رأي | مبروك كورشيد: سيرة من التقرّب والتقلّب

بقلم سفيان فرحات

     مع انتشار كورونا، سرت في العالم دعوات بتقوية الدولة في جهودها لمحاربة الجائحة ولو على حساب الحريات الشخصية اقتداء بالنموذج الصيني، وهو ما نجد أثره حتى في نظام نقيض حين فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على شركات السيارات تحويل آلياتها لتوفير الكمامات والأجهزة الطبية، وسنجد قرارات مشابهة في فرنسا وألمانيا وغيرها من البلاد التي عُرفت بالتدخل الأدنى في مسارات الاقتصاد والمجتمع. انحصرت هذه المبادرات في توفير الظروف الملائمة لمحاربة الفيروس، ولم تظهر سوى حالات قليلة تشير إلى اعتداء الحكومات أو مبالغتها في استعمال صلاحياتها الاستثنائية، علما أنها بلدان تتوفر على عناصر تعديلية كثيرة تمنع الدولة من أي تغوّل.

    في تونس، لم يظهر الجدال حول صلاحيات الحكومة وموقع الدولة في ظروف استثنائية كجدال رصين بين النخب، بل انحصر ضمن سجالات برلمانية ها هي تعكس المنطق الانتهازي للعقل السياسي في تونس، ولعلّ أبرز تعبيرة عن ذلك مطالبة النائب مبروك كورشيد بتجريم كل “قذف” لنواب مجلس نواب الشعب، وكأنه لا يدري بأنه يمثّل الشعب الذي يقوم بتجريمه على تعبيره العفوي لخيبة أمله فيمن انتخبهم. لكن لماذا يريد السيّد كورشيد حصانة أعلى من الحصانة البرلمانية؟

     لنعد إلى مسار الرجل في شعاب السياسة، من الصعب أن نذكر له حضوراً بارزاً زمن بن علي، عبر موقف ينتصر للشعب أو لقضايا تحرج النظام إلا ما كان عاماَ عبر تهويمات نخبوية كالحديث عن الاعتداءات الأمريكية والإسرائيلية في منابر في الخارج أبرزها مساهمات بمقالات رأي في جريدة القدس اللندنية، والتي يحمل كل من نشر فيها مقالاته كنياشين ويعتقد بعضهم أنها شهادة تزكية من عبد الباري عطوان كي يصبحوا قادة رأي في تونس.

     كان أوّل ظهور لكورشيد على مدى موسّع في 2011، مع حمله لقضية اليوسفيين (أبناء جهته الجنوب الشرقي) وتوجيهه لتهم مباشرة إلى رئيس الحكومة الباجي قائد السبسي، ولولا هذه التهمة الموجهة إلى رأس السلطة التنفيذية هل كان سيبرز كورشيد، كمحام ثم كأحد وجوه الحياة السياسية؟

     تبعت هذه الخطوة تأسيس جريدة سماها “الحصاد”، في مرحلة كان كل صاحب مصلحة يطلق لنفسه جريدة كما هو منطق التنظيمات السياسية في منتصف القرن العشرين. وإذا كان من ميزات “الحصاد” أنها مثلت صوتاً للخط القومي العروبي في تونس، فإن ذلك يعود لسببين، الأول هو استقطابه لعدد من أصدقائه من أعلام هذا التيار وعلى رأسهم سالم لبيض للكتابة الحرة، والثاني هو اعتماده على عدد من شباب الحركة القومية من خرّيجي الجامعة، وكان من غير الممكن قمع آرائهم ولعل تلك الحرية هي المقابل الوحيد الذي استفادوه من تجربة العمل مع كورشيد فلم يحدث أن استمرّت تجربة أحدهم معه فترة طويلة أو كانت المستحقات المالية في مستوى جهودهم، وكان صدور الجريدة ينقطع من حين إلى آخر بحسب تقلبات مزاج صاحبها ومنعطفاته السياسية دون اعتبار لظروف حياة العاملين فيها.

      لم تكن جريدة “الحصاد” مسألة مبدئية، فكورشيد كان منشغلاً بمساره السياسي عبر مناكفات هنا وتقديم عون هناك، وقد منحته الجريدة ذلك الصوت المشاكس حيناً والمجامل حيناً آخر، ثم حين تطوّرت به المواقع السياسية صارت تلعب لصالح تهيئة الرأي العام لموقف أو مناورة.

ذلك التعامل مع الجريدة يفسّر بعضا من إشكاليات ميدان الإعلام في تونس بعد الثورة، فما خنق حريات الرأي التي استبشر بها كثيرون سوى التعامل المنفعي الضيق مع الصحافة، وهو حال مبروك كورشيد، وها أننا نقف اليوم على عينة من توجّهاته بـ”تجريم” من يتطاول على النوّاب، فكيف لهذا العقل أن يكون مؤسّس ومدير جريدة؟ ولا تستغربوا ذات يوم أن تجدوا كورشيد على رأس المدافعين على حرية الإعلام في حال اقتضت مصالحه السياسية ذلك، فالأمر لا يعدو أن يكون تخريجة سفسطائية مما يتقنها بعض المحامين.

     من خلال جريدة “الحصاد”، نجد بأن كورشيد قد راهن بقوة على سالم لبيض، ولم يكن ذلك محض صدفة أو مسألة تقدير وتبجيل، فلا يملك كورشيد مكانة لبيض بين الشباب والنخب، ولم يكن من السهل له دخول عالم السياسة من دون شخصية مشعة مثل عالم الاجتماع التونسي، وقد بدا هذا العقد المعلن أو المضمر إلى حد ما في صالح الرجلين حتى انقطع حبل الود في انتخابات 2014 حين تنازع الرجلان على رأس قائمة حركة الشعب في مدنين.

    كان من الواضح أن أموال كورشيد لم تكن تساوي كثيراً أمام شعبية لبيض في ولاية مدنين، ولذلك اضطرّ المحامي إلى تشكيل قائمة مستقلة خاصة به وهو ما سيقطع العلاقة مع حركة الشعب نهائياً فهذا التوجه كان تشتيتاً للأصوات في دائرة تعرف وقتها شعبية كاسحة لمرشّحي النهضة وصعوداً في المقابل لنداء تونس. انتهت المعركة بهزيمة نكراء لكورشيد لعلها كانت سبباً في تغيير كل أحصنة رهانه.

    أفضت انتخابات 2014 إلى صعود الباجي قائد السبسي كرجل المرحلة الجديدة. تحرّك كورشيد بسرعة ليسكت الشامتين، فتقرّب من كواليس قصر قرطاج، النواة الأم للعقل السياسي التونسي، وهناك وجد المُرحبين من ذئاب السياسة الذين ينتظرون المطرودين من عائلاتهم كي يحوّلوهم بسهولة إلى أدوات طيعة. فاز كورشيد بحقيبة وزارية، فانقلب الباجي من “جلاد” إلى “منقذ”، ودخل مسار المحامي في منعطف سياسي جديد لا يشبه في شيء تلك الشعارات التي طالما رفعها.

     كان ملف استغلال الأراضي التي تملكها الدولة من بين الملفات التي تؤرّق “الدولة العميقة”، وكانت ضيعة “هنشير ستيل” بمنطقة جمنة من ولاية قبلي قد تحوّلت إلى تجربة رائدة في الاقتصاد التضامني والاستغلال جماعي لواحة نخيل كانت تدر بعض مئات الدنانير في خزينة الدولة واضحت بمجهود أبنائها ذات مردود عالي أثمر في مدة وجيزة عديد من المرافق لمنطقة جمنة، وأصبحت التجربة تغري بتوسيعها في مناطق أخرى، وهو ما يُحرج الدولة وسياساتها التنموية وينتزع منها المبادرة في توزيع الثروة إضافة إلى إداراتها. هنا تدخّل العقل السياسي القديم فاختار محاميا طموحاً شرِهًا، ابن الجهة، كي يجهض التجربة برفع شعار “سيادة الدولة”.

      نفّذ المحامي المهمة بما يُرضي أصحاب المصالح ونجح نسبيّا في تعطيل التجربة دون إجهاضها، واطمأن – بفضل طعنه لأبناء العمومة – إلى نيل موقع ثابت في المنظومة السياسية الجديدة، وهو ما أهله أن يدخل البرلمان في 2019 أخيراً من بوابة حزب “تحيا تونس”، أي بعيداً كل البعد عن قواعده الأولى، حيث المنادون بعدالة القضايا الشعبية وقضايا الأمة العربية. إلى كورشيد تُسند اليوم مهمات كثيرة لعلّ تجريم “قذف” النواب أحدها، وستسند إليه مهمات أخرى في مواعيد لاحقة، سيتحدّث في قمع حرية الإعلام ثم في إطلاقه، وسيتكلم عن تعويضات النزل ووكالات الأسفار، وفي ملف الطاقة باسم السيادة وباسم المعاهدات التي سبق وأبرمتها الدولة. لا تستغربوا من تناقض المواقف فجميعها محطات للوصول إلى شيء في نفس كورشيد، لكنها جميعاً مواقف ضيقة الأفق لأنه يفهم السياسة كقضايا موكلين يدفعونها على مكتبه فيدافع عنهم بغض النظر على المبادئ.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !