رأيْ | أن ننحاز طبقيا ونكتب جنسانيتنا بلغة الشعب

بقلم ياسمين هن

أجد نفسي كلّما أردت أن أستقي معلومة في ما يخصّ موضوع الجنسانيّة والجندر أهرع إلى محرّك البحث وأغيّر لغة لوحة المفاتيح إلى الانجليزيّة قبل أن أفكّر حتّى في صياغة موضوع البحث.

الأمر أصبح مزعجا ومحرجا لي أمام ذاتي منذ التزمت بالدّفاع عن اللغة العربيّة وتبنّيت شعار “الدّفاع عن اللّغة العربيّة هو قضيّة طبقيّة”. إنّني حين ألجأ للغة الانجليزية للبحث في مثل هذه الموضوعات يدفعني أوّلا انعدام ثقتي في المصادر العربيّة للإتيان بمعلومات موضوعيّة. حيث تبقى نتائج البحث المتوفّرة تدور في فلك النّصوص الدّينيّة والأحكام المجتمعيّة التي لم يتمّ تحيينها في العقل العربيّ بعدُ لتتناسب وما قدّمه العلم اليوم من اكتشافات. ويدفعني ثانيا إدراكي لمحدوديّة المصادر المتوفّرة بالعربيّة في ما يخصّ الجنسانيّة والجندر.

إنّ مجرّد الكتابة أو التّحدّث عن موضوع الجنسانيّة والجندر انطلاقا من تجارب خاصّة أو تجارب لأشخاص عايشناهم وسمعنا تجاربهم هو أمرٌ شاقّ ، لا فقط من حيث كونه تحدّيا لأطر الكتابة “المشروعة” والمسموح بها مجتمعيًّا بل أيضا لكونه تحدّيا لغويّا شاقّا بالنّسبة للغة لم تتصالح مع تعدّد الهويات الجندريّة ولم تقتحم هذا المجال بالأعمال الفكريّة والأدبيّة بعد.

وكي نسهّل تحدّثنا عن موضوعات تهمّنا بالعربيّة ، يجب أن نفكّر ونكتب فيها بلغتنا. ومهما بدا لنا الأمر شاقًّا فإنّه ليس أصعب من أن نواصل اغترابنا الهويّاتيّ عن مجتمعنا ونعمّقه معنًى ومبنًى أو نواصل جرح مشاعر أولئك المقرّبين منّا حين نحدّثهم بلغة تنبذ هويّاتهم ولا تعترف بها. فنساهم نحن ، من نعتدّ بتقدميّتنا ، في مزيد تغريبهمنّ عن مجتمعهمنّ.

إنّنا نقرّ بدايةً إذًا بأنّها مغامرة ، وبأنّنا مستعدّون لخوضها والاعتذار عمّا قد يرد فيها من أخطاء قد تُعزى إلى تقصير منّا أو قصور أو لكونها تجربة جديدة وغريبة وخاصّة لعدم إقدامنا مسبقا على خوضها. ولكنّها حتما ، لا يمكن أن تكون بأيّ شكل من الأشكال مسؤوليّة اللّغة العربيّة في ذاتها. ذاك تحليل مثاليّ ، لا علميّ للصّعوبة. تماما كمن يلوم على اللغة العربيّة قصورها عن مجاراة التّطورات العلميّة لكونها لغة لا علميّة في ذاتها. قصور اللغة نحن مسؤولون عنه لغياب الإنتاجات في هذا الموضوع بالعربيّة.

“أين نقرأ عن الجنسانيّة ، عن الجسد والجندر ، بلغتنا .. إن لم نكتب عنها بأنفسنا ؟”


من المؤكّد أن النّصوص لن تكتب نفسها بنفسها ، والبحوث لن تُجرى من العدم. يستوجب هذا كلّه التزاما بالقضيّتين معا ، بقضية الجنسانيّة واللّغة العربية. ولا أرى من الممكن الالتزام بإحداهما على حِدة دون التّطرّق إلى الأخرى.فالملتزم بقضية اللغة العربيّة يجب أن يعرف أنّ على لغته، حتّى لا تموت وتُهجَر ، أن تُواكب شتّى الموضوعات الّتي تتطرّق إليها اللّغات الأخرى. والملتزم بقضايا الجنسانيّة في بلد عربيّ دون أن يدافع عن العربيّة ويفكّر من خلالها في قضاياه يحكم عليها -على هذه القضايا- بأن تبقى محض ترفٍ فكريّ لا يُتاح إلا لأقلّيّة مثقّفة ستكون حتمًا في غنًى عن الإطلاع عليها لوفرة المصادر بلغات أخرى.

أمّا نحن فقضيّتنا وهويّتنا وصراعاتنا طبقيّة بامتياز ، فنتوجّه أساسًا إلى أبناء شعبنا ، إلى الطّبقات الشّعبيّة التي ندافع عنها. ودفاعنا عن حقوق الأقليات الجنسيّة والجندريّة لا يمكن أن ينفصل بأي حال من الأحوال عن انتمائنا وصراعنا الطّبقيّ. وهنا وجب أن نحدّد مفهوم التقاطعيّة بالنسبة لنا لنقيم حدّا بيننا وبين اللّيبراليين الذين كثيرا ما يتمّ جمعنا معهم في خانة واحدة.

لمَ لا يوجد خطّ فاصل بين اليسار والليبرالية في المخيال الشّعبيّ ؟

لهذا الخلط في المخيال الشعبيّ سببٌ موضوعيّ وهو الهيمنة الثّقافيّة لليمين المحافظ بصفة خاصّة والذي يروّج لمقولاته الايديولوجيّة بمغالطات عديدة منها سعيه إلى شيطنة اليسار بجمعه باليمين الليبراليّ واختزال صراعاته في الاختلافات الايديولوجيّة والمعارك الهُوويّة. ونحنُ بهذا لا نتبرّأ من دفاعنا عن هويّاتنا الثّقافيّة ولا الجندريّة ولا الجنسانيّة. ولكنّنا نتبرّأ من الطّرح الليبراليّ/ المثاليّ/ البرجوازيّ لهذه المطالب والذي يرفع شعاراتها دون اعتبار للظروف الموضوعية المادّيّة الواقفة خلفها.

ونقف كذلك على سببٍ ذاتيّ لهذا الخلط يتحمّل فيه اليسار مسؤوليته لاندماجه التّامّ الذي يصل حدّ الاصطفاف والتّذيّل لوجوه ليبراليّة / يمينيّة / برجوازيّة هي عدوّ طبقيّ وسياسيّ في محطّات تاريخيّة كانت فارقة في رسم صورة اليسار في المخيال الشّعبيّ. نذكر منها جبهة الإنقاذ ، أو نصّ حمّه الهمّامي الذي ناصر فيه آمنة الشرقي صاحبة تدوينة سورة الكورونا. نحنُ طبعا لا نعيب على اليسار هنا دفاعه عن هذه القضايا بل نلوم عليه عدم مراعاته لترصّد اليمين له ومحاولات التّشويه التي ستطاله إن هو لم يحسب لها حسابا ولم يواجه الجماهير بما يفنّدها مُسبقا.

وهكذا فإن المواطن العاديّ ، المواطن الذي عانى ويلات الفقر والتّجويع الاقتصاديّ والثّقافيّ ، يصدّق أنّ كلّ من يرفع علم الفخر هو “من جماعة شمس” وأنّ شخصيّات مثل مايا القصوري وألفة يوسف ومريم بالقاضي هي شخصيّات يساريّة. ويصل به الأمر إلى الاعتقاد بأن اليسار مرتبط أساسا بالكفر والزندقة ومرادف ل”أصحاب الشِّمال”. لا أبالغ هنا فقد تفاجأت زميلة لي في المعهد منذ سنة حين صرّحت في نقاش دار بيننا أنني يساريّة.

اتّسعت حدقتاها من الدّهشة والتفتت يمنة ويسرةً لتتأكد من أنّ أحدا لم يسمعني ، كما لو أنني تفوهت بكلمة بذيئة أو بتصريح قد يذهب برأسي. وقالت لي أنّ “اليسار” شتيمة ، وأنّ اليساريين سُمّوا كذلك لأنهم “أصحاب الشمال ما أصحاب الشِّمال ، في سموم وحميم”.

إنّ يسارا يتجه لشعب يحمل مثل هذا الوعي يجب عليه أن ينزل من برجه العاجيّ ، أن يتخلى عن نرجسيته الفكرية وخطابه المتعالي ليتوجه لهذه الطبقات بخطاب أكثر وضوحا وحزما. وأوّل خطوة في هذا الاتجاه هي الالتزام بلغة هذه الطبقات والكتابة بها إليها.

الجندر والجنسانيّة بين التّقاطعيّة وسياسات الهويّة؟

استعمل الكثير من ناقدي الماركسيّة قضايا الاضطهاد على أساس جنسي وجندري وجنسانيّ وعرقيّ ليفنّدوا مقولة الصّراع الطّبقيّ. لكنّ الحديث عن الصّراع الطّبقيّ لا يستبعد حقيقة وجود صراعات أخرى ولا ينكرها ، بل يؤكّدها ويفهمها فهمًا مادّيّا في إطار قراءة علميّة للتّاريخ وللواقع الاجتماعيّ بعيدًا عن الطّرح المثاليّ الذي يستهوي العاطفة لكنّه يسلك طريقا مسدودة النّهاية ودون أفق فعليّ. فالدّفاع عن الأقلّيّات الجنسية مثلا ، والدخول بمفاهيم تمثّلناها نحن ، المدافعون عن مجتمع الم.ع وحتى المنتمون إليه ، بعد صراع طويل مع موروثنا الثّقافيّ ، وبعد أزمات هويّة بلغت بنا حدّ الهوموفوبيا كتعبير عن رفضنا لذواتنا وخوفنا من مواجهة حقيقة هويّاتنا التي ستفرض علينا الانخراط في صراع وجود ضدّ أعراف المجتمع ، أن ندخل بمفاهيم لم نبلغها إلا بعد صراع وبحث شاقّ -ونحن أبناء طبقات وسطى ذات امتيازات نسبيّة مقارنة بالطبقات التي نسعى لإقناعها- دون قراءة علميّة لواقع هذه الطبقات ودون استبطان لأسباب تشبثها المستميت بقناعات تجاوزها الزمن ، هذا الدخول الصدامي العنيف الموغل في المباشرة هو انتحار سياسيّ.

في الحقيقة ، إنّ المواجهة الصداميّة بأي فكرة كانت ، مهما كانت تصبّ في مصلحة الجماهير ، دون التّسلّح بثقة هذه الطّبقات ، هو عمليّة انتحاريّة فعليّة.

إنّ ما يحمله لفظ التقاطعيّة من معنى قد يبدو مغالِطًا ، حيث يحيل فعل التقاطع على التقاء اعتباطيّ لمسارين مختلفين. بيد أن “الاعتباط” و”الصّدفة” مقولتان لا علميّتان. والتقاء المسارات هو حتميّة في تاريخ الصراعات الإنسانيّة من أجل البقاء والوجود ، حتميّة لامتداد سلسلة من المسبّبات المادّيّة التي تحتّم أن تكون الطبقات المستَغَلَّة هي أكثر الطبقات اضطهادًا وتحتّم ضرورة احتواءها على الفئات المجتمعية الأكثر عرضة للظّلم والتّمييز. اضطهاد العاملة هو حتميّة انتمائها الطّبقيّ الذي يمنعها من الاستقلال بذاتها لتكون كيانا كاملا مساويا للرجل ، اضطهاد فلاحة هو نتيجة حتميّة لمشروع تأنيث الفقر والاستثمار في الجهل لتوفير يد عاملة رخيصة لصاحب الأرض ، اضطهاد عامل مثليّ هو حتميّة استغلاله من طرف ماكينة الاستعباد الرأسماليّة التي تحرمه من حقوقه الاقتصاديّة خلافا لمثليّ برجوازيّ تمكّنه امتيازاته الطّبقيّة من عيش حياة مرفهة في أي بلد يتمنّاه ، اضطهاد عابرة جندريّا فلسطينيّة هو نتيجةٌ حتميّة للخطاب الأبوي الذي تروّج له سلطات الاحتلال وتدعمه في المجتمعات العربيّة ليخدم مشروع الغسيل الورديّ الذي يخدم مصالحها الاستعماريّة ، الخ …

فمفهوم تقاطعية الصراعات والنضالات إذن هو أقرب لكونه مراكمة حتميّة لسلسلة الاستغلال منه إلى التقاطع الذي يحيل إلى الصدفة ، ذلك أن الصدفة هي الوجه الآخر لل”قَدَر” بالمعنى المثاليّ ، قراءة أو استنتاج لاعلميّ ناجم عن جهل بالضرورات المسبّبة للظّاهرة.

وحتّى نوضّح طرحنا لهذه القضايا لا بدّ لنا من الكتابة عنها لا فقط كمدافعين عنها بل أيضا كيساريّين متمايزين عن الليبراليين في طرحنا لها وكمتحدّثين باللغة العربيّة كذلك.

يجب أن نُقيم مصالحة مع هوياتنا في إطار سياقها الأصليّ لا أن نهرب منها ونرتمي في أحضان ثقافة تغرقنا في الاغتراب عن الطّبقات الشّعبيّة وتبني بيننا وبينها هوّة يستحيل سدّها وتقيم صعوبات في التّواصل بيننا وبين أبناء مجتمع الم.ع الذين يشاركوننا الانتماء الثّقافيّ والحضاريّ. أذكر هنا أنّني مضطرّة منذ أيام لأن أتدرّب يوميّا على استعمال ضمير “هو” لصديق لا ثنائيّ الجندر لصعوبة محادثتهمنّ دون الوقوع في جندرة خاطئة لهمنّ ، ذلك أنّ اسمهمنّ “أريج” ، اسم اعتدنا على تأنيثه. في حين أنّني لا اخطئ حين أحادثهمنّ بالانجليزيّة مستعملةً ضمير “هم” (they).

ومن هنا واتتني فكرة إيجاد ضمير جديد ينقذنا من مأزق الجندرة الخاطئة وينقذنا من ذكوريّة اللّغة حين نطلق ضمير جمع المذكّر على مجموعة من النّساء يكون بينهنّ ولو رجلٌ واحد !

هذا الضّمير ليس بدعة ولا اختراعا جديدا من حيث الاصطلاح حيث أننا نستعمل الضّميرين مدمجين منذ مدّة ، كأن نقول “أحبّكم.نّ” اختصارا ل”أحبّكم وأحبّكنّ”. وبحكم تكرار الاستعمال للضميرين مجتمعين وتكرارهما في النّصّ الواحد عديد المرّات فقد اعتدنا على إدغامهما فنقرأ “أحبّكمنّ”.

وغرابة الألفاظ أو الضّمائر بالعربيّة ليست إلا نتيجة لحداثتها. فأن نستسيغ لفظ heteronormativity ونستهجن لفظ “المعياريّة المغايرة” فذلك لا يعني أنّ الأولى سهلة ولا انّ الثانية صعبة. بل إن دلّ على شيء فعلى اعتيادنا على الكلمة بلغة أخرى واغترابنا عن لغتنا.

لمَ لا نحيّن اللّغة إذن لتتصالح مع هويّات متحدّثيها ؟

اللغة العربيّة بما تحمل من دلالات روحيّة وما تشحننا به من أبعاد وجدانيّة تُكثّف في عباراتها تاريخ أمّة من الأحزان ، من الاستغلال والاضطهاد والمقاومة والكفاح في سبيل الوجود ، هي لغة اتّسعت لقصائد درويش ومظفّر النّواب وتشكّل وجهها ليسع الملامح القرمطيّة وأدبيات المقاومة والثّورة ، لغة قال فيها النواب في بيت يختزل الأبعاد الشاعريّة التي تأتي معها “يا حامل مشكاة الغيب بظلمة عينيك ، ترنّم من لغة الأحزان فروحي عربيّة” .. لغة بحجم معارك التحرر الوطنيّ وفيروزيات الصّباح … هي لغة وسعت “كلّ من وطئ الثّرى”.. لعلّي أستعير من تميم البرغوثيّ لأسأل ، “أتُراها ضاقت علينا وحدنا!؟”

اللغة العربية تحمل من المرونة والقدرة على مواكبة العالم ومنجزات العلم ما لا يعفيها من إقصاء أبنائها ذوي الحقّ الطّبيعيّ فيها. هي لغتنا وسنطالب بمكانٍ لنا فيها وسنفتكّه على اختلافاتنا ، لأنّ اختلافاتنا تثري انتماءاتنا وتشكّل “تقاطعية” من الدوافع تحتّم علينا التمسك بانتمائنا في معركة وجود ضد الاحتلال ، ضد المنظومة الأبويّة ، ضد منظومة الاستعباد التي تعيد إنتاج نفسها من خلال خطابها. حسنا ، إننا هنا اليوم لنقول انّ خطابنا أحقّ بعربيّتنا من الخطاب الرجعي الذي يخدم مصالح الاستعمار بطريقة أو بأخرى ، خطابنا هو خطاب تحدّ وفرض وجود لا يقوم على التنازل عن عربيتنا من أجل التمتع بحقوقنا في بلدان اخرى بل على التشبث بها لمعرفتنا بحقيقة صراعنا مع اعدائنا ، كلّ أعدائنا.

أخيرًا ، أترككمنّ مع مشروع غنّي عن التعريف ، الذي يحاول أن ينقل تجارب جنسانيّة وعاطفيّة مختلفة لأفراد مجتمع الم.ع في الوطن العربيّ من خلال تراثنا العربيّ نفسه :

على دلعونا ، وعلى دلعونا
منكم وفيكم بنضلنا هونا
منضلنا هونا بلادك وبلادي
حنّوا علينا الوطن الحنونا

منكم وفيكم وبعدو الشّارع
مش عارف احنا فعل مضارع
ما زهق فينا ، فينا يصارع
بدل ما يحارب الي احتلونا

منكم وفيكم واسأل المراية
طلطل ع روحك واسمع الحكاية
فيكم مازلنا من البداية
كبرنا بوطننا متل الزيتونا.

https://youtu.be/Babie8Aq-JU


التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !