ديموغرافيا الحرب في فلسطين: حين يكون “الميلاد” آلية مقاومة في وجه “الميعاد”

بقلم منذر سوودي
باحث في علم السكّان

استيطان، استعمار، تهجير، قتلى… هذه المفردات وغيرها كانت ولا زالت الأكثر تردّدا على مسامعنا طوال حرب التحرير الفلسطينية، ولا نقصد بـ”حرب التحرير” الجولة الّتي انطلقت مع العملية النوعية للمقاومة يوم السابع من أكتوبر 2023، بل المسار التاريخي للصراع منذ احتلال فلسطين، فقد سمع من سبقونا هذه الكلمات في الراديوهات وقرؤوها في في الصحف منذ فترة الاستعمار البريطاني وما شهدته من تطبيق لوعد بلفور البريطاني بتأسيس دولة قومية يهودية على الأراضي الفلسطينية.

ما تختلف فيه هذه الحرب عن باقي حروب الاستعمار، كتلك التي عرفتها القارة الافريقية، هو أن الاحتلال هذه المرة ليس قادما من دولة توسّعية بعينها بهدف بسط نفوذها العسكري، ومن خلاله الاقتصادي، على مقوّمات شعب آخر وحيث تكون نهايته -الاحتلال- بتقهقر القوات الاستعمارية وعودتها إلى حدودها الأصلية. بل نحن إزاء استحداث كيان هجين لا أصل جغرافي محدد له. يشهد هذا الكيان منذ سنوات محاولات لبناء مقومات الدّولة، بما في ذلك الشّعب، أي أنّنا نعايش مشروع استبدال للسكان القاطنين في الأراضي المتعرّضة للغزو بكتلة سكانية مستحدثة.

إن المفردات التي ذكرناها في البداية تشترك في معناها الجوهري المرتبط بحركيّة السكّان داخل رقعة جغرافية معينة، وهو ما يحيلنا إلى دراسة هذه الديناميكيات على مدى سنوات بما يمكنّنا من استشراف ما يمكن أن يكون عليه الحال في المستقبل بناءً على المعطيات المتوفرة.

يجب علينا، قبل دراسة أي ديناميكية سكانية، أن نحدّد بدقّة الرّقعة الجغرافية التي تشهد هذه الديناميكية. وفي هذه المقال نقصد بـ”فلسطين”، أو “الأراضي الفلسطينية”، أو “فلسطين التاريخية”، كامل الأراضي التي وقع احتلالها وتحديدها من قبل الانتداب البريطاني سنة 1920، والّتي تشمل كل ما يعرف اليوم بقطاع غزة المحاصر والضفة الغربية، الخاضعة نظريًّا للإدارة الذاتية من قبل السلطة الفلسطينية والقابعة واقعيا تحت إشراف سلطات الاحتلال، بالإضافة إلى الأراضي المحتلة والخاضعة مباشرةً لسلطات الاحتلال منذ 1948. نشير أيضًا إلى أن عبارة “المستوطنين” نقصد بها كلّ سكان الكيان الصهيوني الغريبين عن الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك أجيالهم التي أنجبوها لاحقًا على هذه الأرض.

لمحة تاريخية عن التركيبة السكانية لفلسطين قبل الانتداب البريطاني

قُبيْل الانتداب البريطاني، وتحديدا في سنة 1914، كان يقطن بالأراضي الفلسطينية في حدود الـ800 ألف ساكن، يضمّ هذا العدد أقليّتين دينيتين رئيسيتين إلى جانب الأغلبية المسلمة؛ واحدة يهودية وأخرى مسيحية، حيث مثّل اليهود في فلسطين حينها 7.5% من إجمالي عدد القاطنين (حوالي الـ60 ألفًا)، ممثلين بذلك الكتلة الدينية الثالثة. الكتلة السكانية الدينية الثانية كاننت ممثّلةً في المسيحيين بعدد يتجاوز الـ81 ألف ساكن أي بنسبة 10.1 % في حين كانت الأغلبية المسلمة تعدّ حوالي 657 ألفًا بنسبة 82.4% [1].

إن تغيّر تركيبة مجموعة بشرية في رقعة جغرافية ما بين تاريخين محدّدين هو نتاج ثلاث عوامل رئيسية: الولادات والوفيات والهجرة، لذلك سنسعى إلى تفصيلها كُلٌ على حِدة وفهم خصائصها بهدف الحصول على تصورات لما قد تدفع نحوه هذه العوامل في السنوات القادمة.

الهجرة

لقد شهدت الأراضي الفلسطينية منذ مطلع القرن العشرين مسارين للهجرة، يتمثّل الأول في توطين سكّان غرِيبين عن تلك الأراضي، يقابلها مسار ثاني يتجسّد في تهجير السكان الأصليين القاطنين بها.

في ما يتعلّق بالهجرة الوافدة للمستوطنين ورغم ما عرفته تلك الأراضي من موجات هجرة حتى أواخر القرن التاسع عشر، قبل الانتداب البريطاني وقبل وعد بلفور -الغطاء السياسي الرّسمي لمشروع الحركة الصهيونية الاستيطانية- ، إلّا أن ذلك لم يكن عاملا محدّدا في تغيّر جذريّ للتركيبة السكانية في المنطقة، ويعود ذلك لسببين: أولهما كيفي: إذ أن هذه الهجرات لم تكن منظمة ومدعومة بالقدر الكافي كما هو الحال في النصف الأول من القرن العشرين؛ وثانيهما كمّي: حيث لم تكن أرقام المهاجرين مرتفعة بما قد يُحدث فارقًا ملموسًا.

مع حلول الانتداب البريطاني شهدت الأراضي الفلسطينية وتيرة متسارعة في استقدام المستوطنين من عدة مناطق في العالم، على رأسها القارة الأوروبية، أين عايش اليهود عديد موجات عنصرية عرفت أوجها خلال الحرب العالمية الثانية من قبل النظام الألماني. وقد نشطت الحركة الصهيونية في هذا المجال بدعم من بريطانيا وتحت غلاف ديني يدّعي ضرورة “عودة” اليهود من كل أصقاع العالم إلى “أرض الميعاد”. وتمكّنت بذلك من رفع عدد المستوطنين بالأراضي الفلسطينية إلى أكثر من 600 ألف إلى حدود خروج الانتداب البريطاني، وهو ما جعلهم يمثّلون نسبة ثلث المقيمين على هذه الأراضي[2].

وتواصلت حملة الهجرة هذه إلى ما بعد الانتداب البريطاني وإعلان قيام الكيان الصهيوني، حيث وصل بين سنتي 1948 و1978 ما يقارب المليون ونصف مستوطن. لكن هذا الرّقم قد حمل في تفصيلاته انحدارا جليًّا، فبعد أن شهدت السنة الأولى لقيام الكيان 203 آلاف وافدا، انخفض العدد إلى ما بين الـ20 ألف و35 ألف سنويا خلال الفترة ما بين 1975 و،1978، ليستقر العدد على نفس المعدل تقريبا في أغلب السنوات اللاحقة إلى حدود سنة 2023 رغم تسجيل استثناءات خلال بعض السنوات التي عرفت أحداثا هامة متعلقة أساسًا بسيرورة الحرب.

بالتوازي مع هذه الهجرة الوافدة، عايش الفلسطينيون في المقابل حملات تهجير واسعة أجبرتهم على مغادرة أراضيهم قسرا نحو مخيّمات الشتات في سواءًا في الداخل أو في دول الجوار (الأردن ولبنان وسوريا) بالإضافة إلى عدة وجهات أخرى من باقي دول العالم. حيث تم تهجير ما يقارب الـ711 ألف فلسطيني خلال سنة 1948[3]، ثم خلال حرب 1967 وقع تهجير ما بين 280 ألفا و325 ألفا إلى خارج الأراضي التي وقعت تحت احتلال الكيان.

الوفيات

تعتبر الحرب وجولاتها المتكررة منذ بداية الاحتلال الصهيوني سببا رئيسيا في إرتفاع نسبي لنسق الوفيات خلال حيّز زمني قصير ومحدّد، حيث أشارت أرقام أصدرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني سنة 2021 بمناسبة الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة، أن عدد الشّهداء الفلسطينيين منذ النكبة قد بلغ المائة ألف شهيد في الداخل والخارج[4]، ويجب الإشارة إلى أن هذه الأرقام طبعا لا تشمل عدد الشهداء في جولة الحرب التي انطلقت في 7 أكتوبر 2023، فإلى حدود كتابة هذا المقال بلغ عدد الشهداء 27 ألف شهيدا، وهي الحصيلة الأكبر منذ النكبة.

رغم فظاعة ما سبق، إلّا أنه حين نقوم بمقارنة معدل الوفيات لكل ألف نسمة، نجد أن النسبة تبلغ 6.1 لدى المستوطنين، مقابل 2.9 لدى العرب المقيمين على الأراضي الفلسطينية المحتلة حسب الأرقام الرّسمية للكيان الصهيوني الصادرة بسنة 2022[5]، ونفس المعدل لا يتجاوز الـ4 في كل من غزة والضفة الغربية وفقا للأرقام المتوفّرة سنة 2020 لدى الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني[6]. أي أن الفلسطينيين يسجلون معدل وفيات منخفضا مقارنة بالبقية في كامل الأراضي الفلسطينية.

ويمكن تفسير ذلك بإختلاف الهرم العمري بين الفلسطينيين والمستوطنين، حيث تتوزع أعمار الفلسطينيين المقيمين بكل من قطاع غزة والضفة الغربية على النحو التالي: 39% أقل من 14 سنة، 58% بين 15 و64 سنة و3% أكبر من 65 سنة. في حين ينقسم المستوطنين إلى:28% أقل من 14 سنة، 60% بين 15 و64 سنة و12% أكبر من 65 سنة[7]. أي أن السكان المستوطنين يتّسمون بتهرّم ملاحظ مقارنة بشبابية السكان الفلسطينيين.

الولادات

في ما يتعلّق بمعدل الخصوبة تعتبر النسبة متقاربة بين المستوطنين والفلسطينيين القاطنين بالأراضي المحتلة حيث استقر الرّقم خلال السنوات الأخير في حوالي الثلاث أطفال للمرأة الواحدة وفقا للإحصائيات الرسمية للكيان. أما في كل من قطاع غزة والضفة الغربية فيبقى المعدل أكبر من ذلك رغم تراجعه الملحوظ، إذ سجّل بين سنتي 2017 و 2019 معدل 3.8 طفل للمرأة الواحدة بالضفّة الغربية و3.9 في قطاع غزة[8]، و للإشارة فإن هذا الرّقم كان في حوالي الـ7 مع مطلع التسعينيات.

بالنّسبة لمعدل الولادات، والذي يتم احتسابه بعدد حالات الولادة لكل ألف نسمة، يتفوق فلسطينيو الأراضي المحتلة بفارق ملحوظ. إذ أن المعدل بلغ 23 حالة ولادة لكل ألف نسمة سنة 2022 مقابل 18 حالة لدى المستوطنين. أما بالنسبة للضفة الغربية فقد بلغ المعدل خلال سنة 2023 الـ26.6 ولادة وتجاوزه قطاع غزة بمعدل 32[9].

وينعكس ميزانا الولادات والوفيات على التطور الطبيعي للسكان في المستقبل (غير الشامل لحركة الهجرة) فنجد أن هذه النسبة لا تتجاوز الـ1.3% لدى السكان المستوطنين خلال سنة 2022 في حين يتزايد السكان الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة بمعدل 2%. وحسب الأرقام الرسمية الفلسطينية، بلغ المعدل سنة 2023 الـ2.1% في الضفة الغربية والـ2.7% في قطاع غزة المحاصر[10]. ويعني ذلك أن التطور العددي الطبيعي في كامل الأراضي الفلسطينية يصب في مصلحة الفلسطينيين. وهو ما يفسّر مواصلة إصرار سلطات الاحتلال على الترويج والسعي لمشاريع ترتكز أساسا على التهجير، كما هو الحال إثر اندلاع الجولة الأخيرة فجر 7 أكتوبر 2023 وما سُوّق له من إمكانية تخصيص منطقة في شبه جزيرة سيناء المصرية لاستقبال سكان قطاع غزة، أو إنشاء جزيرة اصطناعية على سواحل فلسطين لنفس الغاية.

التركيبة السكانية في السنوات الأخيرة

نخلص هنا إلى أنّه، وفقا لنفس المصادر، بلغت حصيلة السكان خلال سنة 2022 في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 حوالي الـ9 ملايين و 600 ألف ساكن، يمثّل الفلسطينيون نسبة 18% منهم (أكثر من مليون و700 ألف) ويمثل المستوطنون نسبة 74% (حوالي 7 ملايين نسمة)[11]، أمّا في في قطاع غزة والضفة الغربية فيبلغ عدد الفلسطينيين 5 مليون و350 ألف نسمة. أي أن العدد متساو تقريبا بين الفلسطينيين والمستوطنين المقيمين على كامل أراضي فلسطين التاريخية. لكن يجب أن لا نتناسى الفلسطينيين المهجّرين خارج تلك الأراضي، والذي يبلغ عددهم الـ7 مليون و400 ألف موزعين بين 6 ملايين و600 ألف بالدول العربية و800 ألف بباقي دول العالم. وبالتالي يناهز العدد الإجمالي للفلسطينيين 14 مليون و300 ألف نسمة موزّعين بين المهجر وفلسطين[12]، مقابل السبعة ملايين مستوطن كما ذكرنا سابقًا.

من خلال كل ما سبق يمكن أن نحدّد نقاط القوّة ونقاط الضّعف لدى كل من الفلسطينيين والمستوطنين. إذ تعتبر الهجرة الصهيونية الوافدة العامل الرئيسي والآلية الأساسية للكيان الصهيوني بهدف بناء شعب استيطاني على الأراضي الفلسطينية التي تَمكّن من احتلالها وتهجير وطرد سكانها الأصليين خارج فلسطين، وقد عرف عامل الهجرة نسقا تنازليا منذ سنة الـ1948. في المقابل، تعتبر معدلات الولادات المرتفعة آلية المقاومة الديموغرافية الرئيسية لدى الفلسطينيين من أجل التشبث بالأرض وضمان البقاء عليها وتعميرها، وهو ما مكّن ومازال يمكّن من تعديل الكفة وصدّ المشروع الصهيوني وما يقف وراءه منذ عقود من تمويلات ودعم عسكري وغطاء دولي من قبل الدول الغربية وحلفائها في المنطقة.

التغيير الذي حمله السابع من أكتوبر

تسوقنا هذه القراءة إلى التّفكير جليّا في أهميّة ما قد يحدثه تحوّل عامل الهجرة، السلاح الديموغرافي الأساسي لدى الكيان الصهيوني، إذا ما صبّ في مصلحة أصحاب الأرض، وهو ما تمكّنت المقاومة من تحقيقه فعليًّا على أرض الواقع منذ إنطلاق هذه الجولة الأخيرة للحرب، حيث غادر نحو النصف مليون صهيوني الأراضي الفلسطينية المحتلة في الفترة الممتدة من السابع من أكتوبر إلى نهاية نوفمبر 2023، أي خلال الشهرين الأولين فقط[13]. وحين نتحدث عن تغيّرات في عامل الهجرة يجب، أيضًا، أن لا يغيب عن أذهاننا حق عودة الفلسطينيين المهجّرين في الشّتات والذي لازال النضال من أجله متواصل على عديد الأصعدة.

في النّهاية، تجدر الإشارة إلى أنه ورغم الدور المهم والمحوري للأرقام في تحليل ديناميكيات السكان وفهم الواقع واستشراف ما قد يكون عليه المستقبل، فإنها يجب أن لا تحجب عنا الواقع الإنساني التي تعكسه تلك الديناميكيات، فكل ضحية، أزهقت روحها دون وجه حق، تحمل معها حكاية وطن أستبيح من قبل القوى الاستعمارية و لا يمكن أن تختزل كمجرد رقم في سجلّات الموتى. كذلك ليس المهجّر الفلسطيني بحالة تنقل طواعية بين رقعتين جغرافيتين، إنما هو كالغصن الذي انتزع غصبًا من أرضه، ليبقى يقاوم بكل ما حمله منها من ذكرياته مرفوقًا بأمل العودة إليها والانغراس في ترابها مجدّدًا، أمل لا ينطفئ أبدًا ويُتوارث من جيل إلى جيل. وكل ولادةً جديدة لرضيع فلسطيني هي ولادة إنسان سُطّر قدره مسبقًا قبل أن يفتح عينيه على هذه الحياة وكُتب عليه أن يكون حالة مقاومة ولو اكتفى بميلاده على هذه الأرض، أرض الميلاد.

تدقيق لغوي: الطيّب هنشير


[1] McCarthy, Justin (1990). The Population of Palestine: Population History and Statistics of the Late Ottoman Period and the Mandate. Columbia University Press, 1990, p. 26.

[2] المصدر السابق.

[3]  The United Nations Conciliation Commission for Palestine, General progress report and Supplementary report, Supplementary No. 18 (A/1367/Rev.1-EN), New York, 1951, p24.

[4] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، الموقع الرّسمي، بلاغ صحفي صادر بتاريخ 2022-5-15

[5] Israel Central Bureau of Statistics, “Marriages, Divorces, Live Births, Deaths, Natural increase,

Infant deaths and Stillbirths, by religion”, Statistical Abstract of Israel 2023 – 2.29, p6-7.

[6] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، الموقع الرّسمي، المؤشرات الديموغرافية.

[7] البنك الدولي، الموقع الرسمي، إحصائيات الهرم العمري، 0-14 سنة، 15-64 سنة، أكبر من 65 سنة.

[8] المصدر مذكور سابقا.

[9] المصدر مذكور سابقًا.

[10] المصدر مذكور سابقًا.

[11] المصدر مذكور سابقًا.

[12] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، “الفلسطينيون في نهاية عام 2022“، فلسطين، 2023، ص21.

[13] صادر بموقع وكالة الأناضول بتاريخ 8 ديسمبر 2023، نقلا عن مقال بمجلة Zman الصهيونية.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !