ما العمل الآن وهنا؟ مبادرة للنقاش: فلنصرخ أنّنا “لسنا للبيع!”


وفاة 15 وليدًا أو أكثر بسبب فساد تحضير المصل الغذائي كنتيجة طبيعيّة لضعف امكانيات المستشفيات العمومية. وفاة الشابّة ميساء بن حميدة قبل فترة بسبب عدم توفّر التجهيزات في معهد الأعصاب، وفاة العديد من الأمّهات الحوامل في ولايات الجنوب بسبب عدم توفّر التجهيزات أو أطبّاء الاختصاص. المستشفيات العمومية هي بمثابة المسالخ المفتوحة لأبناء الفقراء، هذا ما يؤكّده الأطبّاء العاملون بالقطاع العامّ كلّ يوم.

 تدهور التعليم العمومي مقابل انتعاش التعليم الخاصّ دون ضمانه للجودة، وفي سابقة خطيرة نيّة الحكومة التفريط في أراض تونسية لإقامة جامعات أجنبية مع تمويلها. تدهور خدمات النقل العمومي وتكرّر حوادث القطارات، الغلاء المتواصل للأسعار، ترفيع البنك المركزي “المستقلّ” مؤخّرا لنسبة الفائدة بعد تحريره الدينار تنفيذًا لتوصيات صندوق النقد الدولي،  كلّها عوامل أدّت إلى تدهور ظروف عيش الطبقة الوسطى المهترئة. وحدّث ولا حرج عن معاناة العمّال والعاملات في المصانع وعن معاناة صغار الفلاحين والفلاّحات الذين يزدادون فقرًا، في انتظار أن تمحقهم اتفاقية “الأليكا” التي يبشّر بها يوسف الشاهد. ولا حاجة للتفصيل في أوضاع سكّان الأحياء الشعبية التي إن نجا شبابها من القمع البوليسي، فلن يجد له سبيلاً سوى “الحرقة” أو الانحراف أو التطرّف الديني… وفي أفضل الأحوال التحوّل إلى “برباشة” يبحثون عن لقمة عيشهم بين أكداس القمامة…

يضاف إلى ذلك ما هو معلوم من صمت عن فساد البرجوازيين القريبين من أحزاب السلطة (رفع التجميد عن أموال مروان المبروك آخر مثال، دون الحديث عن تمرير نسخة معدّلة من قانون “المصالحة الاقتصادية”)، ومن استمرار الاقتراض من الخارج لضمان أرباح رؤوس الأموال الأجنبية، بدعوى الحاجة إلى العملة للصعبة، بينما يستمرّ نزيف التوريد العشوائي والتهرّب الضريبي، بل ورفض حتّى الترفيع قليلاً في الأداءات على المساحات التجارية الكبرى ووكالات الأسفار… بينما يستمرّ بالمقابل الصمت عن ديون الشركات والمؤسسات الخاصّة لدى البنوك والشركات العمومية…

في الأثناء يواصل سفير فرنسا جولاته في طول البلاد وعرضها، ويواصل سفير الاتحاد الأوروبي في ابداء رأيه في ما لا يعنيه، ويتواصل التدخّل الأمريكي بمختلف أشكاله – بما في ذلك التواجد العسكري – في بلادنا… ولا حاجة للتذكير باستمرار تواطئ السلطة في التطبيع مع الكيان الصهيوني (لم تكتف بعدم سنّ قانون تجريم التطبيع وبالصمت عن مرتكبيه، بل شارك مؤخّرًا ممثّل لها في مؤتمر دولي لتصفية القضية الفلسطينية وللتآمر على ايران إلى جانب رئيس وزراء كيان العدوّ!)…

يجري كلّ هذا وغيره، على خلفية عودة تدريجية واثقة للقمع الأمني ضدّ كلّ التعبيرات الاحتجاجية (من سجن المدوّنين إلى اعتقال المتظاهرين وانتهاك حرماتهم والتحرّش بالمتظاهرات والخ).

لا نحتاج إلى تحليل مفصّل لنستنتج أنّ الشعار الذين يمكن أن يلخّص كلّ ما سبق من أمثلة، بل ومجمل سياسة العصابة الحاكمة (بمختلف تلويناتها وأحزابها وشقوقها) هو: “كلّ شيء للبيع! “… من المؤسّسات العمومية للبلاد (بما في ذلك الرابحة منها كشركة “تونس للاتصالات” في عهد بن علي أو شركة “ستيب” بعد خلعه) إلى قطاعها العامّ، إلى ثرواتها الطبيعيّة (إلى جانب مسخرة عدم تجديد عقد شركة استخراج الملح الفرنسيّة، يكفي أن نذكّر بالتفريط في أولوية  “الستاغ” في انتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية لصالح القطاع الخاصّ)، وصولاً إلى التفريط في الحقوق الاجتماعية الدنيا للفئات الفقيرة والمتوسّطة.. أي باختصار التفريط في سيادة البلاد وفي حقوق شعبها وكرامته!

أمام هذا المشهد الكارثي الذي يزداد قتامة كلّ يوم، لا مجال بتقديري للتمسّك بوهم “التغيير عبر الصندوق”. فمن منّا لم يفهم بعد أنّ نتائج الانتخابات (التي تشهد مقاطعة شعبية أوسع كلّ مرّة) لا تتحدّد يوم الاقتراع. بل هي نتيجة لصناعة “رأي عامّ” مُضلَّل عبر خطاب “التخويف من الإرهاب” و”الفراغ والفوضى” و”الانفلات الأمني” و”الانهيار الاقتصادي”… أو “الخشية على النمط الحداثي التونسي” أو “الدفاع عن هويّتنا الحضارية” والخ. … صناعة يجيدها بإتقان “كلاب حراسة” النظام في “بلاتوات” القنوات والإذاعات الخاصّة، التي ينتمي أصحابها لنفس الطبقة التي تحكم البلاد… 

إذن، ما هو المطلوب وما هي حدود الممكن؟

 بتقديري، يُناقش هذا السؤال على مستوَيَين، استراتيجي ومنظور.

بالنسبة للمطلوب في الأمد البعيد (أو استراتيجيًا) فهو بلا شكّ بناء بديل سياسي ثوري حقيقي. وهذا البديل، لأسباب يطول شرحها، غير متوفّر اليوم. وهو مسارٌ يتطلبّ وقتًا وجهدًا كبيريْن، والأهمّ أنّ بناء ما هو استراتيجي يبدأ الآن وهنا.

أمّا المطلوب، والممكن، في الأمد القريب، بل والراهن، فهو يجب أن ينطلق برأيي من الإجابة على السؤال التالي: كيف نوقف نزيف بيع البلاد وشعبها؟ كيف نحول دون أن يستمرّ الانهيار وتتعمّق الكارثة؟ كيف نوقف تقدّم العدوّ ونحن بصدد التراجع تحت ضرباته المتلاحقة؟ كيف نحقّق انتصارات صغيرة نبني عليها انتصارات أكبر مستقبلا؟

جرّب العديد منّا في السنوات الأخيرة العديد من المبادرات التي كان عمادها الشباب المناضل الصادق، وبذلت فيها جهود وتضحيات هائلة. فمن حملة “مانيش مسامح” إلى “الحملة الوطنية لدعم جمنة” إلى حملة “إسناد” إلى “فاش نستنّاو؟” إلى “باسطا – يزّيكم” إلى “اعتصام السيادة” بباردو والخ (هذا دون الحديث عن نضالات المعطّلين والمفروزين أمنيًا والعمّال والقطاعات المهنية  ومناهضي التطبيع ورافضي التمييز الجندري وغيرهم في مختلف جهات البلاد)، كانت الحماسة والاندفاع غامرين في البداية، قبل أن نكتشف أنّنا غير قادرين على الاستمرار لا بسبب قوّة النظام، بل بسبب ضعفنا وقصر نفسنا وخاصّة بسبب عدم قدرتنا على تعبئة الطبقات الشعبيّة – ذات المصلحة الأكبر في اسقاط “السيستام” – معنا. وكذلك بسبب تجزئتنا للقضايا أحيانًا (مثل التركيز المطوّل على قانون بعينه) أو في أحيان أخرى بسبب سقوطنا في ردود الأفعال وعدم تقديمنا لـ”بدائل” واضحة للناس عمّا نحتجّ ضدّه.

ما أقترحه للتفكير والنقاش على كلّ من يهمّه مصير البلاد، وبوجه أخصّ على شُبّان وشابّات اليسار، وعلى كلّ الشباب الوطني المؤمن بقيم الحرّية والعدل والكرامة، هو المبادرة التالية لفرض “الحدّ الأدنى الوطني والاجتماعي”، الذي من دونه لا معنى للحديث عن ديمقراطية وحرّيات عامّة كانت أو فردية:

أن نُطلق مبادرة واسعة، بمعنى الحراك الشعبي، تضمّ جميع أنصار السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعيّة. وأن يمثّل الشباب محرّكها الأساسي وعمودها الفقري. يكون اسمها بمثابة صرخة هادرة تلخّص رفضنا كلّ ما سبق وصفه من انهيار في مختلف المجالات. وأرى أنّ اسم “لسنا للبيع !” هو الأكثر استجابة لهذا المعيار.

والأهمّ من الاسم طبعا هو مضمون المبادرة، مطالبها ووسائل عملها، والأهداف التي ستضعها لنفسها.

أرى أن يكون الهدف/الشعار الرئيسي للمبادرة هو: وقف بيع ثروات البلاد وكرامة شعبها.

 وأن تكون مطالب المبادرة/الحراك الشعبي – وأهدافها في نفس الوقت – فرض ما يلي:

1- وقف سياسة “التقشّف” حيال مؤسّسات القطاع العامّ (تحديدًا الانتدابات والاستثمارات الضرورية في قطاعات الصحّة، التعليم والنقل والخ.)، بما يعني الالتزام بالترفيع في ميزانياتها على حساب ميزانيات أخرى – وخاصّة على حساب تسديد الديون – مع وضع خطط عمليّة لاصلاحها وتطويرها.

2- وقف التوريد العشوائي للكماليات وتجميد تسديد القروض الخارجية.

3- وقف التفاوض على اتفاقية “الأليكا” التي ستقضي نهائيا على الفلاحة وصغار الفلاحين، وعلى صغار التجّار.

4 – الترفيع في الضرائب والأداءات على كبرى الشركات والثروات والمساحات التجارية.

5- الترفيع في الأجر الأدنى المضمون، الصناعي منه والفلاحي.

6- الغاء اتفاقيات انشاء جامعات أجنبية في تونس، ووقف منح الرخص للتعليم الخاصّ.

7- سنّ قانون تجريم التطبيع ورفض تواجد أيّ عسكري أجنبي على أرض البلاد.

(…)

هذه المطالب وغيرها ممّا قد يتفق عليه يجب أن لا ترتبط بانتخابات ما أو بتغيير الحكومة. بل يجب أن تُرفع في وجه كلّ الأحزاب والتشكيلات ويطلب منها الالتزام بتنفيذها. أيْ أنّ هذا الحراك ليس محصورًا بسقف زمني محدّد أو بوصول خصم سياسي بعينه للسلطة. بل يجب أن يتواصل حتى تحقيق أهدافه. وحتى لا تتحوّل هذه الأهداف إلى شعارات فضفاضة صعبة التحقيق، يجدر مزيد التدقيق في صياغة المطالب المقترحة، بما يجعلها قابلة للتحقيق الملموس. وهو ما يسمح لنا بإنجاز انتصارات حقيقية، وإن كانت صغيرة وجزئية، في الواقع.

آليات العمل:

إلى جانب النشاط الدعائي والتثقيفي في المجال الافتراضي وفي المتاح من وسائل الاعلام، يجدر التفكير في أساليب مبدعة جديدة. كما يجب التركيز على التواصل مع الطبقات الشعبية، عبر أنشطة ميدانية في مختلف المدن والجهات المهمّشة والأحياء الشعبية وفي مواقع الانتاج بالمناطق الصناعية والأرياف والخ.  كذلك التفكير في فرضية تنظيم اعتصام جماهيري حاشد أو في مظاهرات أسبوعية كبيرة، وفي مختلف أشكال العصيان المدني. كلّ آليات وأشكال العمل الناجع، طويل النفس، مطروحة للنقاش…

طريقة التسيير:

من البداهة القول أنّ هذه المبادرة لا تهدف لترجيح الكفّة الانتخابية لأيّ طرف سياسي ولا تحتمل التوظيف الحزبي. وعليه فإنّ طريقة تسييرها يجب أن تعكس بحقّ هويّتها كإطار واسع وأفقي للمقاومة الوطنيّة والاجتماعية. وفي كلّ الأحوال، لا يمنع الانخراط فيها المنتمين للأحزاب والمنظّمات من مواصلة العمل بالتوازي على خططهم وبرامجهم.

بإختصار، إنّها دعوة لتجميع الصفوف والتوقّف عن تحرّكات ردّ الفعل دون أهداف واضحة، والعمل على تنظيم المقاومة من أجل قلب المعادلة. إليكم/ـنّ هذه المبادرة المتواضعة للتفكير والتفاعل، وللتجسيد لمن اقتنع بها وأراد/ت لذلك سبيلاً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *