رأيْ | جانفي آخر ضائع

بقلم أميرة الحجلاوي

أميرة الحجلاوي
ناشطة سياسية

اكتسحت التحركات الاجتماعية جميع مدن البلاد في شهر جانفي، تحركات ثارت فيها الطبقة المهمشة ضد المنظومة الحاكمة مطالبة بالحق في الكرامة والتوزيع العادل للثروات والتنمية فأعادت إلى الأذهان جانفي 1978 مع جيل جديد وفي ثوب جديد. ولئن جدد الأمل في تصحيح المسار الثوري واستكمال المطالب فلقد عجز الحراك على أن يؤتي أكله.

رغم خطورة الوضع الوبائي شهدت كامل مناطق الجمهورية حالة احتقان اجتماعي تجسد أرض الواقع في شكل تحركات شعبية عفوية تواترت بنسق يومي ذات صبغة اجتماعية طالبت بالتنمية والتشغيل والنهوض بمناطق بأكملها أسقطتها المخططات والميزانيات المتتالية. فبدأ شبح جانفي يؤرق السلطة من جديد.

في ظروف أخرى كان تأزم الوضع الاجتماعي (تدني المقدرة الشرائية، ارتفاع نسبة البطالة، ضعف مؤشرات التنمية، قصور المنظومة التعليمية، اهتراء المنظومة الصحية ….) يمثل المعطى المادي القادر على زعزعة بنى النظام الفوقية من اعتمادات في الميزانية وقوانين تحمي مصالح القلة ضد الأغلبية ومنظومة اخلاقوية تدين التحركات. ولكان من السهل تثوير الطبقة المحرومة والمهمشة ضد طبقة المتنفذين من سلطة حاكمة وما يحيط بها من حزام ساند. أي لكان اتجاه التأثير والتأثر بين القاعدة والأفكار والتصورات عكسيا وهو ما يؤكد أننا في حالة جزر ثوري وأن الثورة لم تكتمل بعد فتصوراتنا وتونس التي نريد اختطفت من قبل مافيات الاعلام والسياسة.

نظريا كانت نتيجة التحركات مفتوحة على كل الاحتمالات خاصة مع مظاهر أزمة سياسية بين رؤوس السلط الثلاث لاحت في الأفق. لكن نجح النظام مرة أخرى في عزل التحركات واضعافها وجر الشباب المحتج إلى مربع ردة الفعل الضيق المطالب بإطلاق سراح معتقلي/ ات الرأي وتحويل الصدام مع النظام إلى صدام مع جزء من الشعب (أنصار الرجعيات: الاسلاميين والتجمعين) على أساس ما يناسب وما لا يناسب على مواقع التواصل الاجتماعي وبذلك تمكن النظام ولو جزئيا من كبح جماح هذه التحركات.

نجح النظام مرة أخرى في رد الهجوم والدفاع عن نفسه واستعصى على الانهيار ولئن توفرت لديه منظومة دفاع متجددة فإن ضعف خصومه) كما وكيفا (لعب دورا مهما فيما آلت إليه حصيلة المواجهات. وفيما يلي محاولة لتحليل ظروف هذا الفشل 

* الحراك والشعب:

 استعمل النظام وسائل الهيمنة الثقافية من أعلام تابع لاستمالة نزعة الكثيرين إلى المزايدة الأخلاقية.  فجيش قنوات إذاعية وتلفزية بما فيها من زاد بشري لبث رسائل تشيطن الحراك. وتم تمرير تدخلات مكثفة لمواطنين يستنكرون عمليات ’’ الشغب ‘’ ضد الفضاءات الكبرى. أي أنه طوع قيم الانضباط واحترام متاع الغير والأمانة والتحضر والمدنية لإيقاظ الوازع الاخلاقوي الذي شحنه ضد المتظاهرين/ات.

عمليا استطاعت الطبقة الحاكمة عزل الاحتجاجات وافقدتها الحاضنة الشعبية موظفة أدوات الدولة.

  وفي نفس سياق الانتصار لل “أخلاق” واجهت الوقفة المساندة للشبان الثلاث ضحايا قانون 52 يوم السبت 30 جانفي حملة تنمر شنيع واصفين المشاركين/ات بالميوعة وعلق الكثيرون على مظهرهم/هن الخارجي دون اعتبار لحجم الظلم الذي مورس باسم هذا القانون.

* الحراك والسلطة:

إن متابعة مستجدات الرأي العام عن كثب تبين طبيعة تعامل الدولة مع قضايا شعبها. هو تعامل متصل بجوهر النظام ويضمن مصالح الطبقة المسيطرة. وفيما يلي أمثلة تعد ولا تحصر مظاهر القمع والهرسلة. 

ففي 14 جانفي 2020 منعت قوات الأمن عائلات شهداء وجرحى الثورة من الوصول أمام وزارة الداخلية للتعبير عن غضبهم من المماطلة طيلة سنوات في نشر القائمة الرسمية. ومن الممكن تخيل العتاد لبشري الأمني والمعدات المروعة التي اعدت لهذا الغرض.

أما في القصرين وفي موجة الاحتجاجات الأخيرة أصبحنا نتحدث على مستوى جديد للعنف. لم يقتصر على إطلاق الغاز المسيل للدموع بل وصل حد إحداث جراح في الرأس جراء عبوات الغاز. أصيب الشاب هيكل الراشدي ليلة 18 جانفي بجراح مماثلة ليموت في 25 جانفي 2020 . وفاة هيكل الراشدي أثارت مواقف استنكار ونادت أصوات الأحرار والمنظمات الحقوقية المحلية والعالمية بفتح تحقيق نزيه ومستقل لكشف ملابسات عملية القتل هذه.

  لكن أصوات المدافعين على هيبة الأمن لم تندد ولا حتى باستعمال الغاز المسيل للدموع الذي رافق الموكب السلمي في جنازة هيكل الراشدي (*)

هذا إلى جانب سلسلة متواصلة من الإيقافات التعسفية والمتابعات القضائية التي تعرض ويتعرض إليها الرفاق/ الرفيقات والأصدقاء/ الصديقات الرافضون/ات للمنظومة. بل إن التهديدات طالت المحامين المدافعين على موقوفي/ات الحراك والذين بلغ عددهم قرابة 1600 شخص منهم أطفال قصر 

*الحراك واليسار :

فشل اليسار الرسمي في اقتناص لحظة تاريخية أخرى كانت قد تعطي المطالب الثورية الزخم والشرعية الضروريين رغم مشاركة رموز اليسار في التحركات. فكان غياب التنظيم اليساري القوي العامل الرئيسي في اهدار فرصة تتويج التحركات وتصحيح المسار. رغم ما يشهده الوسط اليساري من نقاشات وتقريب رؤى وتوحيد أرضيات فكرية وتجديد تنظيمي وولادة تنظيمات جديدة ضل اليسار يرزح تحت وطأة نقائصه ولم تساير حركة تطوره نسق تطور القوى الرجعية والنظام.  

تمثل معطيات الواقع طبيعة مهمة اليسار دون الحاجة إلى الرجوع إلى الأدبيات والنظريات. كان على اليسار العمل على الامتداد الشعبي والتموقع في كل الأحياء خاصة أحياء الطبقة المهمشة والمعدمة. وهذا ما نجحت قوى اليمين الرجعية فيه حيث تكتسب رصيدا انتخابيا قدر على جعلها في المقدمة في لعبة الانتخابات التمثيلية. وقد وضفت في ذلك لا فقط الامكانيات المادية بل أيضا طوعت خطابا يتماشى مع ما يستسيغه المواطن) الدين (

*الحراك و رئيس الجمهورية :

يعتبر الرئيس الشخصية السياسية التي تحظى بأكثر شعبية. وهو الوحيد القادر على التحرك بين المواطنين دون خشية على امنه الشخصي وسلامته الجسدية. إلى جانب اقتناع الكثيرين بصدق نواياه فإن رفض الشعب لكل الشخصيات السياسية لعب دورا في تعزيز ثقة مازال يعلق عليها الكثيرون امالا كبرى.

لكن هذا الرئيس الذي صوت له الشباب لم يتدخل على خلفية إيقاف المئات من المحتجين/ات ولم يصدر عن رئاسة الجمهورية ولو بيان تعبر فيه عن موقف رافض للايقافات ومساند لحرية التظاهر، في حين اتصل هاتفيا بالشاب الذي كان أول من أطلق خبر أو إشاعة محاولة اغتيال الرئيس بعد أن تم إيقافه من قبل الفرقة الفرعية للبحث في القضايا الإجرامية بالقرجاني إثر تصريحه.

إلا أن قرار الرئيس بعدم منح الثقة لوزراء تتعلق بهم شبهة فساد يعطي انطباعا بمساندته للتحركات الرافضة للفساد والظلم   وهذا ما يضعنا إزاء موقف ضبابي لإحدى رؤوس السلط الثلاث.  

إن اقتناص اللحظة التاريخية لا يكون بتوجيه المطالب وتأطير الاحتجاجات ومواجهة قوات النظام بقدر ما هو عمل على خلق ظروف هذه اللحظة والاشراف على تمثل مطالبها وصياغة اهدافها ومن ثمة إرساء البديل الاقتصادي والمجتمعي والسياسي القادر على الاطاحة بعصابات الاعلام ولوبيات الفساد والائتلافات الرجعية الحاكمة وعموم من تربطه صلة عضوية بالطبقة المسيطرة… بديل قادر على صياغة تصوراته ضمن رؤية جديدة تقطع نهائيا مع اليمين وتؤسس لإطار يضمن الكرامة للإنسان في ضل توزيع عادل للثروات.

لقد عبر الجيل الجديد على ورفضه للمنظومة القائمة بكل طرق وأساليب الاحتجاج ; وما تنوع شعاراته واختلاف رؤياه إلا نتيجة حتمية لاختلاف المشارب الفكرية والايديولوجيات.. إن مسألة الحريات والقضية البيئية وقضية تحرير المرأة هي قضايا عادلة لديها شرعية في كل دول العالم. كما أن لهذا الجيل طريقة مقاومة جديدة مختلفة عن طرق النضال التقليدية لأن قيم ومبادئ النضال تكتسب في الشارع. وهذا ما يعيدنا إلى 2011 حين أسقط الشباب النظام. لذلك دعوهم يعبرون كما يريدون لأنهم لا يتبنون الأفكار النمطية عن المقاومة بل يتعلمون من نضالهم وتولد معهم تعاليم نضالية جديدة. فلا مكان للمزايدة على الجيل الجديد ولا للوصاية عليه بل لا معنى للقطيعة بين الأجيال في ضل نظام يساوي في ظلمه بين الجميع.

طبعا لا ننسى غياب الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اختار أن ينأى بنفسه عن الحراك الاجتماعي وغلب منطق ’’ الحكمة’’ وضل متمسكا بالدعوة إلى حوار وطني محاولا في ذلك أن ينقذ الرجعية اليمنية وهو تلك القلعة التاريخية التي حسبناها منيعة.

 عموما هي مواقف تدفع حتما عجلة التاريخ في أحد الاتجاهين: إما المراكمة أو تراجع الحركة الثورية 

(*) https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2021/01/tunisia-investigate-circumstances-of-a-young-man-death/?fbclid=IwAR2DjFCCaphR0tQ4YR3WP6paoEZENaqI9nlJ1JYsquUnQcPbW33emOcKD1g


التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !