رأي | رسالة إلى وزيرة الثقافة : “تعالي الثقافة الهابطة”

بقلم سفيان فرحات

السيدة شيراز العتيري،

وزيرة الثقافة،

أعلم أن فيروس كورونا لم يمهلك وقتاً كي تجسّدي البرامج التي ربما كنت تحملينها في حقيبتك وأنت تتولين وزارة الثقافة في الحكومة الجديدة. كثيرون لا يعرفونك، وهذا لا ينقص شيئاً من شأنك، فكان من الضروري أن يحدث شيء ما كي ينتبه لك الناس، وللأسف تسلّطت الأضواء عليك في “معركة جانبية”، كان ذلك حين تفاعلت مع استهجان شرائح من التونسيين على قرارك بالسماح باستكمال تصوير مسلسلات لشهر رمضان.

أي شيء يبرّر تلك العدوانية في الرد؟ اعتبرتِ أن الانتقادات التي طالت قرارك تعبّر عن حاجة كثير من التونسيين إلى “التربية على الثقافة”. لقد رفعت شعاراً في غير محله، فذكرت “التربية على الثقافة” في سياق جدال متعلّق بالمسلسلات، فهل أنك تختصرين الثقافة في المسلسلات؟ وهل أنك لا تعلمين أن بعضاً من المسلسلات أشدّ خطراً من الفيروس؟ تُرى من ضغط عليك كي تخرقي إجراءات الوقاية من انتشار الوباء من أجل تصوير مادة ترفيهية ليس من ضروريات الحياة؟ هل أن وزارة الثقافة معنية بتأمين المداخيل التي ينتظرها أباطرة الإنتاج التلفزي أكثر من اهتمامها ببقية القطاعات إذ لم نسمع لك صوتاً عند تأجيل معرض الكتاب وهو ما سينعكس سلباً على الناشرين، وهل كانت لك حلول لأهل المسرح أو الفنون التشكيلية وقد أغلقت قاعات العرض؟

أي حاجة ماسة لنا بالمسلسلات؟ أتساءل بصدق. هل هذا الموضوع هو ما يشغل وزيرة الثقافة في وقت يعيش فيه القطاع لحظة عسيرة بتوقف جميع الأنشطة؟ هل نجد لك صوتاً في الأدوار التي لعبتها هذه المسلسلات في خلخلة المرجعيات الأخلاقية في تونس؟ ألم يصلك نبأ مسلسلات رمضانية سابقة لا يخرج متابعها بأية عبرة فيستهلك مرغماً أو مخيّراً حكايات عن الخمور والمخدرات والخيانات الزوجية؟ هل تعتقدين أن مثل تلك المسلسلات قريبة من الهموم المفترضة لوزارة الثقافة؟

لكن بصراحة، لو أن حديثك عن “التربية على الثقافة” جاء خارج هذا السياق الدفاعي على ثقافة المسلسلات لكنتُ أوّل المساندين لك. فتونس بحاجة إلى التربية على الثقافة، بمعنى أن تتحوّل الثقافة إلى خبز يومي في متناول كل الفئات، ثقافة متنوّعة مفتوحة على الكتاب واللوحة والمسرحية ولا تختصر الأولويات في مكاسب منتجي المسلسلات.

ليت هذه الدعوة للتربية على الثقافة كانت برنامجك الذي تدخلين به مكتبك الجديد. التربية على الثقافة كانت ستكون مشروعا حقيقيا لو حرصتِ على إعادة النظر في السياسات الثقافية التي تشرفين على إدارتها اليوم، وربما تنفيذها فقط. التربية على الثقافة كانت ستكون مشروعاً رائداً لو عملت على توفير الأدوات التي يمكن للتونسيين أن يفككوا بها الرسائل المسمومة في المسلسلات التي يستهلكونها.

بمثل هذه الحادثة تعرّف الشعب التونسي عليك سيدّة شيراز. حادثة للأسف لها دلالاتها، فقد تسرّب من كلامك تصوّر مضمر للثقافة، ينطلق بشكل فاضح من موقع استعلائي. الثقافة معك – ومع كثير من الوزراء سبقوك – شكل من بين أشكال أخرى من الوصاية التي تمارسها الدولة على أدمغة الناس. بين سطور حديثك تصوّر للثقافة باعتبارها تلقيناً، عصا يمسكها من يعرف الخطأ من الصواب، ولا حجّة له في التمييز بينهما سوى رؤية جاهزة يستمدها من المنصب وسطوته.

لا يخفى أنك جئت إلى كرسي الوزير من الإدارة وليس من الإبداع، وهو خيار له دلالة بلا شك. فهل درست لماذا استقرّ الخيار عليك؟ هل سبق لك وأن فكّكت الأدوات التي تمارس بها وزارة الثقافة دورها في تونس؟

أيضاً، هل تفطّنت إلى أن وزارة الثقافة من بين المناصب الحكومية القليلة التي بقيت مستقلة عن الأحزاب منذ الثورة، ففي الوقت الذي يتهافتون فيه على بقية الحقائب يتفقون جميعاً على ترك الثقافة مستقلة. لا يحدث ذلك إجلالاً للثقافة بالطبع، فمجتمع السياسيين يعلم أن مجتمع المثقفين أرض ملغومة، ولذلك لا يتورّط فيها أحد منهم. بعبارة أوجز، الجميع يتقي شرّها. ولعلّ السياسيين جميعهم فرحين اليوم بما حدث معك، في حادثة احتقار لمنتقديك، فلو كنتِ مع أحدهم لأحرجته أيما إحراج.

اخترت، سيدة شيراز، أن تتوجّهي لمن انتقدوك باللغة الفرنسية، لماذا؟ ولماذا كانت فرنسية عنيفة ومتشنّجة وعدوانية، ومن ورائها يحضر خطاب متعال، تعال في المضمون وتعال في الشكل. لكن حين نعرف أن وراء هذه الحماسة في الرد باستصغار من انتقدوك دفاعٌ على المسلسلات التي خرّب كثير منها الضمائر سنكتشف بأن الأمر لا يعدو أن يكون “تعالي الثقافة الهابطة”.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !