رأيْ | حركة النهضة ومرحلة الأفول

بقلم وائل بنجدو

إحتلت حركة النهضة الإسلامية حيزا مهما من التاريخ السياسي المعاصر لتونس منذ تأسيسها الأول أوائل السبعينات. وكانت تلك السنوات هي نهاية مرحلة الخمسينات والستينات التي ساد فيها الفكر الثوري والمشاريع الوطنية، على إختلاف مرجعياتها، سواء كانت ماركسية أو قومية، على إمتداد الوطن العربي.

مثلت هزيمة 1967 ضربة قاصمة، ليس فقط على المستوى العسكري، بل الأخطر من ذلك أنها النار التي أضاء وهجها الأفكار الدينية والرجعية والمشاريع الإستسلامية، و أحرق لهيبها الأفكار التحررية والتقدمية. في غمرة تلك الأجواء التي غطت فيها سحب الدين السياسي- المنتعش بأموال النفط- سماء الوطن العربي و العالم الإسلامي لم تكن تونس بمنأى عن ما يعتمل من حركة تغيير شاملة على مستوى القوى السياسية و الإجتماعية المهيمنة على المشهد.

خلال السبعينات دخلت تونس مرحلة «الإنفتاح»، شأنها في ذلك شأن العديد من البلدان العربية، بعد فشل تجربة التعاضد التي سميت بالتجربة الإشتراكية الدستورية. و مع بداية السبعينات تشكلت النواة الأولى ل «الجماعة الإسلامية» في تونس على يد راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو و غيرهم من الذين تشبعوا بالفكر الديني المهمين. و إقتصر مشروعهم في البداية على الجانب الفكري و الدعوي من خلال جمعيات المحافظة على القرآن الكريم.

حضيت الجماعة آنذاك بدعم من النظام الحاكم لسحب البساط من تحت أقدام اليسار التونسي. إن أخطر ما يميز تلك الفترة في تونس، وغيرها من البلدان العربية، هي الإنحراف بالصراع مع الأنظمة من صراع مشاريع إقتصادية و إجتماعية لتغيير نمط الإنتاج والإطاحة بالطبقات الحاكمة لصراع ثقافي بين قطبين رئيسيين(السلطة الحاكمة و قوى الإسلام السياسي) لا يختلفان في تصوراتهما الإقتصادية والإجتماعية، عنوانه الرئيس هو الدفاع عن الهوية الإسلامية ضد التغريب و قاعدته الحقيقية مواصلة إستفادة الطبقة الكمبرادورية من علاقة التبعية للمراكز الإمبريالية.

ظل هذا الصراع مستمرا منذ ظهور الإسلام السياسي في تونس الذي تمثل حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي نواته الرئيسة. رغم التقارب بين الطرفين خلال الثمانينات، و علاقة راشد الغنوشي الجيدة بمحمد مزالي فإن ظهور الجنرال بن علي سنة 1987 غير قواعد اللعبة.

كانت حركة الإتجاه الإسلامي ( حركة النهضة في ما بعد ) تخطط للإنقلاب على «الحبيب بورقيبة» يوم الثامن من نوفمبر، لكن «بن علي» سبقهم لذلك و نفذ إنقلابه يوم السابع من نوفمبر من سنة 1987. أبدت الحركة مباركتها لهذا التغيير وكانت من الموقعين على «الميثاق الوطني» سنة 1988، و صرح راشد الغنوشي أن «ثقته في الله و في بن علي». رغم كل ذلك رفض بن علي مشاركتهم السلطة لذلك شهدت العلاقة بين الطرفين مواجهة عنيفة منذ بداية التسعينات وصولا لتاريخ إسقاط بن علي غداة إنتفاضة 17 ديسمبر 2011.

عاشت حركة النهضة فترتها الذهبية بإمتياز من سنة 2011 إلي سنة 2013. عاد زعيمها التاريخي راشد الغنوشي من منفاه في بريطانيا و إستقبله أنصاره في مطار قرطاج بنشيد «طلع البدر علينا». كانت هي الحركة السياسية الأكثر تنظيما و تمويلا وإمتدادا بين الناس لذلك تمكنت من الوصول للسلطة بعد فوزها في إنتخابات أكتوبر 2011. و قد إعتقدت إثر ذلك أن الطريق مفتوح أمامها لبسط هيمنتها التامة على المجتمع، وإقامة مشروعها الإسلامي في الحكم.

حاولت ضرب كل أشكال المقاومة لمشروعها، وأطلقت يد العصابات الإرهابية والسلفية وتسببت في إغتيال الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي. لكن مقاومة القوى التقدمية، والمنظمات الوطنية، والجماهير الشعبية، وجناح من النظام، لطريقة حكمها ومشروعها الإسلامي وقف عائقا أمام مضيها على نفس الوتيرة، مما أجبرها على التنازل و العودة لاقتسام السلطة مع أعداء الأمس وبعض رموز “النظام القديم” بعد ما عرف بإتفاق باريس بين الباجي قايد السبسي و راشد الغنوشي.

في المحصلة فقد مرت العلاقة بين السلطة في تونس و الحركة حركة الإسلامية بثلاثة مراحل رئيسة منذ السبعينات وصولا لسنة 2011:
– الأولى بين 1970 و 1987: إعتمدت فيها السلطة سياسة «العصا و الجزرة» مع الحركة الإسلامية، و إتسمت العلاقة بالصراع حينا و غض الطرف و التنسيق حينا آخر.
– الثانية بين 1987 و 2011: مرحلة المواجهة العنيفة بين السلطة و الحركة الإسلامية و هروب قياداتها و تعذيب أنصارها. إعتمدت حركة النهضة خلالها على العنف في مواجهة السلطة و من ذلك حادثة باب سويقة سنة 1991.
– الثالثة بين 2011 و 2020: يمكن أن نسمي هذه المرحلة ب «عشرية حكم الإسلاميين».

رغم تغير شكل الحكومات و التوازنات داخلها لكن المكون الرئيس لها و العمود الفقري للحكم خلال عشر سنوات هو حركة النهضة؛ ليس فقط من خلال وزرائها في مختلف الحكومات، بل خاصة من خلال التعيينات الحزبية في مختلف الإدارات و الدواوين و الشركات. خلال هذه العشرية كونت الحركة شبكة من العلاقات الزبونية التي تدور حولها و تمكنت من النفاذ لعديد الملفات التي أصبحت أداة لديها للإثراء وإغراء الخصوم وإبتزاز الأعداء.

أظهرت الإنتخابات التشريعية و الرئاسية لسنة 2019 تراجعا كبيرا للرصيد الإنتخابي لحركة النهضة و تضاءلت شعبيتها حيث مني مرشحها للرئاسية عبد الفتاح مورو بهزيمة قاسية، ولم تتحصل في التشريعية إلا على 52 مقعدا ( من أصل 217) مقابل 89 مقعدا سنة 2011. إن هذا التراجع ليس إلا نتيجة طبيعية لفشل حركة النهضة خلال عشرية حكمها في الإيفاء بتعهداتها تجاه ناخبيها، و دليل آخر على أن الإسلام السياسي لا يعبر عن مصالح الطبقات الشعبية بل هو إحدى التعبيرات السياسية للطبقات الكمبرادورية الحاكمة المرتبطة بنيويا بالمراكز الإمبريالية.

إذا كانت عشر سنوات غير كافية لتغيير حياة الناس و لو جزئيا فلماذا الرهان مجددا على حركة النهضة؟ هذا ما توصل إليه كثيرون و من بينهم بعض الأحزاب التي راهنت بعض قياداتها سابقا على التحالف مع حركة النهضة مثل حركة الشعب والتيار الديمقراطي. فهمت عديد القوى السياسية والمستقلين الممثلين في البرلمان أن الإقتراب من حركة النهضة والتحالف معها هو بمثابة المحرقة و هو ما حصل مع المنصف المرزوقي و حزبه المؤتمر من أجل الجمهورية و مع مصطفي بن جعفر وحزبه التكتل الذين كان ذلك التحالف نهايتهما السياسية.


تبدو الخارطة السياسية داخل البرلمان مفتتة بما جعل حركة النهضة عاجزة عن تكوين أغلبية تضمن لها السيطرة على مؤسسات الحكم ( الحكومة و البرلمان) مثلما كان الحال عليه خلال العشرية الماضية. و مما زاد من عزل حركة النهضة وتجريدها من أغلب حلفائها هو صراعها مع رئيس الجمهورية قيس سعيد بعد أن كانت مؤسسة الرئاسة في أغلب الفترات السابقة سندا أو حليفا لحركة النهضة. يعود هذا الصراع بين راشد الغنوشي و قيس سعيد لإصطفاف زعيم الحركة الإسلامية وراء المحور القطري التركي محاولة فرض تلك الرؤية في ما يخص الصراع الليبي على الداخل التونسي.

بدا ذلك جليا حين قام الغنوشي بزيارة حليفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دون علم من البرلمان أو رئيس الجمهورية التي تشمل صلاحياته تحديد السياسات الخارجية للبلاد. إعتبر قيس سعيد ذلك تعديا صارخا عليه خاصة أنه يرى ضرورة الإبتعاد عن سياسة المحاور الإقليمية، كما دعا بوضوح على إعادة التأسيس لشرعية جديدة في ليبيا.
إن مختلف هذه المعطيات و محاولة تحويل راشد الغنوشي رئاسة البرلمان لمؤسسة حزبية خالصة تعود بالنظر لتصورات حزب حركة النهضة عززت غضب مختلف الأحزاب و الكتل داخل البرلمان ليتفقوا – رغم ما بينهم من إختلافات – على ضرورة سحب الثقة من راشد الغنوشي كرئيس للبرلمان. و أعلنت بداية مرحلة جديدة ستعيشها حركة النهضة.


إن راشد الغنوشي ليس مجرد رئيس حزب يمكن تعويضه بشخص آخر و المواصة كأن شيئا لم يكن، بل هو بمثابة الزعيم الروحي للإسلام السياسي في تونس. لذلك فإن الحبل الذي يبدو حول رقبة الغنوشي هو في الحقيقة حبل حول رقبة كل الإسلاميين داخل حركة النهضة. النهاية السياسية لرجل بمكانة راشد الغنوشي في الأوساط الإسلامية داخل تونس و خارجها بهذه الطريقة المذلة يعد ضربة موجعة يتلقاهى الإسلام السياسي في المنطقة وليس في تونس فقط.

قد تقود لتغييرات في موازين القوى السياسية لتصبح حركة النهضة – إن حافظت على وحدتها التنظيمية بعد هذه المحطة- لاعبا عاديا في المعادلات السياسية بعد أن كانت تمثل قلب الرحى في العملية السياسية لمدة عشر سنوات. بغض النظر عن نتيجة التصويت حول لائحة سحب الثقة من راشد الغنوشي لكنها تبدو النهاية السياسية لرجل إحتل موقعا مهما في تاريخ الإسلام السياسي، رجل أحسن تأمين دخوله للحكم لكنه لا يعرف كيف يخرج منه سالما.


يبقى السؤال الأهم خلال «مرحلة الأفول الرابعة» التي دخلتها حركة النهضة: هل يقبل الإسلاميون بهذه الهزيمة؟
للإسلاميين عموما تاريخ حافل بالعنف في الرد على هزائمهم وعلى الضربات السياسية التي توجه لهم. فهل تكون هذه المرة إستثناء؟


أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !