الفساد السياسي تحت الرأسماليّة عبرـ القُطريّة: نظرة ماركسيّة (ج 2)

ترجمة – خاصّ – اقتصاد سياسي – تحليلات

مقال : بيتر براتسيس

ترجمة: ابراهيم حمزة

الرابط الأصلي للمقال

هذه تتمّة للجزء الأوّل من المقال، الذي نشرناه مؤخّرا.

التنمية وعبء الرجل الأبيض

حققت هاته المساعي الجديدة لمكافحة الفساد نجاحات وتأثيرا كبيرين فيما يخصّ كيفيّة تخَيُّل العالم وترتيبه حسب منطق النزوع إلى الفساد، ومن خلال ذلك في كيفية فهمنا للثراء النسبي للشعوب حول العالم. لطالما أعلَنت هذه السياسة الدولية الجديدة التي تتمحور حول الفساد أنّ هدفها من محاربته هو تدعيم التنمية الإقتصادية والسياسية حول العالم. ويكتب بيتر أيغن عن أسباب تأسيسه لمنظمة الشفافية الدولية:

“الفساد ـ سوء استعمال مؤتمن لسلطته من أجل المنفعة الشخصية ـ عقبة أمام التطور الإنساني. يشوّش على الأسواق التنافسية ويقود إلى سوء توزيع الموارد ويحمّل فقراء وضعفاء العالم عبئا لا يقدرون عليه… الفساد يستهزئ بالحقوق ويوّلد ثقافة السريّة ويحرم المحتاجين من الخدمات العمومية الحيوية ويعمّق الفقر ويزعزع الأمل”iii

كان واضحًا، على ما يبدو، لدى كلّ المهتمّين أنّ الفقر ونقص التنمية ناتجان في مجملهما عن الفساد وأنّ انبعاث هاته الحركات الجديدة المعادية للفساد غايته في نهاية المطاف محاربة الفقر ودعم الديمقراطية. هنالك الآن المئات من الكتب الجامعية والمقالات والتقارير التي تؤكّد هذا الإعتقاد وتبيّن كيف أن الفساد يكبح النمو الاقتصادي. يحوصل شانغ دجين فاي:

“تبيّن بحوث هيكلية قام بها عدد من المؤلفين مؤخرا أنه كلما كثر الفساد في بلد ما كلما كان نموه أكثر بُطئًا. هنالك قنوات عديدة يعيق من خلالها الفساد التنمية الإقتصادية. من بينها استثمار وطني محدود، إستثمار أجنبي مباشر محدود، مصاريف حكومية ضخمة، تركيبة غير متوازنة للمصاريف الحكومية…”iv

اليوم أصبحت هذه الأفكار ناجحة ومهيمنة إلى درجة أنه يتمّ فهم لا الفقر فحسب، بل أيضا كلّ شيء، من أزمة منطقة اليورو إلى الإنتفاضات السياسية بالشرق الأوسط والمأساة الإنسانية بهايتي، كنتيجة للفساد.

كما أشرتُ سابقا، تتماشى مثل هذه التفسيرات تماما مع وجهة النظر الإستعمارية النمطية بأنّ هناك شيء من داخل هذه الشعوب المحرومة يمكنه تفسير حالتها. في الأجيال السابقة، مسألتا العِرق والدين كانتا متفوقتيْن في تفسير التفاوتات العالمية. اليوم، هي قدرة الشعوب على تأجيل الكسب القصير المدى و/أو منظوماتها المؤسساتية وحوافز حكوماتها. أي، إمّا أنّ هؤلاء لديهم نزوع إلى الفساد لأنّهم ليسوا متحضّرين تماما (ليس لديهم ما يكفي من ضبط النفس) أو، إن كانوا عقلانيين كالجميع، فقوانينهم ومؤسساتهم السياسية تجعل تجنّب الفساد أمرًا غير عقلاني. منافع الإنخراط في الفساد تتجاوز التكاليف. تماما كما في الإيديولوجيات الإمبريالية السابقة، المشكل مع هذا الخطاب حول الفساد ليس فقط أنّه يلوم الأهاليعلى بؤسهم الإقتصادي؛ بل أنّ الفساد، مثلما هو الحال في استعمال العِرق كتفسير، ليس له أي جدوى تحليلية. هو لا يفسّر شيئا؛ الخطاب حول الفساد كمتسبّب في الفقر ونقص التنمية خطاب إيديولوجي بحت ليس قادرًا بأي طريقة على أن يفسّر نسب النموّ والفقر. عوض أن يكون وسيلة للفهم، هو وسيلة للخداع الإيديولوجي والهيمنة السياسية.

هذا الإدّعاء، أظن، سيكون جدّ صادم للكثيرين. على أية حال، يكفي استعراض سريع للعشر سنوات الأخيرة لإثارة شكوك بليغة حول جدوى الفساد كعامل تفسيري للنمو الإقتصادي، ناهيك عن الفقر والتطور. من بين تلك الدول التي تحرز بصفة مستمرة نتائج سيئة في معظم مقاييس العتامة/الفساد لدينا الصين والهند واليونان. في مؤشر مدرِكات الفساد لسنة 2010 حلّ كُلٌّ من الصين واليونان في المرتبة 78 والهند في المرتبة 87. في المجموع المطلق (الذي يتم على أساسه الترتيب) هذه الدول هي أقرب بكثير لقاع الترتيب من قمته وتحصلت على نتائج مماثلة لمدة تناهض العشرية. هل تسببت مستويات الفساد المرتفعة هذه في نقص في النمو الإقتصادي أو ركود؟

العكس تماما هو الذي حصل في هذه الحالة. كلٌ من هذه البلدان الثلاث تمتّع بنسب نمو اقتصادي تُكذِّب بصفة صارخة أيّ قدرة توقعية أو تفسيرية لقياسات الفساد. بلغ معدّل نموّ الناتج الداخلي الخام الصيني للعشرية السابقة 10%، وهو عدد مدهش. نفسه حال الهند التي كان معدّل نموّها 7.1%. في كلتا الحالتين، نسب النموّ أعلى بكثير من تلك التي تحققها البلدان التي تُعتبر خالية من الفساد (اللونين الأصفر والبرتقالي المضيء في خريطة مؤشر مدرِكات الفساد). لعلّ اليونان أكثر عمليّة في المقارنة. اذ اعتُبِر باستمرار كأكثر الأعضاء فسادا في منطقة اليورو، بدرجة معادلة للصين وتحت إيطاليا والبرتغال بكثير. ورغم ذلك فإنه في العشرية السابقة كان معدل نمو الناتج المحلي الخام لليونان 3.4%، أي الثاني في منطقة اليورو بعد إيرلندا (3.81%) وبعيدا فوق البلدان “غير الفاسدة” كفنلندا (2.11%) وألمانيا (0.85%) وبلجيكيا (1.54%). هنالك العديد من الأمثلة الأخرى التي يمكننا ذكرها والتي تتعارض مع العلاقة المزعومة بين الفساد ونسب النموّ، من البرازيل والأرجنتين إلى نيجيريا والموزمبيق.

كيف يمكننا تفسير هذا التضارب الواضح؟ سيشير أغلب الخبراء في الإقتصاد إلى تعدّد العوامل التي تؤثّر على النمو الإقتصادي وسيفسّرون أن نسب النمو كانت عالية في هذه الحالات رغم مستويات الفساد. في حالة الصين مثلا، ستتمّ الإشارة إلى الإستثمارات الأجنبية المباشرة أو فقط حجم اقتصادها كسمتين تمكناها من تجاوز انعكاسات الفساد. روزـ أكرمان تقولها بوضوح: “إقتصادات آسيا ليست استثناء. تلك التي تعاني من مستويات فساد عالية كانت لتستقطب أكثر استثمارات أجنبية مباشرة لو كان الفساد أقلّ”. يمكن أن يكون هذا صحيحا. وإن كان كذلك فهو يضرب الطرح الذي يربط الفساد بالفقر والتنمية، لأنّه عندها يصبح، على الأفضل، عاملا من بين عوامل أخرى متدخلة فيما هو أصلا عملية مركّبة.

إذا فهمنا الفساد بالطريقة التي يتم بها التطرّق إليه في الأدبيات المعاصرة، أي كضريبة أو كتكاليف إضافية على الإستثمار والنشاط الاقتصادي، فالقول أنّ الفساد يؤدّي إلى الفقر شبيه بالقول أنّ الضرائب تخلق البطالة. ربما يكون ذلك صحيحا لبعض النماذج الإقتصادية، ولكنها أطروحة مبتذلة إذا نظرنا للمجتمعات الموجودة على أرض الواقع. أطروحات مماثلة يمكن أن تكون: الأجور الجيدة وقوانين حفظ السلامة تكبح النمو الاقتصادي، ونفس الشيء يمكن أن يقال حول النقابات أو أي عامل آخر يزيد من التكاليف على رأس المال. على كل حال، لا يساهم إختزال مسألة النمو الإقتصادي أو تواجد الفقر في مستويات الفساد في تفسير تفاوت الثراء الاقتصادي حول العالم. اذ أنّ نمو الناتج الداخلي الخام، وهو مقياس غير دقيق طبعا لكنه المتداول في الأدبيات التي نناقشها هنا، لا يبدو أنّه يطابق “الفساد” كما يتمّ قيسه وإدراكه اليوم. في الواقع، يمكن أن يبدو أنّ بعض الأفكار القديمة أكثر نفعًا في تفسير العلاقة بين الفقر ونسب النمو والربح. ولعلّ من المفيد التذكير أنّه بالنسبة لآدم سميث نسب الربح العالية تتواجد حيثما يتواجد الفقر وليس الإزدهار:
“…نسبة الربح، على عكس الريع والأجور، لا ترتفع مع الإزدهار ولا تنخفض مع تقهقر المجتمعات. بل بالعكس هي منخفضة بصفة طبيعية في البلدان الثرية ومرتفعة في الفقيرة، وهي دائما أكثر ارتفاعا في الدول المتجهة بسرعة نحو الإفلاس”v

مثلما يتوقعه سميث نرى نسبا عالية من النمو الإقتصادي في بلدان يتفشّى فيها الفقر فيها (الصين والهند والبرازيل) ونسب نموّ منخفضة في بلدان مزدهرة نسبيا والأجور فيها عالية (فنلندا والنمسا وكندا إلخ). هل يجب إذن أن نقول أنّ الإزدهار الإجتماعي يحدّ من النمو الإقتصادي؟ لأنه يبدو أنه يفسّر أفضل بكثير من مستويات “الفساد”. لنذهب أبعد من ذلك ونتمعّن في جنون الجواب الذي تقدمه سوزان روزـ أكرمان حول أسباب تفشي الفقر في العالم وكون “حتى بعض البلدان المحظيّة بثروات طبيعية تسجل نسب نمو ضعيفة ومعدلات مداخيل منخفضة للفرد”. بالنسبة لها، يُعَدُّ الفساد والحوْكمة السيئة العامِليْن المفصلِيَّيْن لتفسير ذلك.أن يحاول أحدهم اليوم الإجابة على مثل هذه المسائل دون أخذ تاريخ الحروب الإستعمارية والقوة الإمبريالية (“المراكمة عن طريق الإفتكاك” بكلمات روزا لوكسمبورغ) أو المنوال الحالي لملكيّة هذه الثروات والمجاري العالمية للتجارة ورأس المال بعين الإعتبار، يدلّ بوضوح على أنّ إيديولوجيا الإقتصاد الرأسمالي قد أصابته بالعمى. وكأن الفقر في الدول الغنية بالثروات الطبيعية ليس له علاقة بالعنف والتحيّل والإضطهاد التي تمارسها دول المركز الرأسمالية. مُجَدَّدا، يُوَجَّه اللوم مباشرة للعيوب المزعومة في ثقافات ومؤسّسات المجتمعات المُفقَّرة نفسها.

يمكننا الذهاب أبعد من ذلك. نظرا إلى أنّ محاربته ليست إلّا أحدث نسخة من “عبء الرجل الأبيض”، فإنّ التركيز على الفساد ليس فقط مجرّد وجهة نظر تفسيرية عديمة الجدوى، بل هو يساهم أيضا في كبح وإفساد كل المساعي لفهم التطورات الإقتصادية والسياسية الحالية. لنتخذ في الأزمة الراهنة في منطقة اليورو مثالا توضيحيا، ملفّ اليونان بصفة خاصة. سُوِّق لظهور أزمة المديونية في أوروبا داخل الأوساط المالية والصحفية كمشكلة “بيقز”3. لماذا “بيقز”؟ لم تمسّ الأزمة فقط البرتغال وإيطاليا (وأيضا إيرلندا التي غالبا ما يتمّ إدراجها) واليونان وإسبانيا، بل تقريبا كامل الشريط المحيط بأوروبا. الوضع الإقتصادي الحالي لجميع دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) مثلا أسوأُ على عديد الأصعدة ممّا هو عليه ببلدان جنوب أوروبا. المملكة المتحدة، وداخل منطقة اليورو فرنسا وبلجيكا أيضا، تأثرت بصفة ملحوظة جراء انعكاسات الدَيْن العمومي.إسناد المشكلة إلى البيقزمرتبط جدًا بتفسير الظاهرة بالنزوع نحو الفساد والسلوكات الثقافية تجاه العمل والمتعة. عندما بلغت أزمة المديونية باليونان مستويات حرجة في بداية سنة 2010، إمتلأت التقارير الصحفية بقصص حول فساد متفشي في اليونان وأيضا حول سخاء شديد للمنح الحكومية والأجور وقصص أخرى حول الإسراف في المصاريف العمومية. تمثّلت الأطروحة المفصلية في أنّ ثقافة الفساد والزبونية والعيش السهل المتفشية في اليونان وبين شعوب البيقزالأخرى هي المتسببة في الأزمة. ليبدو إذن أنّ هاته السلوكيات الخنزيريةهي سبب الأزمة؛ أصبحت البيقزالكنية المختارة بفضل هذه القدرة على التفسير الفوري للأزمة على أنها نتاج لهؤلاء الجنوبيين الكسولين عديمي الإنضباط المتمرغين في الفساد والخمول الأناني.

هذا الفهم التلقائي يأخذ أزمة موجودة في العديد من البلدان (بعضها تُعتبر ذات درجات عالية من الفساد وبعضها الآخر ذو نسب منخفضة جدا منه) ويظهر فيها تقريبا في نفس الوقت ليقدم هذه الأزمة على أنها مسألة عيوب وطنية. الشعارات المتكررة في مدح الشفافية والتقارير الإعلامية المتواترة حول الفساد في اليونان قامت بترسيخ هذا الفهم كنمط مهيمن. يطرح نمط الفهم هذا نوعين من المشاكل. أوّلا وبكل بديهية هو لا يفسر الأزمة. إذ يتجاهل الأسباب الهيكلية والنظامية التي أدّت إلى مثل هذا الإختلال العميق والواسع. ثانيا هو يشرع ويبرر تدخل فاعلين أجانب لأنّ، في النهاية، العيوب الوطنية هي التي تسببت في المشكل منذ البداية. العديد من اليونانيين الآن يرون أنفسهم غير قادرين على تنظيم وإدارة اقتصادهم. الألمان، في النهاية، أكثر جدية وتنظيما وضبطا للنفس. هذا هو النهج الذي اتخذه الكثيرون لفهم فوز اليونان بكأس أوروبا سنة 2004. إذا يبدو أنّ اليونان لطالما كان لديه لاعبون موهوبون ولكن كان يجب أن يأتي مدرب ألماني بالإنضباط والنظام للنجاح. ونفسه الأمر اليوم، الألمان باسم الإتحاد الأوروبي من ناحية وصندوق النقد الدولي من ناحية أخرى سيتحمّلا عبء الرجل الأبيض ويفرضا الإنضباط ويزيحا المتهرّبين الضريبيين والمسؤولين الفاسدين والتسويات الزبونية التي قادت اليونان إلى أزمته الحالية. كون حتى اليونانيين أنفسهم يقبلون بضرورة سيطرة وتنظيم أجنبيّين، بصفة جزئية على الأقل، هو دليل لا ريب فيه على مدى نجاعة خطاب مكافحة الفساد في إرساء نسخة جديدة من “عبء الرجل الأبيض”. حتى السُمر والبنّيّين يصدّقون هذه الإيديولوجيا مثلما هو ضروري لكل خطاب استعماري كي يكون ناجحا.

خاتمة

القوى الإقتصادية والسياسية للرأسمالية ليست فقط مسلّحة بخبراء قانونيين وأسلحة نارية وأموال، بل لديها أيضا أفكار. من بين المفاهيم المتنوعة التي تخيط جراح البناية الفكرية البرجوازية، الفساد السياسي مفهوم أساسي. لكن فكرة الفساد مرّت، وإلى حدٍ ما، لم يتم فحصها ومواجهتها من قبل اليسار. أكثر من ذلك، إعادة سبك الفساد على أنه نقص في الشفافية لم يتجلّ بعد كموضوع للتحليل الماركسي.

هذه المقالة حاولت أن تبيّن دلالة هذا المفهوم الجديد للفساد في فهم التطورات المستجدة داخل الدولة الرأسمالية وأيضا في فهم الإيديولوجيا التلقائية التي تجلّت كردّة فعل تجاه اللامساواة حول العالم. هي تكتيك مفصلي في الطرق المتنوعة التي حاول من خلالها وكلاء وممثلو الرأسمال عبرـ القُطري الزيادة في استقلالية الدولة تجاه السكّان المحلّيين وتعزيز حركيّة رأس المال. يجب فهم المساعي المستجدة لمكافحة الفساد من قبل المجتمع الدولي على أنها معادِلة للمساعي الدولية التي عبّدت باسم الأمن وحقوق الإنسان الطريق أمام التمدّد الإمبريالي. ففي كلتا الحالتين، مجموعة من الأحكام والأفكار المقياسية تحاول تقديم أجندة سياسية معيّنة لمصالح دولية قوية على أنها منفعة كونية، شيء يتم القيام به لصالح المضطهدين والضعفاء عوض كونه جزء من الهيمنة الإمبريالية أو الإستعمارية الجديدة. شعار مكافحة الفساد المتكرر ليس طبعا حكرا على الوكالات والمؤسسات الدولية؛ هو واسع الإنتشار اليوم بين الأقوياء والضعفاء من شوارع القاهرة إلى قاعات اجتماعات زوريخ. في كل الحالات فكرة أنّ حكم أكثر “شفافية” أو “إيتيقية” يمكنه تعزيزالتطور الاقتصادي والحرية السياسية هي وهٌم عاجز عن الإعتراف بأبسط الحقائق حول الدولة الرأسمالية. صراعات المصالح الخاصة هي الدم الذي يسري في عروق السياسة البرجوازية، التأكيد على “الشفافية” الإدارية والإجرائية لا ينتج عنه حكم أكثر انفتاحًا على مصالح ومطالب الضعفاء والمهمشين. بل بكلّ بساطة هو يزيد أكثر في حجب العملية.

بهذا المعنى، التشديد على الشفافية لا يقود إلى وضوح أكثر بل على الأرجح إلى تغطية أكثر في الواقع. الإرتفاع في درجة الإستقلالية النسبية والتغيّر في شكلها اللذيْن تحاول حركة مكافحة الفساد صنعهما يمكن أن يكونا عمليّين للرأسمالية عبرـ القُطرية ولكنهما على الأغلب سيؤدّيان إلى تأثير أقلّ، وليس أكثر، للمصالح والحركات المحلية في السياسات والقوانين.

الولادة الجديدة لِـ “عبء الرجل الأبيض” في شكل حركات مكافحة الفساد تمثل أيضا تطورا غيّرَ كثيرا في طرق فهمنا وحديثنا عن مسألة الفساد. اليوم، كل شيء من المديونية إلى الفقر والمجاعة في المجتمعات الرأسمالية تُقدَّم كنتاج للفساد. سواءٌ كان التركيز على النقائص الأخلاقية والثقافية للناس أو على إخلالات مؤسسات النظام السياسي، تماثُل رؤى الرأي العام الشعبي اليوم إلى درجة التقليد ما كانت عليه في أوجّ حكم الإستعمار.

مجدَّدا، تحظى الحجج التي تربط مستويات الشعور بالفساد بنقص النمو والتطور بأتباعٍ أوفياء داخل وخارج الجامعة. وهي راسخة في المخيلة البرجوازية إلى درجة أنّ لا قدر كافٍ من الأدلّة يبدو بإمكانه هزّ هذا الرأي. كون أنّه يمكن تقديم الصين على أنها فاسدة للغاية وكأسرع اقتصاد ينمو لا يهزّ رأي خبراء الإقتصاد فيما يتعلق بضرورة التحرير التامّ للأسواق قصد تعظيم النمو والتطور. إن كان الفقر مازال متواجدا في العالم، ألقِ اللوم على عادات وثقافات السكان والسياسيين المحلّيين وليس على الرأسمالية أو النظام العالمي الذين هم جزء منه. هذا التفكير الإختزالي الذي يربط كل هذا العدد من الإخفاقات السياسية والإقتصادية بفشل أخلاقي وممارسات فاسدة تَجذَّر بسرعة وعمق لدرجة أنّ أعمال صامويل هنتنجتون أصبحت تبدو كعقلنة ودفاع، مناهضين للرأسمالية، عن سلوكيات البحث عن الريع وتشويش الأسواق من قبل الموظفين العموميين.

الحجج كما قُدِمت هنا كانت في شكل مختصر، وتتطلب أكثر تفسير للمفاهيم وأكثر بحث تجريبي حتى تتم بلورتها. رغم ذلك، تمثل هذه الأفكار نواةً قصد تحدّي المقاربات التكنوقراطية والأخلاقوية للفساد السياسي في الأدبيات الجامعية المعاصرة المهيمنة، وأيضا لتبيين ضرورة وجدوى مقاربة مادية تاريخية لمسألة الفساد السياسي اليوم. عوض أن نكون خدَمًا واعين أو غير واعين لقيم السوق والرأسمالية عبرـ القطرية، يجب علينا مقاربة هذا التدويل الجديد للفساد بكل ما أوتينا من رَيْبة وتشكيك نقدي.


1 نأكد هنا على أن مصطلح الشعبوية لا يحمل أي معنى سلبيا، إذ حافظ في المعجم السياسي الأمريكي (على عكس نظيره الأوروبي) على معناه الأصلي حيث الشعبوي هو المنحاز للشعب بمعنى الطبقات الشعبية وليس الديماغوجي أو المتطرف.

2 (volatility) درجة التغير وعدم الثبات

3 PIGS (Portugal, Italy, Greece, Spain)
وتعني أيضا بالإنجليزية الخنازير

i Poulantzas, Nicos : State, Power and Socialism, New Left Books, P. 106

ii Robinson, William I : A Theory of Global Capitalism : Production, Class and State in a Transnational World, Baltimore ; Johns Hopkins University Press, 2044, P.92

iii Eigen, Peter “Removing a Roadblock to Development : Transparency International Mobilises Coalitions Against Corruption ; Innovations, 3.2: 19-33, 2008, p.19

iv Wei, Shang-Jin, Corruption In Economic Development : Beneficial Grease, Minor Annoyance, or Major Obstacle ? The World Bank Policy Research Paper No. 2048, 1999, P.25

v Smith, Adam : The Wealth of Nations, Holloywood, FL, Simon and Brown Publishers, 2010 p. 154

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *