أليست كل هذه وجوها من أوجه التطبيع؟

عبير نصري. طالبة آداب يسارية الفكر.

“أعتبر نفسي محايدا/ة”، “تقدمي/ة ولا تقبل رأيي؟”، “ضاعت حرية التعبير”، “كأنكم متطرفون بعض الشيء؟”، “أنا مع التعايش السلمي”، “ما ذنب الأقليات؟”، “لم يفجرون أنفسهم؟”، “عليهم بالمصالحة لتجنب مزيد من الأضرار”، “لقد باعوا أرضهم”، “تجاوزهم التاريخ”، “هذه ليست قضيتنا”، “حتى نحرر أنفسنا أولا؟”.

 ..

ثمة من يحتمي بنفسه من الشعور المكبل بالعجز باعتماد سياسة الإنكار، حتى لا يصاب بالاكتئاب أو الجنون. لكن هل ينفي تغييب وعينا بما يحدث في فلسطين حقيقة حدوثه؟ وهل تغير محاولة تعطيل أدمغتنا من مجرى الحرب شيئا سوى أن تدفع بها أكثر نحو توسيع هاوية الاحتلال؟ في الأثناء، تظل فوهة المحتل تبتلع الناس، العائلات، البيوت والأحياء، من دون أن يقاطعها صمت العالم المخزي عن الأكل.

آخرون يطمحون إلى بناء حصن صغير من سلام، بعيدا عن الأخبار والقضايا، وعن خراب العالم الذي صار يتجاوز العامل الطبقي ليمتد إلى الجميع من دون استثناء ويطوق بنا وبهم من كل جانب. آخرون يودون فقط نصيبا من سماء بلا قنابل، كأن السماء ليست واحدة، وراء أبواب بلا “مقافل”، أو خوف من اقتحامات الجند الماردة. آخرون لا يعرفون معنى أن يكون صاحب الأرض مطاردا.

لذلك تراهم لا يفكرون سوى بتحصيل نصيبهم الخاص من هذا السلام، غير معنيين ب”حظ” غيرهم منه. والحق أن الحظ محض حجة واهية تفيد التعامل مع الحقوق الإنسانية بمنطق الملكية الخاصة، مما يزيد الصراع في سبيل التوزيع العادل لهذه الحقوق –بدل استجدائها كهبات- صعوبة. لكننا نؤمن بأن أي سلام قد نحظى به على حساب معاناة الآخرين هو وليد امتيازات لا علاقة لها بالصدفة، وأن أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه منقوص، وأكثره مزيف.  

وبدل أن يتفكر هؤلاء في مدى ترابط وجوديتنا لا فقط فرص وجودنا على هذه الأرض، إثر تتالي الأزمات العالمية الأخيرة، فإنهم يواصلون استبطان نفس الإخلالات التي أودت بنا إلى هنا، إلى خرابهم وخرابنا، في المقام الأول، غير مدركين بعد أن أضعف زلزال قادر على إطاحة أمتن حصن إذا ما بني على أرض لا يؤمن من على متنها بمبدأ الاشتراكية. نحن شركاء في المعاناة اليوم، في حصد نتائج خيارات البارحة، وسنكون شركاء في حصد نتائج خيارات اللحظة غدا.

هنالك كذلك من يسهو عن استمرارية الصراع. البعض غارق في سبات حقيقي: حالة من انعزال حسي ومعرفي عن العالم وانفصال تام عن الوجود وقضاياه. البعض بصدد فقد جيناته التي تمكننا من تحديد بشريته والتعرف عليه كواحد من بني جنسنا. حين يتذكر هؤلاء –بحدوث حادث- أن القضية لا تزال متواصلة، تكاد ترى الملل في وجوههم من فرط طول الحرب البعيدة. من دون القدرة على التأمل في الصلابة العجائبية، الأقرب إلى الميثولوجية، لشعب قاوم وظل يقاوم طول هذه المدة من دون يد تمد له (باستثناء حزب الله). قد يقولون “إييييه.. مازالت ثمة حرب هي؟” “تي شمازال فيها فلسطين بالله..” “الأمريكان وصلوا للقمرة وأحنا طول عمرنا في الحروبات”

وكل ما يرن بأذهاننا آنذاك هو ذا:

الأمريكان: اتفاقية أوسلو .. كامب دايفيد .. صفقة القرن.

ثم يعودون إلى سباتهم.

 البعض يشعر بأنه خذل القضية أو بأن القضية خذلته. البعض فقد إيمانه بحتمية انتصار القضية، إذ عاصر زمن شخصيات مثل ياسر عرفات وجمال عبد الناصر، ليشاهد اليوم ماريونات حكومات العرب وهي تصافح اليد الإسرائيلية ب”روح رياضية” كأنها تهنئها على الفوز في مباراة سلمية: كأن “الفريق الإسرائيلي” قد استمد بعد هذا الجهد الجهيد من القتل والتشريد حقا في المطالبة بأرض الفلسطينيين كجزية أو رهان لم يوقع أصحابها عليه.

البعض أرخى يديه بحجة ألا أمل في أن تستحي الحكومات الباقيات وتقدم ولو على سن قانون يجرم التطبيع. لكنهم يسهون بذلك عن كون هذه الحكومات مؤقتة. وباعتبارها منتخبة فهي عرضة للاستبدال وقابلة للطرد إذ تصم آذانها وأفواهها عن مطالب شعوبها، وترفع تصويتها بالإجماع في وجه من انتخب ومن لم ينتخبها ضد تمرير قانون التطبيع، بعد استغلالها المخزي للقضية الفلسطينية من أجل بلوغ نفس المقاعد التي هي تجلس عليها اليوم.

البعض يدفعون عنهم كل مسؤولية ويتبنون الضعف الكامل. ستراهم يوم تتحرر فلسطين سعداء بأكل ثمار تعب من آمنوا ودافعوا عن القضية حتى آخر رمق. ومن ضمنهم لن نستغرب أن نرى نواب مجلسنا الأتقياء.

وإذا ما فكرنا في الأمر، سنجد أن عدد أفراد الحكومات المطبعة مجتمعة بكافة الأحوال لا يجاوز معشر قبيلة. وإن لمن السهل جدا دهس هسهستها متى أجمعت الشعوب المتآزرة على موقف واحد. نحن أضعف فقط إذا ما كنا فرادى. ولا يتمكن الإحساس بالعجز منا إلا حين يحاصرنا، حين يجدنا وحيدين. أما إذا ما كنا مجتمعين فإن هذا الإحساس بالعجز يتحول بشكل عجائبي إلى شعور دافئ بالانتماء.

نحن نحارب اليوم من أجل أضعف الأيمان. نحارب من أجل الإقرار ببديهيات. بل نجد أنفسنا مضطرين إلى أن “نناقشها ” بشكل يومي في إطار حرية الآخر في مساندة الجاني على حساب المجني عليه، في تزييف التاريخ، وفي الدفاع عن قانون الغاب. حتى أننا نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نشير إلى المستعمِر ونقول: هذا مستعمِر. ونشير إلى المستعمَر ونقول هذا مستعمَر، في حين يحدق بنا البعض متسائلين عن الفرق بين محض فتحة وكسرة؟ ..

وفوق ذلك نحن نشاهد التاريخ وهو يزور على ضوء من أعيننا. إذا ما بحثت عن أسماء مناضلين فلسطينيين قد اغتيلوا من أجل قضيتهم اليوم في مواقع الأنترنت، ستجد موطن ولادتهم منسوبا إلى “إسرائيل”. (يا للمرارة.. ؟/ماذا ستكون الخطوة التالية: العبث بأقوال حنظلة في رسمات ناجي الكاريكاتورية مثلا؟ استبدال الكوفية بطاقية؟ كتابة عائد إلى حيفا من منطلق الإسرائيلي الذي سُرق ابنه ليصير مقاوما فلسطينيا؟ أبتسم إذ أنتبه إلى أن كلا المنطلقين يصب بشكل ما في صالح القضية. طول عمرك ذكي يا غسان.) نحن بصدد مواجهة قوم أكثر كسلا -وعلى الأغلب عجزا- من محاولة خلق ثقافة خاصة بهم. فقد اكتفوا مثلا بسرقة الأكلات الفلسطينية واستبدال أسمائها، على غرار مطبق الزعتر الأخضر على الطريقة الفلسطينية الذي غيروه إلى بيتاس بالحبق والزعتر، أملا خائبا في أن يعتصروا من رائحته شيئا ما يشبه الثقافة…

وفي وجه كافة أشكال التطبيع السابق ذكرها، ما لسائلة إلا أن تسأل –عفوا، أن تصرخ- : متى صار وعينا بضرورة صلابة مواقفنا الإنسانية على هذه الدرجة من الهشاشة؟ ما الذي ساهم في تذويب هوية هذا الجيل عربية كانت، إسلامية أم إنسانية، وتعريته من أي شعور بالانتماء؟ كيف انتهينا إلى صراع مع هذا التنافس المقيت على عدم تحمل أي مسؤولية تذكر وإن كانت مسؤولية الخذلان؟ أليس في الإنكار، التخلي، الانهزامية، التعود، الرضوخ: إلى ما يحاول الإسرائيليون فرضه، ولن أسميه واقعا بل واقعة، لأن الواقع هو الحقيقة، أما ما يحاول الإسرائيليون فرضه فهو افتراء لا لبس فيه، أليس في كل أشكال الهروب والخذلان أوجها من أوجه التطبيع؟ متى تدركون أن الصمت بكافة أشكاله محض تواطؤ وتبرير للكسل بحجة العجز؟  

متى تقلعون عن الصمت؟

وأَنتَ تُعِدُّ فطورك ’ فكِّرْ بغيركَ
[ لا تَنْسَ قُوتَ الحمامْ ]
وأَنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ
[لا تَنْسَ مَنْ يطلبون السلامْ]
وأَنتَ تُسدِّذُ فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ
[مَنْ يرضَعُون الغمامْ]
وأَنتَ تعودُ إلى البيت، بيِتكَ، فكِّرْ بغيركَ
[ لا تنس شعب الخيامْ]
وأَنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّرْ بغيركَ
[ ثَمَّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام]
وأَنتَ تحرِّرُ نفسك بالاستعارات، فكِّرْ بغيركَ
[ مَنْ فَقَدُوا حَقَّهم في الكلامْ]
وأَنتَ تفكِّر بالآخرين البعيدين، فكِّرْ بنفسك
[ قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ]

محمود درويش

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !