رأيْ | لسنا “قطعة حبل يحملها الوادي”..! نحن “حجر الوادي”..!

بقلم شاهين السّافي

علاقة التونسيّين بالقضيّة الفلسطينيّة تعود إلى العشرينات، أي إلى الفترة التي كانت فيها تونس تحت الاستعمار الفرنسي وفلسطين تحت الاستعمار البريطاني، وهذا كتابٌ للأستاذ عميرة عليّة الصغيّر يحمل عنوان “في التحرّر الاجتماعي والوطني: فصول من تاريخ تونس المعاصر”(1) يتحدّث في أحد فصوله عن التونسيّين والقضيّة الفلسطينيّة (بين 1920 و1948)(2) وقد أورد في هذا الفصل من الكتاب معطيات تاريخيّة مهمّة حول هذا الموضوع وسنحاول في هذا النصّ الوقوف عند بعضها علّ ذلك يُسْهِمُ في تِبْيَان مدى قدامة التصاق التونسيين بفلسطين وقضيّتها، ومدى انسجام مناهضي التطبيع مع تاريخ المقاومة الوطنيّة في بلادهم، فَهُم امتدادٌ لأجيالٍ سابقة جاهرت بالعداء للصهيونيّة وتصدّت لها في تونس بأشكال مختلفة، وقاتلتها في فلسطين أو في بعض دول الطّوق (مصر، سوريّة، الأردن، لبنان) قتال الأبطال وبلا هوادة.

في العشرينات، لم يكن الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة واسع الانتشار في تونس، ولكنّه كان موجودا وقد عبّر جانب من النخب التونسيّة عن ذلك في مقالات عدّة نشرت في الصحف تعلنُ عن الرّفض الصريح للاستعمار البريطاني لفلسطين وتُسَفِّهُ “عهد اللورد بلفور” (وعد بلفور) سيء الذّكر الذي يقضي بأن تكون فلسطين “وطنا قوميّا لليهود”(3)، والملاحظ أنّ التونسيّين تفطّنوا بشكل مبكّر، منذ العشرينات، إلى ضرورة التمييز بين اليهوديّة كعقيدة دينيّة وبين الصهيونيّة كمشروع سياسيّ استعماريّ يوظّف العقيدة الدينيّة(4)، وهذا طبعا لا ينفي وجود من يراها قضيّة دينيّة أساسا، وحال الأمس كما حال اليوم، وما يهمّنا هنا هو التنويه إلى ذلك الوعي المبكّر بالطابع السياسي للصّراع مع الحركة الصهيونيّة الذي يعبّر عن درجة عالية من النضج الفكريّ والسياسيّ لدى جانب من النّخب التونسيّة منذ بدايات التعاطي مع القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة عادلة.

في الثلاثينات، بعد “ثورة البراق” (1929) وما أثارته من انتباهٍ في البلاد العربيّة ثمّ الثورة القسّاميّة (1935) والثورة الفلسطينيّة الكبرى (1936) اللتان “ملأتا الدّنيا وشغلتا النّاس”، صار لدعم القضيّة الفلسطينيّة امتداد أوسع في صفوف التونسيّين من النّخب ومن عامّة الشّعب، كما أنّ الحركة الصهيونيّة في تونس كانت قد اشتدّ عودها وصارت لها هياكلها ومنظماتها وصحفها وقادتها وتحرّكاتها واختراقاتها للحياة العامّة، وهو ما أثار حفيظة التوانسة الذين أدركوا أنها صنيعة الاستعمار وجزء من مشروعه وذراع من أذرعه، فحصلت مشادات ومواجهات عديدة بين شباب المنظمات التونسيّة الوطنيّة وشباب المنظمات الصهيونيّة وأنصارها.

من المفيد الإشارة إلى أنّ الحركة الصهيونيّة فطنت بشكل مبكّر إلى أهميّة الفعل الثقافي في تمرير مشروعها، كما من المفيد الإشارة أيضا إلى أنّ التوانسة كانوا متيقّظين تمام التيقّظ، وقد فطنوا إلى أهميّة ذلك السلاح الخفيّ المرن: “الثقافة” ومدى خطورته في الصّراع ضدّ الصهيونيّة، فلم يتردّدوا في التصدّي لها من هذا الجانب فأشهروا سلاح “المقاطعة” في وجه سلاح “الثقافة الصهيونيّة”، فنظّم التوانسة تحركات احتجاجيّة أجبرت سلطات الاستعمار الفرنسي على إلغاء العديد من الفعاليات الثقافيّة منها محاضرات كان من المزمع أن يقدّمها بعض أساطين الصهيونيّة القادمين من خارج تونس من بينهم القيادي الصهيوني فلاديمير جابتنسكي والداعية الصهيوني هلبارن في سنة 1932، ومُنِعَ أحد القادة الصهاينة (لم يذكر الكاتب اسمه وهو قبطان باخرة قادمة من سالونيك) من تقديم محاضرة بدار “الرابطة الإسرائيليّة” يوم 31 ديسمبر 1937، كما تظاهر التوانسة احتجاجا على عرض شريط “أرض الميعاد” يوم 1 جانفي 1938 في قاعة الكوليزي(5).

لمْ يكتف التوانسة بذلك، فأطلقوا حملة لجمع التبرعات لفائدة فلسطين وثورتها، فجمعوا مبلغا ماليّا محترما في ذلك الوقت وفي تلك الظروف العصيبة في الثلاثينات، ويقدّر بـ 241 ألف فرنك فرنسي(6) وذلك سنة 1937.

في الأربعينات، بعد الحرب العالميّة الثانية، وبعد صدور قرار التقسيم سيّء الذكر، تصاعد النشاط الصهيوني أكثر عبر أذرعه التنظيميّة المختلفة ومن بينها “الحزب الصهيونيّ المراجع الموحّد” بقيادة أندري شمامة الذي تمكّن من جمع أكثر من مليون فرنك فرنسي في ماي 1947 وحوّل المبلغ إلى “الصندوق القومي اليهودي” بفلسطين(7).

تَصَاعُدُ النشاط الصهيوني قابله تصاعدٌ أكبر في النشاط المعادي للصهيونيّة، فنُظّمت الاجتماعات وأُلقيت المحاضرات ونُشرت المقالات ونُفّذت الإضراباتُ سواء في صفوف الطلبة أو التّجّار، وشُنّت حملة مقاطعة تجاريّة لمحلات اليهود وكانت ناجحة. ثمّ فُتِحَ باب التطوّع للقتال في حرب فلسطين في 1948، فتدفّقت جموع المتطوّعين التوانسة من كلّ أرجاء البلاد ومن كلّ الشرائح العمريّة والفئات الاجتماعيّة ولكنّ أغلبهم كان من الشباب ومن عامّة النّاس(8)، ولا يفوتنا أن نذكّر أنّ شاعرا تونسيّا مقاومًا للاستعمار الفرنسي كان شارك ضمن حشود المتطوّعين في حرب فلسطين وكنيته “عم خميّس” (وهو المولدي زليلة) وفي مجموعته الشعريّة اليتيمة المنشورة “بابور زمّر”(9) قصيدتان مؤرختان سنة 1948، ونزعم أنّه كتبهما والبندقيّة في يدٍ والقلم في اليد الأخرى(10).

لا نسمح لأنفسنا أن نقدّم دروسا في التاريخ، ثمّ نحن لسنا من أهل اختصاص، وما نقلناه هو قولٌ لبعض أهله وقد ارتأينا أن ننقله حتّى نُذكّر بعض المثقفين “المتثاقفين” التوانسة -المطبعين منهم والمطبّعين منهم مع التطبيع تطبيلا- أنّ لنا جَدّا في تاريخ تونس المعاصر، وأنّ لهم جَدّا كذلك ضمن هذا التاريخ، ولكن من تراه يكون جدّنا ومن تراه يكون جدّهم؟ جدّنا هو “حجر الوادي”، وجدّهم “قطعة حبل يحملها الوادي”.

أردنا أيضا أنْ نبيّن لبعض “الأشقّاء”، العرب منهم وغير العرب من شركائنا في الوطن، الذين أدلوا بدلوهم مؤخرا في موضوع التطبيع في تونس، أردنا أن نبيّن لهم أنّه من الأجدى التريّث والتسلّح بالمعرفة بتاريخ تونس قبل إصدار أحكامٍ عن الحالة الثقافيّة التونسيّة وحركاتها، ونحن لا نسمح لأنفسنا أن نمنع أحدا من الخوض في أي موضوع يريده بخصوصنا، لا نفعل ذلك ونحن نعلم أنّ هذا ما يفعله البعض في البلاد العربيّة، من العرب وغيرهم، تحت يافطة “هذا شأن داخليّ”، فـ”تونسيّتُنَا” (notre tunisienté) تمنعنا من فعل ذلك مثلهم، فكلّ حرّ فيما يقول وما يكتبُ ولو كان عنّا ولو كان بلا معرفة، ولكن فليسمحوا لنا أن نضع قولهم على محكّ السؤال وأن نتفاعل معهم طالما أن هذا القول يخصّنا، ذلك أنّه قول جاء خلوا من الدّقّة وهو من بنات “السّماع” لا من بنات “الاطلاع”.

انتصار تونس للقضيّة الفلسطينيّة ومعاداة التوانسة للصهيونيّة كانا سابقين لحكم صدام حسين وآل الأسد في العراق وسوريّة، وقبل ثورة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952، وقبل الإعلان عن قيام ذلك الكيان الغاصب بثلاثة عقود، وقبل ظهور مفهوم التطبيع بحوالي نصف قرنٍ، ونحن استمرار لهؤلاء التّوانسة الذين سبقونا في هذا الكفاح ضدّ الصهيونيّة وكيانها، فلا نحتاج إلى أن نكون “بعثيين” أو “ناصريين” –كما سمعتم وما اطّلعتم- حتّى ننتصر لفلسطين ولقضيّتها ونكون على ذمّة ثورتها.


_____الهوامش______ 

1- (الصغيّر) عميرة عليّة، في التحرّر الاجتماعي والوطني: فصول من تاريخ تونس المعاصر، المغاربيّة للطباعة وإشهار الكتاب، تونس، ط1، 2010.

2- الفصل الأول من الباب الثاني: في التحرّر الوطني، ص159.

3- نفسه، ص160

4- نفسه، ص161

5- نفسه، ص164

6- نفسه، ص166

7- نفسه، ص171

8- نفسه، من ص172 إلى ص176

9- عم خميس، بابور زمّر، دار رسم للنشر، تونس، ط1، 1982. نشير إلى أنّ الأغنية المعروفة التي تحمل نفس الاسم والتي غنّاها الراحل الهادي قلّة هي من شعر الراحل عم خميّس.

10- كنا تناولنا هذا الموضوع بأكثر تفاصيل في كتابنا “عم خميّس: شاعر الغلبة ومولى العركة المرّة”، دار صامد للنشر والتوزيع، صفاقس-تونس، ط1، 2017.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !