افتتاحية | كي لا تحجب أزمة المخابز غير المصنفة قضية السيادة الغذائية

شهدت الدولة التونسية في الفترة الأخيرة أزمة في مادّة الخبز وأصبحت مشاهد الطوابير أمام المخابز مألوفة لدى الجميع. وصار حتى من الضروري  أن نقف في طوابير طويلة للحصول على حصّة من الرغيف أو  لمن لا يستطيع ذلك الذهاب باكرا إلى المخبزة قبل التوجه للعمل. وصلت الأزمة إذن إلى مستوى لم يعد بعده ممكنا الاكتفاء بالتعلل بالحرب الروسية الأوكرانية أو التغييرات المناخية أو حالة الجفاف التي شهدناها في الشتاء والربيع الماضيين.

كالعادة، بدأت رحلة البحث عن المتسببين في هذه الأزمة بين المحتكرين والمضاربين، و كأنّ الأمور على ما يرام إلاّ أنّ بعض الأفراد أو المجموعات تسبّبت في هذه الأزمة التي شملت جميع أنحاء البلاد. وسيكفي القضاء على هؤلاء لتعود المياه إلى مجاريها. وقد تمّ الاختيار هذه المرّة على المخابز الغير مصنفة، وهي عمليا في أغلبها محلات صنع وبيع حلويات تستغل جزءا من الفارينة التي تزوّدها بها الدولة لصنع الخبز وبيعه بأسعار مرتفعة، مع العلم أنّ هذا الأمر يجري بموافقة (صريحة أو ضمنية) من الدولة حسب السيّد الصادق حبوبي، عضو الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز ([1]). حيث أنّ هذا الأخير أكّد في حوار له أنّ الدولة اقتطعت جزءا من الفارينة الموجهة للمخابز المصنّفة لفائدة تلك المخابز الغير مصنفة انطلاقا من سنة 2011. وعليه، قرّرت وزارة التجارة إيقاف تزويد المخابز الغير مصنفة بمادتي الفرينة والسميد.

فلنتفق أوّلا أنّ هذا القرار هو من قبيل إعادة المياه إلى مجاريها ولا يمكن إلاّ أن نرحّب به. فلا يمكن أن يتواصل مثل هذا العبث بقطع النظر عن بنود الصفقة بين الدولة وأصحاب هاته المحلات والتي سمحت بتزويدهم بالفارينة المدعّمة (هل كانت لتشجيع التشغيل؟ هل أتت في إطار الانتشار التدريجي لمثل هذه المخابز لتحلّ محلّ المخابز المصنفة و نكون بذلك قمنا تدريجيا بتحرير سعر الخبز؟). إلاّ أنّ هذا لا يمكن أن يحجب أنّ أزمة الخبز أعمق بكثير من أن تُحلّ بتحويل وجهة الفارينة والسميد التي تستغلها تلك المحلاّت نحو المخابز المصنّفة: فالمخابز الغير المصنفة كانت كذلك تصنع الخبز وكان تلبّي الطلب عليه. ولمّا حلّت الأزمة أتت على الجميع.

فلنتأمل الوضعية في سياقها العام: حرب روسية أكرانية ساهمت في ترفيع الأسعار على الأسواق العالمية. صابة حبوب هزيلة هذه السنة حيث لم يتمّ جمع إلاّ مليوني و256 ألف قنطار من الحبوب حتى تاريخ 9 جويلية 2023 (مقابل 6 ملايين و680 ألف قنطار في نفس الفترة لسنة 2022). سياسة تقشف ترهق ميزانية ديوان الحبوب، حيث ارتفعت مديونية الدولة تجاه ديوان الحبوب إلى 2293 مليون دينار في موفى 2021 (أي ما يعادل مبلغ ستة أشهر توريد للحبوب)…  كما أنّ الدولة لم تستورد -عبر ديوان الحبوب- كميات إضافية من الحبوب لتلافي أزمة الصابة الهزيلة، حيث بلغت الكميات المورّدة من الحبوب خلال الستة أشهر الأولى من هذه السنة 20,73 مليون قنطار مقابل 19,44 مليون قنطار في الستة أشهر الأولى من 2022 و21,302 مليون قنطار لنفس الفترة من 2021 (رغم أن صابة 2021 بلغت ثلاث أضعاف صابة هذه السنة)… هذا دون أن ننسى ما يخبرنا تقرير النتائج الوقتية لتنفيذ الميزانية إلى موفى مارس 2023 الذي يشير أنّه لم يتمّ صرف سوى 43 مليون دينار من جملة 2523 مليون دينار مبرمجة في قانون المالية لسنة 2023 لدعم المواد الأساسية، أي لم تنفق الدولة في ثلاثة أشهر سوى 1,7% من جميع النفقات المبرمجة لدعم المواد الأساسية لسنة 2023…

ما تقوله لنا الأرقام هو أن الأزمة اليوم هي بالأساس أزمة توفر الكميات اللازمة من الحبوب لتلبية حاجيات الناس من الخبز. أزمة يمكن أن نرجعها إلى التغيرات المناخية أو للحرب الروسية الأوكرانية. لكن هذا لا يكفي مثلا لتقسير المساحات الهزيلة التي خُصّصت للحبوب في هذا الموسم وهي أقل من مليون هكتار، بينما كانت المساحات المزروعة قمحا تصل إلى مليوني هكتار في الثمانينات. ولا تفسر لنا كيف أنّ المخابز المصنفة لم تحصل على مستحقاتها من الدعم منذ 15 شهرا، ممّا دفع الكثير منها إلى الإفلاس والغلق (لتعوّضها المخابز الغير مصنفة؟). لكن ما يفسّر ذلك بالتأكيد هي سياسة التقشف العنيفة التي تمارسها الدولة بالخصوص منذ بروز وزيرة المالية الحالية على الساحة وإمساكها الظاهر بزمام الأمور.

ما الذي يمنعنا اليوم من أن تعود مساحات القمح المزروعة مثلما كانت عليه في السابق؟ الإجابة بسيطة و بسيطة جدّا: تحديد سعر شراء محترم للحبوب منذ بداية الموسم، يشجع الفلاحة على الإقدام على شراء الحبوب والأسمدة وإصلاح معدّاتهم و على زرع أكبر مساحات ممكنة من الحبوب. وتجاوز المهزلة الحاصلة منذ الموسم الماضي يتحديد سعر شراء للقمح الصلب (130 دينار للقنطار) معادل لسعر شراء القمح اللين على الأسواق العالمية. ومهزلة هذه السنة بترفيع سعر الشراء هذا ب10 دنانير، أي بنسبة 7,6%، نسبة أقل بكثير من نسبة التضخم التي تجاوزت 10% في السنة الأخيرة. يقولون أن ميزانية الدولة لا يمكن أن تسمح بأكثر من ذلك ووجب التقشف في المصاريف، لكنهم يتناسوون أن ما يفعلونه هو تحويل هذه الكلفة على عاتق ديوان الحبوب الذي سيجبر على الاقتراض بالعملة الصعبة لشراء كميات الحبوب اللازمة. ما لم يفهمه هؤلاء أن التقشف بقيمة دينار بالعملة المحلية يكلّفنا أكثر من ذلك بكثير بالعملة الصعبة، وتضطرّ الدولة للاقتراض الخارجي والارتهان لصندوق النقد الدولي أو الاتحاد الأوروبي مقابل تلك القروض…

في كلمة: أزمة الخبز ليست أزمة مخابز غير مصنّفة أو محتكرين أو مضاربين. أزمة الخبز هي أزمة سيادة غذائية، أزمة تتعمّق كلّما تعمّقت سياسة التقشف في البلاد. لا يمكن أن نحقق اكتفاءنا الذاتي في القمح والحكومة ووزارة المالية بالتحديد تمارس أبشع أساليب التنكيل بالفلاّحين\ات بحرمانهم من الحدّ الأدنى من الأمان المعيشي وتاركة مصير غذائنا بين أيادي السوق العالمية. سوق عالمية نزيّن طاولاتها بالفراولة والكيوي والقوارص والتمور وزيت الزيتون ونُجبر على التضحية بفلاّحينا وأراضينا ومواردنا المائية من أجلها، لكنّها لا تضمن لنا الحدّ الأدنى من الحبوب لغذائنا اليومي.  توجيه أصابع الاتهام إلى هذا أو ذاك من المتعاملين المحليّين لا يمكن إلاّ أن يُفهم أنّه تملّص من المسؤولية وهروب إلى الأمام بسياسات التقشف والوصول في نهاية المطاف إلى الرفع الكلي للدعم والقضاء على المربع الأخير من الفلاحين\ات المتشبثين\ات بأراضيهم وبزراعة الحبوب… حتى وإن أعلن رأس السلطة عكس ذلك…


[1] حوار في آكسبراس آف آم بتاريخ 8 أوت 2023.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !