سمير أمين – المسألة الزراعية قرنا بعد ثورة 1917: فلاحة رأسمالية وفلاحات في الرأسمالية (ج 2)

هيثم صميدة قاسمي
باحث في السياسات الزراعية

مراجعة

سمير أمين المسألة الزراعية قرنا بعد ثورة 1917: فلاحة رأسمالية وفلاحات في الرأسمالية1

(الجزء الثاني)

تناول الجزء الأول من المقال مسائل تمهيدية تصف وتحلّل وضع القطاع الفلاحي في عالمنا المعاصر وذلك عبر مقارنة أنماط الفلاحة في بلدان مركز رأس المال العالمي وأطرافه. خلص بذلك سمير أمين إلى النقاط التالية:

  • البوْن الشاسع بين الفلاحة العائلية في الشمال والزراعة الفَلّاحية في الجنوب.
  • استحالة إمكانية إعادة تطبيق النموذج الرأسمالي التاريخي على الفلاحة في الجنوب بل وخطر هذه المقاربة على نصف البشرية.
  • الحفاظ على نمط الإنتاج الفَلّاحي في الجنوب لتكسير منطق الإنتاج الرأسمالي والتحوّل المرحلي نحو الاشتراكية العالمية.
  • اعتماد السيادة الغذائية كمنهاج.

في الجزء الثاني، ينتقل أمين إلى مسائل ملموسة أكثر في سبيل تحقيق المسألة الزراعية، فتطرّق أولا إلى أنظمة حيازة الأراضي ثمّ اهتمّ بمسارات الإصلاح الزراعي قبل أن يُنهيَ هذا المانيفستو بمسألة التنظيم والتنظّم.

إصلاح أنظمة حيازة الأراضي

يعتبر سمير أمين إصلاح أنظمة حيازة الأراضي أهمّ معطى عند التطرق إلى الخيارات المتعلقة بمستقبل المجتمعات الفلّاحية. يشير هنا إلى وجوب أن يكون هذا الإصلاح داخل منظور تنموي يعود بالنفع على المجتمع برمّته، وخاصة الطبقات الشغيلة والشعبية وعلى رأسها الطبقات الفلّاحية. ويرتكز هذا المنظور التنموي على التوجه نحو التقليل من التفاوت والقضاء جذريا على الفقر وذلك من خلال الشروط التالية:

  • تقييد المؤسسات الخاصة من خلال التخطيط العمومي.
  • دمقرطة التصرف في السوق وفي الدولة.
  • اعتماد نظام فلاحي قائم على الزراعة الفَلّاحية (peasant agriculture).

يعتبر أمين هذه النقاط مبادئ أساسية لبناء البديل على المستوى الوطني الذي يبقى بدوره في حاجة إلى التطور نحو أبعاد إقليمية وعالمية. وذلك من خلال الدفع نحو عولمة بديلة مبنيّة على المفاوضات لا على القرارات أحادية الجانب المفروضة من قبل رأس المال العابر للأوطان وإمبريالية “الثالوث” (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.

يلخّص أمين قضية إصلاح حيازة الأراضي في مبادئ أساسية:

  • حق الفلّاحة في استغلال الأرض من خلال مقاربة “تُجمّع ولا تُقصي” كشرط من أجل إعادة إنتاج “المجتمع الفلّاحي”.
  • اعتماد سياسات تساعد الوحدات الفلّاحية العائلية على الإنتاج في ظروف تضمن نموّ الإنتاج الوطني (أي ضمان السيادة الغذائية الوطنية) وتحسّن في نفس الوقت المداخيل الحقيقية للفلّاحة في المجمل.
  • مرافقة هذه السياسات بمفاوضات حول التنظيم الدولي للتجارة.

يُشدّد سمير أمين على أهمية تنظيم الحق في النفاذ إلى الأرض بناءً على وضعية المِلكية. يتناول إذن في ما يلي أنواع حيازة الأراضي: تلك التي ترتكز على المِلكية الخاصة والأخرى التي لا تعتمد على المِلكية الخاصة.

أنظمة حيازة الأرض المبنية على الملكية الخاصة

يبيّن سمير أمين في هذا الجزء تهافت خرافتيْن تردّدهما الإيديولوجيا “الليبرالية”. أُولاهما تَشي بعقدة غربية تدّعي “الاستمرارية الحضارية الأوروبية” وثانيهما تمثّل خطرا على اقتصاد دول أطراف رأس المال.

يرى سمير أمين أن أنظمة حيازة الأرض المرتكزة على الملكية الخاصة تنتمي إلى الحقبة الحديثة من التاريخ البشري، وهي ثمرة بناء “الرأسمالية القائمة بالفعل” التي انطلقت من أوروبا الغربية (انقلترا أوّلًا) وامتدت إلى المستعمرات الأوروبية في الأمريكيّتين.

بدأ الانتقال إلى نمط الملكية الخاصة للأرض حين تم الشروع في تطبيق سياسات التطويق (enclosure) في انقلترا، والتي تمثلت في التسييج الفعلي للأراضي التي يتشارك في النفاذ إليها واستعمالها سكان منطقة ما وخوصصتها بقوة القانون والسلاح2. تسبّبت هذه السياسات في إقصاء الفلّاحة عن الأرض، أي فصلهم عن وسيلة إنتاج كفافهم وتحويلهم إلى عمال مأجورين في مصانع المدينة أو في حقول كبار المُلّاك، ومثلت هذه العملية اللبنات الأولى للثورة الصناعية من خلال ما يُسمّى “التراكم الأولي لرأس المال”3.

يجادل الإيديولوجيون الليبراليون بأنّ نظام الملِكية الخاصة هو تواصل لنظام المِلكية الروماني والذي ينقسم إلى ثلاثة عناصر وهي الحق في استخدام الأرض (usus) وتملّك منتوجات الأرض (fructus) والحق في تحويل الملكية (abusus)، وفي ذلك محاولة لترسيخ فكرة أن النظام الرأسمالي نظام طبيعي ومستمر في التاريخ. لكن هذه النظرة تتناسى أنّ نمط الإنتاج خلال الإمبراطورية الرومانية كان يطغى عليه الطابع العُبودي من جهة، وأنّ قوانين المِلكية الرومانية قد تم إلغاؤها طوال الحقبة الإقطاعية التي مرّت بها أوروبا الغربية إثر انهيار الامبراطورية، من جهة أخرى.

أمّا الخرافة الرأسمالية الثانية فتقول بأن المِلكية الخاصة لوسائل الإنتاج تمثل “عقلانية مطلقة وراقية”، حيث أنّ “السوق” تضمن الإستعمال الأفضل والأكثر كفاءة لعوامل الإنتاج. وبما أن الأرض وسيلة الإنتاج الأولى للنشاط الفلاحي، فإنها تصبح بالتالي سلعة كغيرها من السلع تُباع وتُشتَرى بثمن “السوق” لضمان أفضل إستعمال من قبل المنتجين والمجتمع برمّته.

أصبح من العبث أن تستمرّ مثل هذه الخطابات في عصرنا هذا وعالمنا هذا ونظامنا هذا. فالتنافس على المِلكية الخاصة للأرض لم يجلب معه سوى تراكم هذه المِلكيات واحتكارها وتهجير الفلّاحة بفصلهم عن وسائل إنتاج كفافهم، ولكنّ جنود هذا النظام لا يغيّرون فريقَا يخسر. استمرّت عمليات التطويق منذ القرون الوسطى في انقلترا، ثمّ خلال الحملات الإستعمارية على شعوب الأمريكيّتين وآسيا وإفريقيا ومازالت المنظمات العالمية، وعلى رأسها منظمة التجارة، تدفع بـ”الإصلاح الزراعي” في دول العالم الثالث المعتمد على توزيع الملكيات الصغيرة على الفلّاحين وحثهم على الاندماج في السوق العالمية عبر “التحديث” الميكانيكي والكيميائي والاقتصادي-السياسي.

أنظمة حيازة الأرض غير المبنية على الملكية الخاصة

يستعمل سمير أمين صيغة النفي للتعبير عن هذا النوع من الأنظمة لأنّه يقرّ بأنّ هذا التعريف لا يُطبّق على مجموعة متجانسة من الحيازات.

الحيازة العُرفية

يعتبر أمين “الحيازة العُرفية” واحدة من أوسع أنظمة الحيازة التي لا تتبنّى الملكية الخاصة للأرض (بالمعنى الحديث)، حيث أن ما يُسمّى بالقانون العُرفي يضمن دائما النفاذ إلى الأرض لكلّ العائلات وليس الأفراد. لكن نظام الحيازة العُرفي لا يوفر نفاذا “متساويا” بين جميع أفراد الجماعة المحلية، اذ يظلّ التمييز قائما على أساس النسب والجاه والعمر والجنس وغيرها… بالتالي، فإنه من الرجعي أن نتبنّى خطا سياسيا يدافع عن هذا النوع من الحيازة مثلما فعل العديد من القادة الوطنيين المعادين للإمبريالية في السابق.

من جهة أخرى، فإن الحيازة العُرفية قد تم تدميرها في معظم المناطق في العالم إثر الهجوم عليها من قبل الرأسمالية العالمية منذ قرون. إضافة إلى ذلك، حافظ الاستعمار في إفريقيا المَدارية على القانون العُرفي فيما يسميه سمير أمين “l’économie de traite” [ اقتصاد الاتجار العالمي] حيث أنه تم تجنب الملكية الخاصة للأراضي كي لا يتم احتساب ريع الأرض في أسعار المنتجات المخصصة للتصدير.

هكذا، فإنه لم يعد لنظام الحيازة العُرفي أي معنى إذ أنه أصبح مفهوما مضلّلا يحمل فقط مظاهر “التراث” الأقل نفعا.

المنوال الصيني والفيتنامي

أقرّ سمير أمين بفشل العديد من تجارب الإصلاح الزراعي التي تبنّتها العديد من الدول إثر استقلالها من الاستعمار. وأعاد ذلك إلى أسباب عدّة أهمها تواصل اعتماد الملكية الخاصة للأراضي وما انجرّ عنها من تشكيلات طبقية جديدة وإعادة تركّز الاحتكارات وتهجير الفلّاحة من أراضيهم. لكنه ركّز اهتمامه على تجربتيْن فريدتين من نوعهما في التاريخ اقترحتا نظاما غير مسبوق للتصرف في النفاذ للأرض: لا ملكية خاصة ولا قوانين عُرفية.

عاشت كل من الصين والفيتنام تجارب استعمارية عميقة دمّر فيها رأس المال أنظمة الحيازة السابقة المبنية على العُرف. فاستنبط ماو تسي تونغ (ثم اتّبعه في ذلك شيوعيو الصين والفيتنام) استراتيجيّة للثورة الزراعية تعتمد على تعبئة الفلّاحة الفقراء ممّن لا يملكون أرضا أو ممتلكات أخرى. عند نجاح الثورة، كان من السهل إذن إلغاء الملكية الخاصة للأرض بما أن القيادة الفلّاحية للثورة لا تملك أراض في الأصل فتمّ منح ملكية الأراضي للدولة.

ضمنت الدولة الحقوق التالية:

  • التوزيع المتساوي لكل الأراضي على كل العائلات القاطنة في الريف.
  • فرض استعمال الأرض في إطار الاستغلال العائلي فقط. أي أنّ الأرض لا تُكرى ولا تُوظَّف فيها يد عاملة مأجورة.
  • حق الفلّاحة في ملكية كلّ المحاصيل وبيعها بحرّية كما أنّ الدولة تضمن شراء هذه المحاصيل (في حال تعذّر بيعها في السوق) بأسعار دنيا.
  • حقّ الأبناء في وراثة الأرض طالما بقوا مستقرّين في الريف وفلحوا الأرض.

لئن حقق هذا النظام المساواة شبه الكاملة داخل القرية الواحدة إلا أنه لم يصل إلى تحقيق المساواة بين القرى فيما بينها. وذلك لأسباب منها اختلاف نوعية الأرض من قرية إلى أخرى والكثافة السكانية والقرب من الأسواق الحضرية وغيرها…

أصبح نظام حيازة الأراضي النابع من ثورات الصين والفيتنام تحت التهديد خاصة إثر تبني سياسات الإنفتاح، لكن الفلّاحة مازالوا يدافعون عن إرث الثورة ولئن مازالوا في وضعية “دفاعية” فإنه من العاجل أن يتنظّموا.

الإصلاح الزراعي


ينتقل سمير أمين إلى تجارب الإصلاح الزراعي التي تم تنفيذها في آسيا وإفريقيا إثر التحرر من الأنماط القديمة للإمبريالية. كانت هذه التجارب محمولة من قِبل كتل اجتماعية مهيمنة وغير ثورية أقصت الطبقات الفقيرة التي تمثل الأغلبية الشعبية. من جهة أخرى، تم نزع ملكية الأراضي من بين أيدي المُلّاك الكبار وتوزيعها على الفلّاحة المتوسطين والأغنياء مع تجاهل لفقراء الفلّاحة وأولئك الذين لا يملكون أراض.

اعتمدت هذه التجارب على مبدأ “حق الدولة في المِلكية” (مثلما هو الحال في الصين والفيتنام المذكورتان آنفا)، الذي لا يعتبره أمين “خطأ” أو منبثقا من “دولانية” مفرطة، لكنه يحُثّ على دراسة عميقة لهذا المُعطى وتجنب الإجابة المتسرّعة التي تنادي بإلغاء هذا الحق والوقوع في إعادة إنتاج مخاطر الملكية الخاصة للأرض. فالحلّ، حسب سمير أمين، يكمن في إصلاح الدولة لا انسحابها مثلما تدعو إلى ذلك الإيديولوجيا النيوليبرالية وبعض التيارات اليسارية.

تنشر هذه الإيديولوجيا خطابا مهيمنا حول إصلاح أنظمة حيازة الأرض عبر أجهزة بروبقندا الإمبريالية الجماعية (البنك الدولي، مؤسسات التنمية، منظمات غير حكومية…) التي تدعو إلى التسريع في خوصصة الأراضي كي يتم خلق الظروف اللازمة لإنشاء “جُزُر الفلاحة التجارية”.

يناقش سمير أمين مشاريع الإصلاح الزراعي من خلال طرح الإشكالية التالية: كيف يمكن تحديث الإنتاج الفلّاحي العائلي وما السبيل إلى دمقرطة انخراطه في الاقتصاد الوطني والعالمي؟

بالنسبة لمسألة الديمقراطية، يركّز كاتب المقال على أنها أمرٌ معقد وصعب لا يمكن اختزاله في “الحوكمة الرشيدة” و”الانتخابات متعددة الأحزاب”. بل يرى أن تطوّر الديمقراطية محكوم بالقوى الاجتماعية التي تدافع عنها. هنا، يقرّ بأن لا بديل لتنظّم الحركات الفلّاحية من أجل ترسيخ “الديمقراطية التشاركية” في أدق وأعمق لحظات اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية.

لا يتغاضى أمين عن مُعضلة العلاقة التراتبية بين النساء والرجال داخل نمط الإنتاج الفلّاحي إذ أن هذا النمط يعتمد على العائلة بالأساس. هنا أيضا، يرى كاتب المقال بأن لا مستقبل للديمقراطية من دون وجود حركات تتنظّم فيها النساء المعنيّات.

أخيرا، يثير أمين الانتباه إلى مشكلة الهجرة والنزوح التي بموجبها تُقصي الأحكام العُرفية “الأجانب والغرباء”. فيدعو إلى التخلص من أدران “الجماعنية” (communautarisme) الايديولوجية والسياسية.

تبقى هذه المسائل المتعلقة بالإصلاح الزراعي مرتبطة بنقطة واحدة ألا وهي مِلكية الأرض، بينما أنه:

“لا يمكن للنفاذ إلى الأرض أن يكون نقطة تحوّل للمجتمع حينما لا يقدر الفلّاحة على النفاذ إلى وسائل الإنتاج في ظروف جيدة (القروض، البذور، المُدخلات، النفاذ إلى الأسواق…)“.

ينتقل هنا أمين إلى بعد آخر من أبعاد المسألة الفلّاحية من خلال الدعوة إلى تبني الدول لسياسات وطنية تسعى إلى التفاوض دوليا من أجل تحديد الأسعار والأجور. ويتم ذلك، أولا، من خلال الرفض القاطع للسياسات المفروضة من قبل منظمة التجارة العالمية، عبر مشروع اللبرلة المُعوْلمة، التي تعتبر المنتجات الفلاحية والغذائية “بضائع” عادية كغيرها من البضائع. تظهر إذن أهمية السيادة الغذائية كمشروع وجب تبنّيه من قبل المنظمات الفلّاحية والقوى الاجتماعية والسياسية التي تدافع عن مصالح الطبقات الشعبية ومصالح الأوطان.

تنبني هذه السياسات على تأسيس صناديق وطنية تدعم الإنتاج وتضمن استقراره، بالتوازي مع العمل على إنشاء صناديق عالمية مشتركة تُعنى بالمنتجات الأساسية وتفتح الباب لإعادة تنظيم بديلة للأسواق العالمية في ما يخص المنتجات الفلاحية.

التنظّم والتنظيم

يُحيلنا سمير أمين إلى تاريخ تنظّم فلّاحة إفريقيا وآسيا في القرن العشرين ضد الأشكال السابقة للإمبريالية خلال حروب التحرير الوطني من الاستعمار. في الصين وفيتنام، اللتان اتخذتا طريقا ثورية، كانت القاعدة الريفية للثورة مكونة من طبقات متوسطي وفقراء الفلّاحة والبدون-أرض بينما في البلدان الأخرى، تسيّدت البرجوازيات الوطنية حرب التحرير. نعلم الآن مآلات كل تجربة.

بالنسبة لزمننا المعاصر، فإنّ التحدي يكمن في ضرورة إعادة بناء تكتلات مختلفة عن التكتلات السابقة وذلك من خلال دراسة الظروف الجديدة وطبيعة هذه التكتلات ومحددات الاستراتيجيا والأهداف.

يرى أمين أنّ المنظمات والحركات الفلّاحية الجديدة في آسيا وإفريقيا لا تملك توجها واضحا من حيث برامجها ومجالات نضالها. فالأسئلة التي يجب طرحها حول هذه البرامج تتلخص في:

أي قوى اجتماعية تمثّل هذه الحركات؟

عن مصالح من تدافع هذه الحركات؟ أأغلبية الفلّاحة أم الأقلية التي تطمح إلى المشاركة في توسّع رأس المال المُعوْلم؟

يدعونا كاتب المقال إلى عدم التسرع في “إدانة” بعض المنظمات لتقصيرها في تعبئة الأغلبية الفلّاحية حول برنامج جذري. ولكنه في الآن نفسه يُحذّر من الخطاب الذي يبشر بـ”بديل شعبي عالمي ساذج” والذي يُغذّي وهما قائلا بأن العالم ماضٍ في الطريق الصحيح فقط بفضل وجود الحركات الاجتماعية.

يختم أمين هذه النقطة والمقال بأنه لا يعتقد بأن كل المصالح التي تدافع عنها تحالفات هذه الحركات قابلة للالتقاء طبيعيا. فظروف النفاذ إلى الأرض ليست إلا نتيجة لتجارب تاريخية مختلفة بين تلك التي ورثت طموح الملكية الخاصة والأخرى التي تشبّعت بمبدإ الدفاع عن نفاذ أكبر عدد من الفلّاحة إلى الأرض. كما أن علاقة الفلّاحة بالدولة تختلف باختلاف التوجهات السياسية التي تم اتخاذها خاصة خلال حركات التحرير الوطني. تُتَرجم هذه الاختلافات في أغلب الوقت من خلال الاستراتيجيات السياسية التي تعتمدها كل حركة.

نظر وحركة

ينتمي سمير أمين إلى مدرسة سياسية تتبنّى الاشتراكية نظاما اقتصاديا والعلم منهاجا فكريا. لهذا، قبل أن تُسمّى الماركسية ماركسية، أطلق عليها أصحابها إسم “الاشتراكية العلمية”. تحثُّ هذه المدرسة على دراسة الواقع بعمق وتمحيص بعيدا عن المثالية التائهة والتسرّع الطفولي. فتقوم النظرية مقام الشرط اللازم للتغيير فـ “لا تنظيم ثوري دون نظرية ثورية4. لكن الفكر الجدلي الذي تنبني عليه الماركسية يوجب بالضرورة تفاعل النظرية مع الواقع من خلال تجريبها على أرضه في إطار ابستمولوجيا ثورية لا تكلّ من اختبار الفكر ولا تملّ من تطويعه: اكتشفوا الحقيقة عبر الممارسة وعبر الممارسة تثبّتوا من الحقيقة وطوِّروها5.

قدّم سمير أمين في هذا المقال قراءة شاملة تفتح السبيل للتفكير في تحقيق المسألة الزراعية في بلدان أطراف رأس المال كطريق نحو بناء الاشتراكية العالمية. لم ينتقد أمين الأدبيات البرجوازية فقط بل إنه وقف على نقاط خلل النظريات الماركسية الكلاسيكية (كارل كاوتسكي) والتجارب الاشتراكية (الاتحاد السوفييتي) في القرن العشرين. كما أنه تفاعل مع الحركات الاجتماعية المعاصرة وطرح التساؤلات حول نشاطاتها ورؤاها دون الوقوع في التقزيم أو التمجيد.

يفتح هذا المقال الباب واسعا أمام إعادة النظر في الوضعية المعاصرة للإنتاج الفلاحي في بلدان الجنوب العالمي وذلك من خلال التأصيل النظري للعديد من المفاهيم التي يتم تداولها بين العديد من الحركات والمنظمات وحتى الحكومات.

أصبح من العاجل أن ينغمس المشتغلون في المسائل الزراعية والفلّاحية في تحديد النظر بدقة من أجل توجيه الحركة بحزم.

ما معنى الفلاحة العائلية والفلاحة الصغيرة والفلاحة المعاشية؟

من هم صغار منتجي الغذاء وعلى أي أساس يتم تحديد “أحجامهم”؟

هل أنّ الحيازات “الصغيرة” أكثر كفاءة وإنتاجية بالفعل (مثلما يدعو إلى ذلك الشعبويون الجدد6 والبنك الدولي7) أم أن المسألة أكثر تعقيدا وخصوصية حسب نوعية الإنتاج وظروفه التاريخية؟

ثمّ ما علاقة الإصلاح الزراعي بتنمية الاقتصاد برمته وخاصة في ما يتعلق بالسياسة التصنيعية والتبادل بين المدينة والريف؟

ما معنى “الإصلاح الزراعي” أصلا وماهي الدروس المستقاة من التجارب السابقة وماهي التحديات التي تواجه مشاريع مماثلة في المستقبل (المعطى الإيكولوجي، العلاقات الجندرية، التكامل الإقليمي8).

أخيرا، في أي معنى يمكن أن تُفْهم المسألة الوطنية9 في علاقتها بالمسألتين الزراعية والفلّاحية10 ودور الدولة في تحقيقها في عالم تحكمه الإمبريالية11؟

المانيفستو

ليس من المبالغة اعتبار هذا المقال الذي شارك به سمير أمين في الاحتفال بمئوية الثورة البلشفية “مانيفستو وضع فيه عصارة تفكير تخمّرت لأكثر من نصف قرن في أواني النظريات الاقتصادية والنضالات السياسية. كتب أمين هذا المقال قبل عام من وفاته وتزامنا مع صدور كتابه “السيادة في خدمة الشعوب – الزراعة الفلّاحية سبيل المستقبل”12.

ففي نهاية مطاف الإنتاج الغزير الذي لم يضنُ به أمين قط خدمةً لتحرّر البشرية وتقدمها، خلصت نظريات مدرسة المادية التاريخية العالمية إلى مربط فرس اختلال النظام العالمي: مسارات إنتاج الغذاء وموقع المنتجين من هذا النظام.

يضمّ سمير أمين صوته إلى أصوات العديد من المفكرين السياسيين العالم-ثالثيين الذين انكبوا على الاشتغال في “المسألة الزراعية” كمحدّد للصراع الطبقي على الصعيد العالمي ضمن الواقع الإمبريالي كتناقض رئيسي للصراع. وفّر تقارب أمين مع الأوساط الفكرية المناضلة المهتمة بالفلاحة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فضاءً رحبا وحقلا خصبا لتدارس مجالِ غيّبته الأدبيات الماركسية الغربية أو أساءت فهمه. فكانت إسهامات أمين في “الدراسات الزراعية/الريفية” منغرسة في واقع العالم الثالث/بلدان أطراف رأس المال/الجنوب العالمي مُترجِمة لتجاربه التي خاضها في العديد من البلدان الإفريقية باحثا ومستشارا ومناضلا. حيث أنه علاوة عن عمله كمستشار في العديد من الحكومات وإنشائه للعديد من المنظمات ومراكز الدراسات، كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذه المراجعة، كتب سمير أمين عن العديد من البلدان كمصر ومالي وغينيا وغانا وتونس والمغرب والكوت ديفوار والسنغال والعراق وسوريا…

يرتقي هذا المانيفستو إلى درجة عليا من التفكير السياسي الماركسي العلمي الذي يعتمد على النظر والحركة ويدعو لهما من خلال طرح المعطيات وطرح التساؤلات في آن واحد.

يُصدّق هذا المانيفستو مقولة رفاق سمير أمين:

“طيف ينتاب العالم طيف مسألة زراعية جديدة. […] لا يوجد أي تنظيم اجتماعي أو سياسي جدّيّ لا يعتبر الطريق الفلّاحية حلّا حديثا لمختلف أزمات عصرنا الاقتصادية والمناخية والطّاقيّة والغذائية”.13

1 Samir Amin (2017), The Agrarian Question a Century after October 1917: Capitalist Agriculture and Agricultures in Capitalism, Agrarian South: Journal of Political Economy 6(2) 149–174.

2 Karl Polanyi (1944), The Great Transformation: The Political and Economic Origins of Our Time, Beacon Press Boston, p35: https://inctpped.ie.ufrj.br/spiderweb/pdf_4/Great_Transformation.pdf

3 Karl Marx (1887), Capital Vol I, Progress Publishers, Moscow, USSR, pp 508-514.

4 Vladimir Lenin (1902), What is to be done?, Lenin’s Collected Works, Foreign Languages Publishing House, 1961, Moscow, Volume 5, pp. 347-530. (p12): https://www.marxists.org/archive/lenin/works/download/what-itd.pdf

5 Mao Zedong (1937), On Practice: On the Relation Between Knowledge and Practice, Between Knowing and Doing, Selected Works of Mao Tse-tung, Marxists.org: https://www.marxists.org/reference/archive/mao/selected-works/volume-1/mswv1_16.htm

6 Utsa Patnaik (1979): Neo‐populism and Marxism: The Chayanovian view of the agrarian question and its fundamental fallacy, The Journal of Peasant Studies, 6:4, 375-420

7 Aiyer, Swaminathan; Parker, Andrew; Van Zyl, Johan. The myth of large-farm superiority (English). Washington, D.C. : World Bank Group. http://documents.worldbank.org/curated/en/258161468766516599/The-myth-of-large-farm-superiority

8 Moyo, S., Jha, P., & Yeros, P. (2013). The Classical Agrarian Question: Myth, Reality and Relevance Today. Agrarian South: Journal of Political Economy, 2(1), 93–119. https://doi.org/10.1177/2277976013477224

9 Sam Moyo and Paris Yeros (2011) (Ed), Reclaiming the Nation: The Return of the National Question in Africa, Asia and Latin America, Pluto Press, ISBN: 9780745330822

10 Shivji, I. G. (2019). Sam Moyo and Samir Amin on the Peasant Question. Agrarian South: Journal of Political Economy, 8(1–2), 287–302. https://doi.org/10.1177/2277976019845737

11 Max Ajl (2021), A People’s Green New Deal, Pluto Press, ISBN: 9780745341750, p148.

12 Samir Amin (2017), La souveraineté au service des peuples suivi de L’agriculture paysanne, la voie de l’avenir!, PUBLICETIM, Éditions du CETIM, ISBN: 978-2-88053-127-0.

13 Sam Moyo, Praveen Jha and Paris Yeros, The Classical Agrarian Question, op cit.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !