطاب الحق في الاستثراء وحرية التنافس والمساواة في الفرص الليبيرالي، أي في صالح تحالف الامبريالية والبرجوازية-الصغيرة.

هذا بدوره يوجب علينا من ناحية أخرى مزيد توضيح أطروحاتنا حتى لا يُساءَ فهمها. وإنْ تناول هذا النص نقديا مسائل الكارتلات والاحتكارات وإلى ذلك من الأشكال “الريعية” وبيّن أنها ليست “سيئة” في ذاتها، فهو لا يقول أنّها “جيدة” في ذاتها. ما نقوله هو أنّ طرح المسائل والأسئلة ليس محايدا وغالبا ما يحتوي مسبقا الأجوبة، خاصة في الأمور السياسية. إذا أمكن اختصار أطروحة هذا النصّ فسيكون ذلك في نقطتين. أولا، إنّ طرح مشكلة الاقتصاد التونسي كقضيّة ريْع وكمعركة بين المدافعين عنه ومناهضيه هو طرحٌ ليبيرالي. فإذا قبلنا بتسمية القائم بالاقتصاد الريعي فتفكيك الريع يقتضي مثلما بينا المرور إلى “اقتصاد سوق”. بالتالي فإنّ القبول بهذا التشخيص هو قبولٌ باللعب في ملعب الليبيراليّين وبقواعدهم وداخل خطابهم، حتى لا نقول أنّه خوض لمعارك البرجوازية-الصغيرة بالوكالة32. ثانيا، نفس الأشكال “الريعية” يمكن توظيفها في اتجاهات تقدمية من قِبل سلطة سياديّة شعبيّة. بالتالي فإنّ المشكلة لا تكمُن في تلك الأشكال، بل في طبيعة السلطة السياسية والطبقة الحاكمة: برجوازية مصالحها مرتبطة بالقطاعات الطفيلية وبالخارج.

يتبع…


1. وهي الإيديولوجيا والبرنامج السياسي اللذين رفعتهما البرجوازية إثر أزمة الشكل الديمقراطي-الاجتماعي للرأسمالية. للتبسيط يمكن القول أنّ هذا البرنامج يتمثل، إلى جانب سياسات مالية محافظة وهوس بالتضخم، في إدخال مبدأ السوق على أكثر ما يمكن من جوانب الحياة. فعليا طرحت خوصصة الشركات العمومية ولبرلة الأسواق، أي رفع كل ما يمكن من القواعد والحواجز لدخولها والنشاط فيها إضافة إلى التقشف وتقليص النفقات الاجتماعية. على مستوى دولي طرحت اتفاقيات التبادل الحر وإلغاء السياسات الحمائية.

2. أنظر مثل:
Anne O. Krueger - The Political Economy of the Rent-Seeking Society
James Buchanan, Gordon Tullock & Robert Tollison - Toward a Theory of the Rent-Seeking Society

3. كل اقتباسات هذه الفقرة وكل الاقتباسات للينين في هذا النص مرجعها:
Lénine - L'impérialisme, stade suprême du capitalisme

4. Rudolf Hilferding - Finance Capital: A Study of The Latest Phase of Capitalist Development

5. Andre Gunder Frank - Lumpenbourgeoisie, Lumpendevelopment

6. سنعود في نص لاحق بأكثر تفصيل لمسائل الحد من المنافسة والقطاعات الناشئة.

7. Aziz Krichen - L’autre chemin  

8. Aziz Krichen - La promesse du printemps

9. Ed Brown & Jonathan Cloke - Neoliberal Reform, Governance and Corruption in the South: Assessing the International Anti-Corruption Crusade

10. Kanishka Jayasuriya & Andrew Rosser - Economic Orthodoxy and the East Asian Crisis

11. الإقرار بهذه الحقيقة ليس جديدا ونجده في كتابات أكبر أعلام النيوليبيرالية مثل فون هاياك وفون ميزس. أنظر مثلا:
Matthew Ryan – Contesting ‘Actually Existing’ Neoliberalism

12. Karl Polanyi - The Great Transformation: The Political and Economic Origins of Our Time

13. David Graeber - The Utopia of Rules: On Technology, Stupidity, and the Secret Joys of Bureaucracy

14. دافيد قرايبر، نفس المرجع. لدراسة مفصلة حول البيروقراطية والنيوليبيرالية أنظر:
Béatrice Hibou - La bureaucratisation du monde à l’ère néolibérale

15.  كارل بولاني، نفس المرجع.

16. نظرا للطبيعة السياسية المباشرة لخطاب مناهضة الريع في تونس لم يتطرق هذا النص لنقد مفهوم الريع في ذاته. في هذا الصدد أنظر مثلا:
.Kiaran Honderich - Producers and Parasites: The Uses of Rent-Seeking
Warren J. Samuels - A Critique of Rent-Seeking Theory, in Essays on the Economic Role of Government
Ha-Joon Chang - Is Rent-seeking Wasteful

17. Robert Wade - Governing the Market

18. Henry Roskovsky, "What are the lessons of Japanese economic development?" in A. Youngson (ed.), Economic Development in the Long-Run
Chalmers Johnson - MITI and the Japanese Miracle: The Growth of Industrial Policy
 سنشير في هذا النص إلى بعض إيجابيات الحد من المنافسة وسنفصلها في نص لاحق. لدراسة حول مستويات المنافسة وأكثرها نجاعة أنظر:
Alice H. Amsden & Ajit Singh - The optimal degree of competition and efficiency in Japan and Korea

19. Robert Wade - Governing the Market

20. على العكس من هذا لا يمثل حسب رأينا المهندسون والقانونيون في تونس 2020 فئتين تقدميتين عموما، لعدة أسباب مثل التقهقر الصناعي الذي يميز فترة تكوينهم وهيمنة النيوليبيرالية تحديدا داخل الجامعات.

21. Nicos Poulantzas - Classes in Contemporary Capitalism

22. نفس المرجع أعلاه.

23. نؤكد دائما أنا هذه العملية ليست واعية تماما ويختلط فيها الوعي واللاوعي.

24. Daron Acemoglu, James A. Robinson - Why Nations Fail : The Origins of Power Prosperity and Poverty
لنقد لهذا الكتاب وأطروحات كاتبيه عموما أنظر مثلا :
Baki Güney Isikara - A Critical Assessment of Liberal History Writing : Why Nations Fail in Light of Evidence from post-1688 British Institutions
Ha-Joon Chang - Institutions and economic development: theory, policy and history

25. Jonathan Tepper & Denise Hearn - The Myth of Capitalism: Monopolies and the Death of Competition

26. يأتي هذا الاكتشاف العلمي العظيم بعد أكثر من 50 سنة على كتاب "رأس المال الاحتكاري" للماركسيين الأمريكيين بول م. سويزي وبول أ. باران الصادر سنة 1966 حيث بينا أن عهد الرأسمالية التنافسية انتهى دون رجعة:
Paul A. Baran, Paul M. Sweezy - Monopoly Capital: An Essay on the American Economic and Social Order

27. Jean-Marc Daniel - L’État de connivence : En finir avec les rentes

28. هذا الخيار ليس فقط طبقيا بل له عقلانيته الاقتصادية. بينما لا تتجاوز طاقة استيعاب سيارة 5 أشخاص يمكن أن تقيل حافلة أكثر من 50 شخصا دون أن يتجاوز ثمنها 10 مرات ثمن السيارة. هذا إضافة إلى أثره الإيجابي على الاكتظاظ في الطرقات.

29.  Alice H. Amsden & Ajit Singh - The optimal degree of competition and efficiency in Japan and Korea
Robert Wade - Governing the Market

30.  وصل الأمر في كوريا الجنوبية تحت الدكتاتورية لاستعمال البوليس السري لفرض مشاريع على رجال أعمال. أنظر:
Ha Joon Chang - 23 Things They Don’t Tell You About Capitalism

31. طبعا هذه الفوارق يجب فهمها في علاقة بتاريخ هذه الدول والطبقات الاجتماعية الحاكمة وخاصة بالإمبريالية. نذكر أن دولتي كوريا الجنوبية وتايوان كانتا في صراع مباشر مع قوى شيوعية وكان من مصلحة الامبريالية دعمهما وتطورهما. بينما عانت أمريكا الجنوبية من التدخلات المباشرة وغير-المباشرة التي ضربت كل السياسات والقوى التقدمية والتحررية. أنظر مثلا:
 Andre Gunder Frank - Latin America: Underdevelopment or Revolution

32. في الحقيقة هذا ما تقوم به مختلف تشكيلات اليسار التونسي منذ عشر سنوات: من معارك الحداثة ومدنية الدولة مرورا بخطاب مكافحة الفساد إلى خطاب مناهضة الريع.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !