رأيْ | من “مُحافَظَة” قيس سعيّد.. إلى أولويّات اليسار والثورة…

من أجل حوار صريح مع الرفاق والرفيقات حول مسألة “الحرّيات الفردية” وموقعها في سلّم الأولويّات.

غسّان بن خليفة

منذ الفوز المفاجئ لقيس سعيّد في الدور الأوّل من الرئاسيات، بدأ الكثير من اليساريين واليساريات بمختلف أطيافهم يكتشفون الرجل وأفكاره. فابستثناء قلّة عبّرت منذ البداية عن رفضها المطلق، أو مساندتها له، اعتمادًا على معرفة سابقة وموقف محسوم مسبقًا منه، مازال العديد من اليساريّين يتأرجحون في موقفهم منه بين التحمّس لهذا الرجل، الذي يُجمع الكُلّ تقريبًا على نزاهته، والتوجّس من انعكاسات أرائه المحافظة في مسألة “الحرّيات الفرديّة”.

لا غرابة في أن يكون موقف أغلب اليساريين مخالفًا بالضرورة لهذه الآراء المحافظة. فمن يتبنّى الفكر اليساري يستبطن بالضرورة فكرة تحرّر الفرد في مختلف أبعادها (الاقتصادية والسياسية والفكرية والجنسيّة وغيرها) كنتيجة طبيعية لانعتاقه المنشود من القيود التي تكبّله بها المنظومة الرأسماليّة وتتحكّم من خلالها في مختلف أوجه حياته. وبالتالي فرغم طموحنا الوصول الى مجتمع عادل خالِ من الطبقات (بالضرورة لن يكون فيه توريث للثروة بصفته إحدى أدوات اعادة انتاج الحيف الاجتماعي)، لا يمكن في انتظار ذلك التنكّر لمطلب المساواة بين الرجل والمرأة، بما في ذلك في مسألة الإرث، كما لا يمكن أن لا نكون مع حرّية الناس في خياراتهم الجنسيّة، ولا مع اجبار الناس على الالتزام بما تستوجبه المعتقدات الدينية للآخرين، كما أنّ عقوبة الاعدام التي تعني أن تضع الدولة، باسم المجتمع، حدًا لحياة أحد مواطنيها ممّن أجرموا، مسألة تستحقّ اعادة النظر بلا شكّ… خاصّة لامكانية الوقوع في الخطإ الوحيد الذي لا يمكن اصلاحه… وهو القتل.

الاّ أنّنا اذا تأمّلنا قليلاً، سنجد أنّ هذا الجدال يحيلنا إلى جدال آخر قديمٍ متجدّدٍ داخل اليسار حول مسألة “الأولويات”. وأعتقد أنّها فرصة لنتقدّم عبر نقاش صريح وهادئ في هذه المسألة، بقطع النظر عن الموقف من سعيّد ومشروعه ومن الخيارات الممكنة حيال الانتخابات الراهنة. وهذا النقاش يهمّ أساسًا اليساريين واليساريّات الذين مازالوا يرون أنّ طريق الخلاص يمرّ أساسا عبر الثورة، لا عبر أوهام اصلاح هذه المنظومة الفاسدة الظالمة.

باختصار، رغم أحقّية هذه المطالب، وغيرها، ممّا يوضع عادة في خانة “الحرّيات الفرديّة” وأحيانًا في خانة “حقوق الأقلّيات” أو ضمن تصوّر واسع لـ”حقوق الانسان” ، يجب أن نُقرّ بوجود بعض الاشكالات والتناقضات التي يجب علينا التفكير فيها بأقصى درجات الواقعية الثورية من أجل حلّها. وأهمّها :

– هذه المطالب ليست شعبيّة. أي أنّنا لم نرَ مثلا تحرّكات واسعة أو مسيرات حاشدة تطالب بها. يجب أن نُقرّ أنّها – رغم كونها في صالح الأغلبية – هي بالأساس مطالب ترفعها أقلّية مجتمعية من الفئات المثقّفة، المدينيّة عمومًا. اذ يجب أن نعترف كذلك أنّ أغلب المجتمع مازال يعتنق قيمًا محافظة.

– يتّفق أغلب اليساريّين من ذوي الرؤية الماركسيّة، على أنّ العامل الرئيس في تشكّل الأفكار والقيم السائدة في مجتمع ما هو بنيته التحتية، أي البنية الاقتصاديّة المرتبطة بنمط الانتاج السائد. وفي ذلك تجسيد لأهمّ ما قاله ماركس بتقديري : “ظروف عيش الناس تنتج وعيهم”. وفي ظلّ مجتمعاتنا العربية شبه المُستعمَرة، هناك ارتباط وثيق – لا حاجة للبرهنة عليه – بين المسألتين الاقتصاديّة والوطنيّة. اذ أنّ بلدًا كتونس، التابعة اقتصاديًا للمراكز الامبريالية، لا يمكنه ضرورة أن يعرف ازدهارًا ورخاءً ولا أن تنعم فيه أغلبيّة الشعب بالعدل الاجتماعي والجهوي والبيئي طالما لم يتمّ حلّ هاتين المسألتين.

يحتاج التغيير الجذري لهذه الأوضاع البائسة التي نعرف إلى ثورة. والثورة تحتاج، فيما تحتاج، إلى التعبئة الجماهيرية الواسعة وإلى قدرة خارقة على النضال والتضحية. من سيوفّر هذه الشروط ؟ بالتأكيد لن ينجح المثقّفون الثوريون – المنتسبون غالبًا لـ”الطبقة الوسطى” – لوحدهم في ذلك، رغم كلّ ما يمكن أن يثبتوه من شجاعة وفطنة. لا ثورة تنجح في التغيير الجذري في بلادنا دون مشاركة فعّالة للطبقات الشعبيّة، أي تلك الطبقات والفئات المتضرّرة بقوّة من المنظومة الاقتصادية والسياسية السائدة، ذات المصلحة في تغييرها والمستعدّة للتضحية القصوى من أجل اسقاطها. فالتغيير الثوري لن يكون نتيجة نضال “البرجوازية الصغيرة” وحدها. كما أنّه لا يمكن التعويل كثيرا في هذا الصدد على “الطبقة العاملة”، لأنّها ضعيفة وذات وعي طبقي محدود، بسبب ما فرضه عليها نمط الانتاج السائد، مضافًا إليه دور البيروقراطية النقابية المتعاونة، من تشتّت وهشاشة وخوف على مصالحها الضئيلة الهشّة. ولا حاجة للتفصيل في حالة صغار الفلاحين، ولا الحديث عن القيم السائدة في صفوفهم.

المفارقة هنا أنّ تجربة الانتفاضة التونسية أثبتَت أنّ أولئك المُهمّشين المقصيّين من دورة الانتاج من شباب مُعطّل عن العمل، أو المتواجد على تخومها عبر الاقتصاد غير النظامي، ممّن تغصّ بهم الأحياء الشعبية للمدن الكبيرة (أولئك الذين تصنّفهم الأدبيات الماركسية التقليدية – بما فيها لدى ماركس نفسه – بـ”البروليتاريا الرثّة” أو “أنصاف البروليتاريا” وتصفهم بكونها “احتياطي للرجعيّة”) كانوا أكثر الفئات استعدادًا للتضحية ومقارعة النظام وأجهزته القمعية. صحيح أنّ جزءًا هامًا من هذه الفئات يسهل استقطابه في صفوف أسوإ القوى اليمينيّة المتشدّدة (رأينا ذلك في حالة السلفيين مثلا) أو استمالته من القوى الشعبويّة (نرى ذلك اليوم أيضا بوضوح في حالة “ائتلاف الكرامة”) وحتى “المافيوزية” منها (استغلال نبيل القروي للفقر المدقع لجزء من سكّان الأرياف ومهمّشي الأحياء الشعبية). وهذا أمر لا يجب أن يفاجئنا، اذ من الطبيعي أن تكون أكثر الطبقات والفئات الاجتماعية تضرّرًا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي من “النظام” هي كذلك أكثرها تضرّرًا على المستوى “الثقافي”.

ماذا يعني ما تقدّم؟

يعني ببساطة أنّه لا خيار لدى اليسار – أو أيّ قوّة سياسية أخرى – اذا إراد اسقاط النظام (سواءٌ عبر الثورة أو عبر انتصار انتخابي كاسح – وهو أمر غير ممكن في تونس حيث قُدّ “الانتقال الديمقراطي” حسب معايير الامبريالية وعلى قياس حلفائها في البرجوازية الكمبرادورية المحلّية) غير أن ينجح في اقناع هذه الطبقات الشعبيّة (بما فيها فئة “المقصيّين من دورة الانتاج”) بأنّه المعبّر الأصدق عن مصالحها، وأن ينجح في بناء علاقة ثقة متينة معها وتأطير نضالاتها الجماهيرية وتكتيلها من أجل اسقاط النظام.

يجب الاقرار كذلك أنّ هذه الطبقات الشعبيّة لن تنخرط في أيّ مشروع نضالي ترى فيه تهديدًا أو تناقضًا مع قيمها الثقافية المحافظة، والمرتبطة عمومًا بالدين. بل يمكن كذلك أن تنخرط ضمن مشاريع ترفع لواء الدفاع عن هذه القيم (الحركات الاسلامويّة أفضل تجسيد لذلك). اذ أنّ مقاربة هذه الفئات للمسألة الدينية تتجاوز مسألة الايمان والاعتقاد. فالدين لدى من لا يملكون شيئًا تقريبًا من “مباهج الحياة” (وأغلبها اليوم مرتبط بتوفّر الامكانيات المادية) هو بمثابة “الدرع الواقي” و”الملاذ الأخير” في وجه صعوبة وتعقيد هذه الحياة وقسوة المجتمع.

ما العمَل اذًا؟

لا مناص لدى اليسار – الذي يبغي هدم المنظومة لا محاولة اصلاحها – من الاعتراف بأنّ عليه أن يختار بين أمرين : امّا التضحية – مؤقّتًا ونسبيًا على الأقلّ – بجزء من طموحاته وشعاراته (تحديدا ما يتعلّق بالحرّيات الفردية) مقابل كسب الطبقات الشعبية لصفّه، أو أن يضحّي بامكانيّة التعويل على هذه الطبقات الشعبية ذات الفكر المحافظ ومحاولة التعويل – كما هو الحال الآن – بالمقابل على جزء من “البرجوازية الصغيرة” المعروفة بتذبذب مزاجها وولائها وخوفها على مصالحها، بالتحالف مع جزء من البرجوازية المتوسّطة « الحداثية ». المشكلة هي أنّ الخيار الثاني قد جُرّبَ خلال السنوات الأخيرة (على يد مكوّنات الجبهة الشعبية وغيرها)، وهو لن يسمح بقيام ثورة يقودها اليسار، أمّا الأوّل فقد يسمح في المدى المتوسّط، في حال تمّ تعديل الخطاب وطرق العمل، بقيام ثورة شعبيّة ذات دوافع وشعارات اقتصادية اجتماعية ووطنيّة فحسب (كاستكمال منطقي لانتفاضة 17 ديسمبر 2010 المُجهَضَة). ولبلوغ ذلك يجب أن تُطرح بجدّية مسألة “الانغراس ضمن الطبقات الشعبية” كأولوية قصوى لليسار الثوري… وهو ما يتطلبّ وضع رؤية استراتيجية متكاملة لا مكان فيها لبعض “المقدّسات” الايديولوجية…

منطقيًا، سيؤدّي النجاح في اقامة منظومة جديدة تضمن قدرًا معتبرًا من العدالة الاجتماعية والبيئيّة والسيادة الوطنية، إلى توفير ظروف عيش أفضل للطبقات الكادحة والمُهمّشة اقتصاديًا وفكريًا. تأمين شغلٍ كريم وصحّة ونقل محترميْن، وخاصّة تعليم مجاني جيّد يحفّز على الفكر النقدي، وثقافة وطنية تقدّمية ومتاحة للجميع، هو ما سيؤدّي بشكل طبيعي وحاسم الى تطوّر وعي الناس وتوسيع أفقهم وقدرتهم على تغيير قناعاتهم بأريحية أكبر، وإلى التراجع التدريجي للقيم المحافظة في المجتمع. تحسّن ظروف عيش الناس (بما في ذلك في المجاليْن التربوي والثقافي) سيطوّر وعي الناس بشكل فعليّ أكثر بكثير من “حملات المناصرة” الموجّهة للمؤسسات الرسمية، التي يُجهد بعض “المجتمع المدني” نفسه فيها.

اذن، المسألة باختصار يا رفاق/رفيقات هي مسألة قدرات وأولويّات. مشروع الثورة يحتاج للطبقات الشعبية، ومن المحال في هذه المرحلة التاريخية أن نُقنع هذه الطبقات بتبنّي كلّ مانراه صحيحًا من مُثُل وقيَم كـ “حزمة واحدة”. علينا أن نحدّد ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي، أهدافنا بعيدة الأمد وأهدافنا المرحليّة. ما الممكن تحقيقه اليوم، وما الذي لا يمكن تحقيقه الاّ غدًا.

هل يعني ذلك أن نتخلّى عن اقتناعنا بالحرّيات الفردية أو التنكّر لها نفاقًا للطبقات الشعبيّة؟

قطعًا لا. المطلوب تحديدًا هو أن لا تكون اليوم (خاصّة في لحظات الفرز والاستقطاب الكبرى داخل المجتمع) على رأس الأولويات والمعارك. وأن يتمّ التطرّق لها وخوض معارك محدودة من أجلها، كلّما سنحت الفرصة، بشكل تراكمي متمفصل مع المعارك الرئيسيّة، أي الطبقيّة والوطنية، ومن داخلها. وأن لا نتردّد في تحقيق اختراقات فيها، ولو جزئية، كلّما سنحت الفرصة لذلك، لكن دون تحويلها إلى محاور رئيسيّة أو أولويّة بنفس درجة المسألتين الطبقية والوطنية أو على حسابهما، طالما لم يتمّ التقدّم في حلّ هاتيْن المسألتين بشكل حاسم. والأهمّ برأيي في هذا الصدد هو تفسير القيم والقضايا المرتبطة بـ”الحريات الفردية”، والتعريف بأهمّيتها ونفعها للجميع عبر النضال “الثقافي” و”التربوي” اليومي المثابر في وسط هذه الطبقات. هذا يعني أن لا يتوقّف النضال من أجل “الحرّيات الفردية” و”المساواة بين الجنسين”، لكن يجب بالمقابل أن يتبّع وتيرة وأشكالاً مناسبة لتطوّر حركة الصراع الطبقي والوطني ولقدرة الطبقات الشعبية في مجتمعنا على تبنيّها، لا أن يتبّع نفس الأشكال والوتيرة الملائمة للمجتمعات الغربية، أو غيرها. ولا أن نربط أنفسنا كذلك بما قد تحدّده الأجندات الليبرالية لمموّلي “المجتمع المدني” من أولويات مُسقَطَة، تعزل نضالات “الأقلّيات” عن النضال الطبقي والوطني للأغلبية، وقد تضعها فوقه أحيانًا، فيما يُحيل إلى “تحدّي سياسات الهُويّة” (أنصح بالاطّلاع على نصّ هامّ حول الموضوع للشيوعي الهندي براكاش كارات).

قد يقول البعض هذه خطوة إلى الوراء أو تبنٍ لمقولة “مش وقتُه”، أو تغليب للبراجماتية على المبدئيّة، وقد يقول بعض آخر أنّ هذا تمشٍّ “انتهازي ينافق الطبقات الشعبيّة”… أنا أرى بالمقابل أنّها نتيجة “التحليل الملموس للواقع الملموس”، والذي يخبرنا مجدّدًا قياسًا على مقولة لماركس أنّ المجتمع “لا يطرح على نفسه سوى المشاكل التي يقدر على حلّها”. وبالتالي علينا أن نسأل أنفسنا بصدق : « هل نريد ثورة منتصرة تستجيب لمصالح الطبقات الشعبية، كمدخل لمجتمع الحرّية والعدل والمساواة، أم البقاء حبيسي هواجسنا وطموحاتنا كأقلّية تمتلك قدرًا من النُبل والثقافة لكنّها عاجزة عن الانتصار بمفردها وعن تحويل ما تحمله من مُثُلٍ سامية إلى واقع معيش”.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *