افتتاحيّة | عن “الأورومتوسّطية” و”المجتمع المدني” ومخاطر تدجين المناضلين…

غسّان بن خليفة / منسّق تحرير موقع انحياز

اذا ما صادفتك عبارات من نوع “حوار متوسّطي” أو “رؤية مشتركة للمنطقة المتوسطية” أو “هويّة متوسّطية” أو “علاقات أورومتوسّطية” مقرونة بـ “المجتمع المدني” وبرعاية وتمويل “الاتحاد الأوروبي”، فاعلم مباشرة أنّها شعوذة نيوليبراليّة أوروبية – بمشاركة بعض الساذجين أو المرتزقة المحلّيين – من أجل تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
أتحدّث عن تلك المبادرات “الحواريّة” التي عادة ما تتضمّن أهدافها هذه الجملة السحريّة : “لتنمية المستدامة والتماسك الاجتماعي والقدرة على التكيف والصمود في المنطقة”. وترجمتها العمليّة تعويد شعوبنا على تحمّل النهب والتفقير والتعامل معها كقضاء وقدر لا كنتيجة لسياسات امبرياليّة تُنفذ بأيادي السماسرة البرجوازيّين المحلّيين.


آخر مثال – والأمثلة عديدة على ذلك – ما وصلني هذا الصباح عبر الايمايل من دعوة لتغطية “ورشة اقليمية تشاورية” بعنوان “نحو رؤية مشتركة لمستقبل منطقة المتوسط لعام 2030، والتي ينظمها برنامج حوار المتوسط للحقوق والمساواة وهو برنامج إقليمي ممول من الاتحاد الأوروبي. حيث تجمع الورشة ما بين 35 ناشطاً في المجتمع المدني من خمس دول عربية هي الجزائر ومصر والمغرب وليبيا وتونس، وذلك في تونس العاصمة من 18 إلى 21 تموز\يوليو 2019 في فندق رامادا بلازا – قمرت.”.


فبالتمعّن قليلاً في الوثائق المرفقة بالدعوة نجد في الورقة المفاهيمية المؤطّرة لـ “الورشات التشاوريّة” هذه الفقرة البريئة:
“ستجمع كل من ورشتي العمل على مستوى بلدان الجنوب نحو 30 ممثلا لمؤسسات المجتمع المدني وغيرها من القطاعات من الدول المستهدفة في كلا من المغرب والمشرق. منطقة المغرب العربي: موريتانيا والمغرب والجازئر وتونس وليبيا ومصر.
منطقة المشرق العربي: فلسطين والأردن وإسرائيل وسوريا ولبنان وتركيا وجاليات المغتربين ذات الصلة وبالأخص السورية والفلسطينية منها.”

في البدء شكرًا للأشقّاء شمال المتوسط على إعلامنا بأنّ الكيان الصهيوني صار جزءًا من المشرق العربي!

أمّا بعد، فيتضّح أنّ الساهرين على هذا المشروع برمجوا “ورشة تشاورية” أولى هذا الأسبوع في تونس لمنطقة المغرب العربي وورشة تشاورية ثانية في أكتوبر لمنطقة المشرق العربي، وستليهما ورشة ثالثة ختامية السنة المقبلة تجمع من سيقع عليهم الاختيار من ضفّتيْ المتوسط (أي بما يعني ضمنيًا مشاركين من الكيان الصهيوني).
أما المرشحين الذين يمكنهم المشاركة في هذه الورشة “التأليفية”، فيمكن أن يكونوا من خارج “مؤسسات المجتمع المدني” (كما ورد في الوثيقة):

•علماء السياسة والمخططون الاستراتيجيون والمفكرون

• الفنانون والمؤلفون والفاعلون الثقافيون

• الناشطون الاجتماعيون والسياسيون

* ممثلو المؤسسات العامة والمجالس البلدية

• رجال الدين والفلاسفة

• الفاعلون الاقتصاديون


أمّا عن الأهداف المحدّدة لهذه الورشات فهي كما وردت في الوثيقة:
– صياغة وتشكيل آمال وتوقعات الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وغيرها من الجهات

– وإعداد رؤية مشتركة حول منطقة المتوسط في أوساط الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وأصحاب المصلحة؛ -تطوير الاستراتيجيات والإجراءات والشراكات اللازمة لتحويل الرؤية إلى هدف واقعي؛

-تيسير تبادل الخبارت والممارسات الفضلى والتعارف بين مؤسسات المجتمع المدني وتحديد الخطوات والمواقف الجوهرية؛

– إعداد بيان صادر عن المواطنين “مانفستو” حول مستقبل منطقة المتوسط للسنوات القادمة؛

الاّ أنّ الأخطر في كلّ هذا هو الحديث عن النشاطات المزمع تخصيصها لفئات “الشباب والنساء”، بما في ذلك المخيّمات التدريبية لتشجيع القيادة والعمل مع وسائل الاعلام و”استهداف جمهور يافع جدًا في المدارس والجهات الناشطة في مجال التعليم غير الرسمي”. أي، أنّ الأمر يتعلّق ببرنامج دعائي ضخم لنشر وترسيخ رؤية ايديولوجية قوامها الاستسلام لسياسات النهب النيوليبرالي والهيمنة والتطبيع، لدى الأجيال الصاعدة.


الخلاصة:
هذا النوع من المبادرات المُقرّرة والموجّهة والمموّلة من الاتحاد الأوروبي – بمشاركة وتنفيذ بعض مغفّلي أو مرتزقة “المجتمع المدني التابع” المحلّيين – هي احدى أدوات الهيمنة الناعمة التي تستعملها الدول الامبريالية الأوروبية لتنفيذ أهدافها في منطقتنا العربيّة. وهي بالمناسبة ليست اختراعًا جديدًا ولا “تهويمة مؤامراتية” ابتدعها مناضلو اليسار الوطني في بلداننا، كما يدّعي بعض “كلاب الحراسة” الليبراليون… اذ أُنجزت العديد من الدراسات والكتب حول هذه الظاهرة التي طالما اعتمدتها القوى الامبريالية في العديد من بلدان الجنوب (الفيليبين، الهند، افريقيا وأمريكا اللاتينية…) بهدف تطويعها واجهاض مشاريعها الوطنية (على سبيل الذكر لا الحصر، يمكن الاطّلاع على أعمال المناضلة الهنديّة أرونداتي رُويْ التي تتحدّث عن ظاهرة “أنْجَزَة المقاومة”).


ويمكن تلخيص أهمّ هذه الأهداف فيما يلي:
– تشكيل وعي “ناشطي المجتمع المدني”، لا سيما من فئات الشباب، باتجاه يسمح بتقبّل مجتمعاتنا للسياسات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على بلداننا، بتعاون من حكّامها الفاسدين اللاوطنيين، بما يخدم مصلحته الضيّقة واستمرار نهبه لثوراتنا الطبيعية والبشريّة وتصديره فائض أسواقه وصناعاته الملوّثة وقروضه المكبّلة إلينا.


كما يهدف ذلك إلى منع استئناف المسارات الثورية بالمنطقة عبر خلق فئات اجتماعية مستفيدة من هذه البرامج والتمويلات تشكّل ما يشبه “حزام آمان” يمتصّ الطاقات الثورية للشباب المُعطّل والناقم على السياسات التفقيرية اللاوطنية وينشر حوله أوهام “النضال المدني” من أجل “الاصلاحات القانونية” وترسيخ فكرة أنّ التغيير يمرّ حصرا عبر “الحوار مع المهيمنين” أو عبر “صناديق الاقتراع” عوض النضال الجماهيري والعنف الثوري.


– تتمثّل الغاية من استعمال العبارات الفضفاضة والمُعقّمة من نوع “الحوار” و” رسم مستقبل المنطقة والمحافظة على ثرائها الطبيعي والغنيّ وطابعها الفريد” و”تعزيز التبادل بين بلدان الجنوب” و” إعطاء المجتمع المدني المساحة التي يحتاجها.” و” تعزيز قدرات المجتمع المدني والناشطين من الشبان والشابات على التخطيط الاستراتيجي والتعاون وحشد التأييد والمناصرة للحقوق…”… في طمس التناقضات الرئيسية بين مصالح شعوبنا المُفقّرة والمُضطَهَدة ومصالح الطغم الرأسمالية الحاكمة في أوروبا، التي تنهب ثرواتنا وتستغلّ طبقتنا العاملة، بتواطئ وتنفيذ من قبل الطغم الرجعية السمسارة الحاكمة في بلداننا.

ومن أهمّ وأوّل هذه التناقضات، التي تمنع نهوض شعوبنا وتوحّدها وجود نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلّة.

ختامًا، ليس الهدف من هذا المقال المختصر شيطنة العاملين والعاملات في المجتمع المدني ولا وضع كلّ “المنظمات غير الحكومية” في سلّة واحدة. فالكثير منهم – وبل أجزم أنّهم الأغلبية الكبرى – صادقون وصادقات في اعتقادهم أنّ الطريق التي “اختاروها” هي سبيل مشروع لإصلاح أوضاح المجتمع وخدمة الناس. وهم كذلك – ونحن لسنا اسثتناء في موقع انحياز – يواجهون خيارات صعبة لتحصيل لقمة عيشهم بكرامة، ويعتقدون أنّه لا ضير في محاولة التوفيق بين الدفاع عن بعض القضايا التي تهمّهم والحصول على أجر مقابل نشاطهم. بل الهدف من اثارة هذا الموضوع الحسّاس والحيوي في آن، هو الدفع الى فتح نقاش جدّي، عميق وصريح ومحترم، بين الناشطين والناشطات في المجتمع المدني التونسي – تحديدًا المرتبط بالتمويل الخارجي- لتبيّن حدود هذا النشاط ومخاطره على السيادة الوطنية وعلى النضال من أجل التغيير الجذري للواقع. وذلك سعيًا للتوافق على “خطوط حمراء” و”أرضية مشتركة” يمكن لنا من خلالها تحصين “مجتمعنا المدني” من المزيد من الاختراق والتبعيّة.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *