رأي | إيمانويل والرشتاين : عرَّاب تحليل النظم العالمية

بقلم إبراهيم يونس

كاتب ومترجم مصري. باحث ماجستير في علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية

من هو إيمانويل والرشتاين؟

تحل اليوم،31أغسطس/ أوت،الذكرى السنوية الثالثة لوفاة عالم الاجتماع والمؤرِّخ الأميركي الشهيرإيمانويل والرشتاين (1930 – 2019). درس والرشتاين العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا من عام 1947 إلى عام 1951، ومن ثم التحق بالجيش الأميركي لتأدية الخدمة العسكرية لثلاثة أعوام، وعاد بعد ذلك وحضَّر رسالة الماجستير في نفس الجامعة عام 1954، ومن ثم أكمل أطروحة الدكتوراة بعد خمسة أعوام في نفس المؤسسة. أسس والرشتاين وأدار مركز فرناند بروديل لدراسة الاقتصادات والنظم التاريخية والحضارات عام 1976. وطيلة حياته شغل العديد من المناصب الأكاديمية والعلمية الرفيعة منها على سبيل المثال منصب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع في الفترة بين عامي 1994–1998.

وضع والرشتاين العديد من المؤلفات غاية في الأهمية، ليس لعلماء الاجتماع ودارسيه وحسب، بل لكل من يحتك، من قريب أو من بعيد، بالعلوم الاجتماعية كلها، لكن حاز مؤلفه الأساسي “النظام العالمي المعاصر” (The Modern World-System)الذي نشر مجلده الأول عام 1974 على أهمية كبيرة للغاية، كونه أرَّخَ لنشأة وتطور الرأسمالية وفق منهجيَّة جديدة ومنظور جديد بازغ: نظرية النظم العالمية، التي تمتد جذورها داخل كلاً من الماركسية وعلم الاجتماع.

كان والرشتاين أحد أفراد عصابة الأربعة. لا، ليست العصابة الثورية التي حكمت الصين إبّان الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى، بل العصابة التي تتشكلّ من والرشتاين والاقتصادي المصري البارز سمير أمين (1931-2018)، وعالم الاجتماع والمؤرِّخ الأميركي ذو الأصول الألمانية أندرى جوندر فرانك (1929-2005)، وعالم الاجتماع والاقتصادي الإيطالي جيوفاني أريجي (1937-2009). العصابة التي وضعت تصورنا النهائي –على الأقل في الفترة الراهنة–للنظام الرأسمالي العالمي المعاصر، وكذلك وضعت أسس القضاء على تخصصية العلوم الاجتماعية وعقمها، وحالت دون تحوّل الماركسية إلى أيديولوجيا جامدة عقيمة. كتب الأربعة –معاً– كتابين: الأول “ديناميات الأزمة العالمية” (Dynamics of Global Crisis) ونشر عام 1982، والثاني “تحويل الثورة” (Transforming the Revolution) ونشر عام 1990، ولهم العديد من المؤلفات الأخرى التي اشتركوا في كتابتها مع آخرين.

نظرية النظم العالمية:

لنظرية النظم العالمية جذورها في أعمال كلاً من كارل ماركس وفلاديمير لينين وروزا لكسمبورج وجوزيف شومبيتر وفرناند بروديل وبول باران وبول سويزيو أندرى جوندر فرانك وسمير أمين وآخرون. إنها نتاج ما سبق من إرهاصات في كلاً من المادية التاريخية ونظرية التبعية، فضلاً عن أن ظهورها جاء نتيجة عقود من التوجُّه نحو التحليل الجذري للنظام الرأسمالي في علم الاجتماع بالولايات المتحدة الأميركية وما صاحبه من تركيز على اللامساواة العالمية وفقر أمم العالم الثالث. وقد ذاع صيت نظرية النظم العالمية من الناحية الأكاديمية بداية من عام 1983، إلا أنها بحلول مستهل التسعينيات قوبلت بتجاهل شديد نتيجة صعود خطاب ما بعد الحداثة الذي حرف اهتمام العلماء الاجتماعيين، بعيداً عن المستوى الكُلّي والسرديات الكبرى مثل نظريات التنمية، نحو سياسات الهوية على المستوى المحلي.

تحاول نظرية النظم العالمية شرح كيف تتغير المجتمعات بالبناء على النظريات الماركسية الجديدة للإمبريالية والتبعية والنظريات حول كيفية تنظيم العمل في المجتمعات المختلفة. والمفهوم المركزي هنا هو أن الأفعال البشرية القائمة على الكفاف، وجني الأرباح، هي جوهر الاقتصاد، وأن البنى السياسية والثقافية قائمة على احتياجات الاقتصاد. ترفض نظرية النظم العالمية النظريات الثقافوية كما نظريات المراحل عن التنمية، ولعل أبز مثال على ذلك هو معارضتها لما يعرف بـ ’نظرية التحديث‘ التي اعتبرت أن دول العالم الثالث متخلفة لأنها تفتقر إلى التكنولوجيا الحديثة ورأس المال والمؤسسات الثقافية الحديثة، النظرية التي مفادهاأن أمراض الدول المتخلفة كانت نتيجة أخطائها.كان تطور نظرية التبعية في أميركا اللاتينية وأفريقيا قائماً على نقدٍ شديد لنظرية التحديث، وينتهي النقد إلى أن التفاعلات غير المتكافئة بين الدول ’الطرفية‘ الأفقر والدول الأخرى ’المركزية‘ الأغنى تأسست في فترة الاستعمار – الماركنتلي –والغزو الدموي للأولى من قبل الأخيرة،على أن اللامساواة العالمية تمتد وتتعمق بواسطة ’التبادل غير المتكافئ‘ لتنتج وتعيد إنتاج ’التطور غير متكافئ‘ باستمرار وبشكلٍ أكثر حدة في كل مرة.

أخذ والرشتاين ما توصلت إليه مدرسة التبعية، لاسيما ما بلوره سمير أمين في كتابه “التراكم على الصعيد العالمي”(L’accumulation à l’échellemondiale) المنشور عام 1970، أي قبل المجلد الأول لوالرشتاين بأربعة أعوام –الكتاب الذي شمل لأول مرة (وفقاً لوالرشتاين) كل جوانب النظام الرأسمالي العالمي المعاصر –وبدأ يحلل النظام الرأسمالي المعاصر وفق هذا المنظور الجديد. في محاولة منه للخروج عن الثوب المعتاد، عارض والرشتاين وحدة التحليل السائدة بين أوساط علماء الاجتماع والاقتصاديين والمؤرخين من جهة والماركسيين من جهة أخرى: الدولة القومية.

وبدلاً من أن تكون الدولة وحدة التحليل، طرح والرشتاين’النظام العالمي‘وحدةً كُليَّةً للتحليل وفق نظامٍ ثلاثي للتراتب ينقسم إلى’المركز‘ و ’شبه الطرف‘ و ’الطرف‘، حيث يمكن لأي دولة منفردة أن تنتقل أعلى أو أسفل التراتب بدون أن يتغيّر النظام جذرياً، وتعتمد عملية التنقل تلك على الموقع البنيوي الذي تحتله الدولة المعنية في تراتب الدول على الصعيد العالمي، ذلك الموقع الذي يقوم بدوره بتشكيل البنية الطبقية الداخلية لتلك الدولة كما معاركها السياسية الداخلية.

واحدة من أهم أعمدة نظرية التحديث هي تنقلات المصانع من المراكز إلى المناطق الأخرى، على أن هذا التنقل وما يصاحبه من ’تقسيم عالمي جديد للعمل‘ سيدفع تنمية البلدان المتخلفة، وسيضاعف من ثرواتها ويحسِّن من موقعها في التراتب بين الدول على الصعيد العالمي. في الواقع، لم يعد يجلب نقل المصانع من المراكز إلى مناطق أخرى أيُّ ثروة، فالمراكز تستمر في التحكم في البحث والتسويق لمعظم المنتجات، وبالتالي تحصل على معظم الأرباح من بيعها. ويرجع ذلك إلى مقاربة ’سلسلة إنتاج السلع‘ التي يقدمها روّاد نظرية النظم العالمية، ويُعرِّفها والرشتاين بأنها: “شبكة من عمليات العمل والإنتاج التي تُنتج، في المحصِّلة النهائية، سلعة تامة الصنع”.هذه المقاربة تساعدنا في معرفة أيٌ من الدول مرشحة في الصعود إلى مستوى اقتصادي أعلى عالمياً. ونظراً لأن الأرباح من طريقة إنتاج معينة تتناقص مع تقدم الزمن، يجرى تصدير هذه الأساليب خارج المراكز، لذا فالتصنيع خارج المراكز لا يعني بالضرورة تقدماً، إنه لا يعني إلا أن تلك الصناعات لم تعد ذات ربحية مرتفعة كما كانت في السابق، وأنه عليها أن تنتقل لمناطق يتواجد بها بنى تحتية ومصادر طاقة وأيدي عاملة رخيصة الثمن.

يرى والرشتاين وجوب تعريف الرأسمالية من خلال نظام التجارة العالمية والسوق. وتقوم نظرية النظم العالمية بالأساس على فكرة ’العالمية‘، وتمتاز بمنظور مادي وتاريخي وبنيوي، وتعنى بالاتجاهات الزمنية ومختلف دورات النظام الرأسمالي العالمي، وتهدف إلى تعريف الأسس الاقتصادية والفاعلين السياسيين من أجل توضيح أسباب ظاهرة الاستقطاب على الصعيد العالمي، وما يكمن ورائها من صراعات طبقية بتمثُّلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. وترجع أصول النظام الرأسمالي العالمي المعاصر،وفقاً لوالرشتاين، إلى الفترة الممتدة بين أواخر القرن الرابع عشر ومنتصف القرن الخامس عشر، في أوروبا.

تعتبر نظرية النظم العالمية أن الاشتراكية مرحلة ضرورية في التطور التاريخي بوصفها البديل الحقيقي للرأسمالية المهترئة بالفعل، وهي في ذلك تقدم ما تستطيع من نقد لكل التجارب الاشتراكية السابقة وخاصة الاتحاد السوفياتي، والنقطة المحورية في ذلك النقد أن الملكية العامة لأدوات الإنتاج هي واحدة من الخيارات المطروحة كبديل للرأسمالية،ولكن علينا أن نعرف، إذا كنا ننوي إقامة مجتمع أفضل، من الذي ينتج ومن الذي يستقبل فائض القيمة.

على الرغم من أن نظرية النظم العالمية تنطلق من قواعد التحليل الماركسي التي تقول بأن زوال النظام الرأسمالي العالمي مرتبط بتناقضاته البنيوية المتمثلة في أزمات التراكم، ونضالات الطبقة العاملة وشعوب الجنوب العالمي، وضرورة الثورة الاشتراكية، إلا أنها تُرجِّح أن يكون التناقض الحاسم لهذا النظام هو ’الإرهاق النهائي للقاعدة البيئية العالمية‘ التي دعمت صعود الرأسمالية سابقاً.

الدورات الاقتصادية في تحليل النظم العالميةدورة كوندراتييف نموذجاً:

يُطلق على هذه الدورة اسم الاقتصادي السوفيياتي نيكولاي كوندراتييف الذي وضع نموذجها الأول في كتابه “الدورات الاقتصادية الرئيسية” عام 1926. هناك توجُّه طبيعي في الاقتصاد الرأسمالي – ناتج عن تمركز الإنتاج – نحو الاحتكار، ومع ذلك يصعب أن يتواجد احتكاراً’صافياً‘، لذا سنسميه – هنا – شبه احتكار. يؤدي التقسيم العالمي للعمل إلى تقسيم الإنتاج إلى منتجات ’شبه مركزية‘ وأخرى ’طرفية‘، ويقصد – هنا حصراً – بالمركز والطرف درجة الربحية لعمليات الإنتاج، فالمنتجات شبه المركزية تتحكم بها أشباه الاحتكارات وتتمتع بمكانة قوية في السوق حتى أنه يندر أن ينشأ بينها تنافس، أما المنتجات الطرفية فيتواجد فيها تنافس حقيقي، ونتيجة لذلك يحدث تدفُّق مستمر لفائض القيمة من منتجي منتجات الأطراف إلى منتجي المنتجات شبه المركزية: هذا ما يُعرف بالتطور غير المتكافئ.

تتكوّن دورة كوندراتييف من مرحلتين؛ الأولى مرحلة التوسّع (أ)، والثانية مرحلة الضمور (ب)، وغالباً ما تأخذ الدورة فترة ما بين خمسين إلى ستين عاماً. إن ما هو عملية شبه مركزية اليوم، يصير غداً عملية أطراف، فالواقع أن أشباه الاحتكارات تصفّي نفسها بنفسها، لكنها تضمن تراكم رأس المال لمدة ثلاثون عاماً على الأقل، فما يفسر الإيقاعات الدورية للاقتصاد العالمي إنما هي عملية ذوبان أشباه الاحتكارات.

مرحلة (أ): حيث توفر الصناعة المتقدمة تكنولوجياً–شبه الاحتكارية– توسعاً كبيراً للاقتصاد العالمي، وتراكماً كبيراً لرأس المال، وفرص عمل على نطاق عالمي واسع، ومعدلات أعلى للأجور، وشعورٌ بالرخاء النسبي.

مرحلة (ب): ولكن مع زيادة الإنتاج في العمليات شبه الاحتكارية، يصير العرض أعلى من الطلب، فيتقلَّص السعر وتنخفض الأرباح، ويقع تراجع في المنحنى الدوري للاقتصاد العالمي في صورة ركود، ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة في أنحاء العالم، ويندفع المنتجين إلى نقل أماكن الإنتاج من المناطق المركزية إلى المناطق شبه الطرفية والطرفية التي تتمتع بمستويات منخفضة من الأجور في سبيل تقليل كلفات الإنتاج.

الاقتصاد العالمي يتوسّع (أ) مع وجود صناعات متقدمة شبه احتكارية، ويَضمُر (ب) عندما ينخفض تمركز شبه الاحتكار. وفي آخر مرحلة الضمور (ب)، ووفقاً للإجراءات السياسية التي تتخذها الدول للتعافي من تلك المرحلة، تظهر تكنولوجيا جديدة وصناعات متقدمة، فتُصَدَّر القديمة من المراكز إلى بقية العالم. بعد انتهاء دورة كوندراتييف تتغيَّر ثوابت الاقتصاد العالمي بشكل كبير، وتبدأ مرة أخرى من حالة توازن قصير المدى، لكنها سرعان ما تخلق مشاكل في البنية على المدى الطويل.

النظام الرأسمالي العالمي المعاصر:

وفقاً للرؤية التي تتفق عليها عصابة الأربعة، فإن الرأسمالية المعاصرة نظاماً من ’الاحتكارات المُعمَمَة‘ التي تفرض في خِضمّه ’احتكارات القِلّة‘ سيطرتها على كامل النظم الإنتاجية في العالم، ما يعني أن الإنتاج العالمي–وعلاقاته–يسير وفق ما تمليه هذه الاحتكارات على التقسيم العالمي للعمل وتخصصاته والتجارة العالمية، وبالتالي يفرض هذا ’التعميم‘ واقع أن كل الوحدات الإنتاجية تخضع لهيمنة هذه الاحتكارات، وأنها تهبط إلى مصافْ قنواتٍ ناقلة للريع الاحتكاري الذي يتحوّل بدوره إلى ريعاً إمبريالياً تمتصه احتكارات القِلّة، وذلك يحدث عبر زيادة تركيز رأس المال أكثر فأكثر، وبالطبع الاتجاه نحو إنتاج تكنولوجيا جديدة وتصدير القديمة إلى أشباه أطراف وأطراف النظام العالمي المعاصر. رأسمالية اليوم، هي رأسمالية مُأمّوَلة (حيث يهيمن رأس المال المالي)، وإمبريالية اليوم هي إمبريالية معولمة (إمبريالية جماعية وإمبريالية قومية).

تعبِّر عملية تراكم رأس المال عن الرأسمالية في كل أطوارها التاريخية المتعاقبة، وتلك العملية لا تجد لنفسها الآن أي مهرب إذا وضعناها أمام محكمة العقل، وعلاوة على ذلك فهذا الكم المتراكم من رأس الماللا يجدأي متنفساً له إلا في إعادة توظيف نفسه في استثمارات مالية أساساً، وتحديداً استثمارات المضاربات المالية التي تنتهي إلى ازدهار مؤقت ومحدود للغاية يُنتج بدوره ما يسمى الفقاعات المالية والأزمات المترتبة عليها (النقدية والاقتصادية والاجتماعية …إلخ)، أي سيل من الأموال التي، خلال وقت قصير، تضحي بلا قيمة.

ترى عصابة الأربعة أننا لا نعيش أزمة في الرأسمالية إطلاقاً، بل نعيش أزمة الرأسمالية نفسها، فعملية التراكم اللامحدود لرأس المال التي تحكم الرأسمالية– وتفرض تسليع كل شيء –لا تسوق المجتمع الإنساني، عن طريق ما تفرضه من علاقات، إلا إلى هلاكه.

النظام العالمي المعاصر: إلى أين؟

كانت السلطة في المجتمعات ما قبل الرأسمالية تتمركز في أيدي الطبقات العليا التي حازت الثروة وأدوات البطش، وكان على هؤلاء الذين يحصلون على الثروة عن طريق السوق وطرق أخرى غير الاستيلاء العسكري أن يعيشوا في خوف أبدي من مصادرة أملاكهم، لذا فقد حاولوا شراء مكانة بين الأرستقراطية. أما في النظام الرأسمالي العالمي اليوم فقد احتفظت تلك الطبقة العليا بمكانتها بفضل براعتها الاقتصادية، وصار هؤلاء الذين يمكن اعتبارهم الطبقة الوسطى لا يعيشون في خوف من المصادرة، بل يحدث أن الطبقات العليا تقوم باسترضاء هذه الطبقات وتهدئتها.

إذا ما أطلقنا العنان لمخيلتنا وتخيلنا أنه يمكن تقسيم البناء الطبقي للعالم المعاصر إلى ثلاث طبقات مجرّدة، تمثل الطبقة الأولى العليا 1% من سكان العالم، وتمثل الطبقة الثانية الوسطى 19% من السكان، وتمثل الطبقة الثالثة الدنيا 80% من السكان، وعلينا هنا أن نأخذ في الحسبان التوزيع الجغرافي لهذه النسب وتفاوته، فالطبقة الثانية غالباً ما تتركز في عدد قليل من الوحدات السياسية. هكذا يمكن لنا القول إن مفهومي ’الديمقراطية‘ و ’التنمية‘ لهما معنى كبير بالنسبة لهذه الطبقة الوسطى، وأنها تنال بفضلهما تحسناً في حياتها. أما طبقة الـ 80% فلم تحصل إلا على نسبة ضئيلة من المنافع المفترضة، خلافاً لتكثيف استغلالها. ولا يرجع ذلك إلى تمتع بلداناً بالثراء وتعددية حزبية دوناً عن أخرى، بل أن ذلك نفسه نتيجة التفاوتات الكبيرة على صعيد العالم كله أصلاً.

يقول والرشتاين: “إن ثلثا شعوب العالم محرومة من الأوضاع الليبرالية بسبب هيكل الاقتصاد الرأسماليالعالمي الذي يجعل إقامة مثل هذه الأنظمة السياسية أمراً مستحيلاً”.

هناك فكرة تقول بأن المزايا التي تنالها طبقة الـ 19% تتزايد وتتسع لترتفع النسبة إلى 20%، 21% …إلخ، ويرى مروجي هذه الفكرة أن ذلك يتطلب المزيد من الضغط كي يحصل، والحجة الرئيسية لهؤلاء أن ذلك ما يحدث على مدار مائتي عام مضت. لكن هؤلاء يتجاهلون أن الأثر التراكمي للتغيُّر التدريجي على عمل النظام خلَّف تنازلات من أصحاب الامتيازات لمطالب التحول الديمقراطي والتنمية أدت إلى استيعاب الغضب وإدماج الثوريين من أجل الحفاظ على إطار العمل الأساسي للنظام نفسه.

وعلاوة على ذلك، فمن يعاني نتيجة الزيادة البطيئة في امتيازات الطبقة الوسطى هي الطبقة الدنيا، فيُكَثَّف استغلالها ويزيد بؤسها. ومن ناحية أخرى، هل لنا أن نتخيل حجم الضرر الذي سيصيب الطبقتان العليا والدنيا إذا ما زادت نسبة الطبقة الوسطى إلى 30% أو 80%؟ بالطبع سيخلِّف ذلك زوال امتيازات طبقة الـ 1%، وبمعنى آخر فإن عملية تراكم رأس المال اللانهائية–التي هي روح الاقتصاد الرأسمالي العالمي– لن تكون ممكنة. فإما أن تتوقف عملية التحول الديمقراطي بشكل عام، وهذا صعب سياسياً، أو أن ننتقل إلى نظام من نوع آخر يحافظ على الواقع الطبقي غير العادل.

يقترب النظام العالمي المعاصر من نهايته ويدخل عصر تحوّل إلى نظام تاريخي جديد لم نتعرف بعد على ملامحه – ولا يمكن أن نعرفه سلفاً – بالرغم من أننا نستطيع أن نساهم عملياً في تشكيله. والعالم الذي عرفناه كان اقتصاداً رأسمالياً عالمياً وقد تعرض لأزمات بنيوية لم يعد قادراً على التعامل معها. ما سيحدد مستقبلنا وفقاً لوالرشتاين هو: الصراع السياسي الحاد والمتصاعد، والاستقطاب على الصعيد العالمي، في العشرين سنة القادمة، حول النظام الذي سيخلف الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وفي القلب من ذلك كل القرارات التي يتخذها الأفراد والشركات والمؤسسات والدول والحركات الاجتماعية …إلخ.

يقول والرشتاين في مقابلة مع مارشيللو موستو عام 2018: “نحن نعيش في عصر الأزمات البنيوية للنظام العالمي، ولن يستطيع النظام الرأسمالي القائم أن ينجو، لكن لا أحد يستطيع أن يعرف بالتأكيد ما الذي سيحل محله. أنا مقتنعٌ بأن هناك إمكانيتان؛ أولاهما ما أطلق عليه ’روح دافوس‘، المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يهدف لإقامة نظام يحافظ على أسوء سمات الرأسمالية: الهرمية الاجتماعية والاستغلال، وفوق كل ذلك استقطاب الثروة. يجب أن يكون البديل نظاماً أكثر ديمقراطية ومساواة. إن الصراع الطبقي هو المحاولة الأساسية للتأثير على مستقبل ما سيحل محل الرأسمالية”.

من مؤلفات والرشتاين:

يحلل والرشتاين في كتابه “النظام العالمي المعاصر” – الذي لم يترجم بعد إلى العربية –نشأة الرأسمالية وتطورها وصولاً إلى شكلها الحالي، فالمجلد الأول من الكتاب والمنشور عام 1974 يقتفي أثر نشأة النمط الرأسمالي للإنتاج في أوروبا الغربية، ولقد أعطى له عنواناً فرعياً: “الزراعة الرأسمالية وأصول الاقتصاد العالمي الأوروبي في القرن السادس عشر”. أما المجلد الثاني المنشور عام 1980 فيحلل طبيعة المرحلة الجديدة في الرأسمالية، وقد أعطى له عنواناً فرعياً: “الماركنتلية واشتداد عود الاقتصاد العالمي الأوروبي 1600-1750”.

والمجلد الثالث المنشور عام 1988 يحلل توسع الاقتصاد الرأسمالي خارج أوروبا، وقد أعطى له عنواناً فرعياً: “الحقبة الثانية للتوسع الضخم للاقتصاد الرأسمالي العالمي 1730-1840”. أما المجلد الرابع والأخير الذي أعطى له عنواناً فرعياً: “الليبرالية الوسطيَّة المنتصرة 1789-1914″، فيحلل، بجانب تطور الاقتصاد الرأسمالي على الصعيد العالمي، كيف هيمنت الليبرالية الوسطيَّة سياسياً على حقبة نشوء الإمبريالية. أعاد والرشتاين نشر المجلدات الثلاثة الأوائل معالنشر الأول للمجلد الأخير عام 2011 مضيفاً مقدمات جديدة وتعليقات وهوامش إضافية.

نشر والرشتاين عام 2004 كتاباً صغيراً – لا يتخطى 105 صفحة بالإنجليزية–حاول فيه تلخيص الجوانب الهامة في تحليلالنظم العالمية تحت عنوان “مدخل إلى تحليل النظم العالمية”(World-Systems Analysis: An Introduction). يعرض والرشتاين في ذلك الكتاب الأصول التاريخية للنظام العالمي المعاصر والاقتصاد الرأسمالي العالمي، ونشأة الوحدات السياسية التي سُميَّت الدول القومية، وظهور المستعمرات وغيرها، كما يعرض لنشأة الثقافات الجغرافية مثل الأيديولوجيا والحركات الاجتماعية والعلوم الاجتماعية، فضلاً عن تشريحه لطبيعة الأزمات البنيوية –والفوضى –التي يعاني منها النظام الرأسمالي العالمي المعاصر. وقد ترجم أكرم حمدان هذا الكتاب إلى العربية.

والرشتاين من القلائل الذين ذهبوا إلى معاداة التخصصية في العلوم الاجتماعية، بجانب معارضة الاتجاه الإمبيريقي (أي الاعتماد الكبير على العمل الميداني والاحصاء بوصفهما أداة لجمع المعلومات التي بواسطتها يحلل هذا الباحث أو ذاك أي من الظواهر التي يشهدها)، منها التاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد والفلسفة، قائلاً بحتمية تفكك واضمحلال تلك التخصصات وولادة ما أسماه’العلم الاجتماعي التاريخي‘،العلم الذي أوضح معظم جوانبه في كتابه المنشور عام 2001 بعنوان “نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعي للقرن الحادي والعشرين” (The End of the World as We Know it: Social Science for the Twenty-First Century) والذي يجمع العديد من الندوات التي ألقاها والرشتاين قبل وأثناء وبعد شغله لمنصب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع. ما يقصده والرشتاين بـ ’نعرفه‘ هو العالم الذي نحيا فيه: الرأسمالية في طورها الإمبريالي المعاصر، وما راكمه هذا العالم من معرفة وعلوم.وقد ترجمفايز الصبّاغ هذا الكتاب إلى العربية.

غالباً ما كان للأقوى ترسانة من الأسلحة المتنوّعة، لكن هذا الأقوى دائماً ما لاقى مقاومة. والجديد في المقاومة اليوم ينتج عن الابتكار السوسيولوجي لما يسمى ’الحركات المعادية للنظم‘ في القرن التاسع عشر، حيث تمثَّلت الفكرة الأساسية في ضرورة تنظيم المعارضة حتى تنجح في تغيير العالم. وكثيراً ما نجد المقاومة اليوم مقاومة منظمة، ليست تلقائية أو أبدية وإنما ذات تخطيط. وتحدث المقاومة السياسية–كسائر الميادين الأخرى –عند تنظيم أي حركة معادية للنظم بهدف الاستيلاء على سلطة الدولة، فتمد الحركة نفسها بالأسلحة السياسية القوية التي تستخدم بهدف تغيير العالم بطريقة ما، لكن أزمة فعل المقاومة الهادف ذلك تتجلى، في التحليل الأخير، في أن الحركة تدمج نفسها وممثليها داخل النظام الذي تعارضه، وهي بذلك تضفي شرعية جزئية عليه، فعندما نناضل ضد فرض سلطة الأقوياء على الضعفاء، أو ضد فرض قوة المراكز على الأطراف، إنما نقوم بتقوية الأضعف سياسياً داخل دولة معينة والنظام العالمي ككلٍ، أي أننا نمارس ضغوطاً لإثبات صحة مقاومتنا من زاوية المعايير التي وضعها الأقوياء. يرى والرشتاين أن هذا التناقض –الذي ينطوي عليه فعل المقاومة الهادف–لا فكاك منه. وهو يناقش هذه المسائل وفي القلب منها الثورة العالمية لعام 1968 في كتاب– لم يترجم بعد إلى العربية – شاركه في كتابته كلاً من جيوفاني أريجي وعالم الاجتماع الأميركي تيرينس هوبكنز تحت عنوان “الحركات المعادية للنظم” (Anti-Systemic Movements) الذي نشر عام 1989.

يقول ماركس: “يعيد التاريخ نفسه مرتين، في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة”. هذا ما يحدث الآن بالضبط. فكما ظل ماركس يردد–في كل مؤلفاته تقريباً– أن الرأسمالية ’تاريخية‘، وأنه ما من شيء يسمى نظاماً ’طبيعياً‘ أو ’أبدياً‘ لتنظيم المجتمع، وأن مثل ذلك النظام لا يمكن إلا أن يوجد في مُخيِّلات الاقتصاديين السياسيين آنذاك، فإن الاقتصاديين السياسيين اليوم يعيدون تكرار التاريخ، وبنفس الأخطاء تقريباً! يحاول والرشتاين في كتابه “الرأسمالية التاريخية” (Historical Capitalism) المنشور عام 1983 توضيح أن الرأسمالية هي ما حدث تاريخياً، ويطرح على النقيض من الأفكار الخاطئة وغير الواضحة التي يعتنقها عدة اقتصاديين سياسيين من التيار السائد، أنه لا توجد رأسمالية ليست تاريخية، معيداً تكرار ما قاله ماركس سابقاً. وقد ترجم محمد مستجير هذا الكتاب إلى العربية.

خاتمة:

أقام مارشيللو موستو محادثة مع إيمانويل والرشتاين عام 2018 بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لولادة كارل ماركس. أشار كلاهما في هذه المحادثة إلى ضرورة قراءة كارل ماركس في الحقبة المعاصرة، وكان عنوان المحادثة “اقرأوا كارل ماركس”. وها أنا هنا أقدم دعوةً ثانية: كلاً من ماركس وعصابة الأربعة يستحقون القراءة اليوم، فهم أفضل من قدّموا نقداً مُشرِّحاً للرأسمالية ومُعرِّياً لعيوبها وأزماتها البنيوية، وهم أفضل من شرحوا لنا جوانب العالم المعاصر وكيفية تغيير مساره الذي يظنُّه البعض حتماً رأسمالياً. مستقبلنا مرتبط بالأزمات البنيوية للنظام الرأسمالي العالمي المعاصر، وكذلك بإنهاك واستنفاذ موارد كوكب الأرض، وقطعاً بنضالات شعوب الجنوب العالمي والفلاحين والطبقات العاملة. كلاً من ماركس وعصابة الأربعة أفادونا بدرجة كبيرة للغاية، وكتاباتهم تُمثِّل ركناً أصيلاً في تفكيرنا واختياراتنا للبدائل المتاحة. اقرأوا كارل ماركس. اقرأوا عصابة الأربعة.


أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !