رأيْ | فتيان عنيفون وفتيات عاهرات

بقلم صونيا بن يحمد

صونيا بن يحمد ناشطة وباحثة نسوية ومن أجل العدالة الاجتماعية

تتواصل الاحتجاجات في مختلف مناطق وأحياء تونس، خاصة  تلك المهمشة منها، ويتواصل التعامل الأمني معها بطريقة لا تدعو إطلاقا إلى الإحساس بالأمان، حيث تم استعمال العنف والغاز المسيل للدموع ليلا ونهارا، إلى جانب اعتقال قرابة ال1600 شخصا حد الساعة والزج بهم في “محتشدات”[1] لا تأخذ بعين الاعتبار أدنى مقاييس السلامة خاصة في الوضع الجائحيّ الذي تمر به البلاد والعالم بصفة عامة. 

وتصاحب هذا تغطية إعلامية منحازة بصورة واضحة للطبقات العليا ومصالحها حيث أعطيت المنابر بصفة غير متكافئة لممثلي النظام والمدافعين عن “هيبة الدولة” على حساب المحتجات والمحتجين ومناصري ومناصرات قضيتهم/ن، وتم وصف هؤلاء بالمخربين والعنيفين واعتبار تحركاتهم أعمال شغب، صوحبت ببعض الصور لفتيان ورجال بصدد سرقة أو تهشيم بعض المحلات التجارية أو التصدي لقوات البوليس.

ومثّل “عنف” فتيان الأحياء الشعبية وصما تم تداوله بكثافة حتى أنه لا يمكن الحديث عن الاحتجاجات دون تناولها في علاقة بمسألة العنف. وبما أن معظم من يخرج ليلا للتظاهر في الأحياء الشعبية من الرجال، في تقسيم تقليدي للأدوار الاحتجاجية والذي من الهام مسائلته، وبما أن هؤلاء هم أكثر من يتم قمعهم والزج بهم في السجون، فقد ارتبطت مسألة العنف واستعماله كوصم ضد المحتجين بالذكور.

ويترجم نظام الحكم هذا الوصم عمليّا إلى عنف مادي ورمزي تسلّطه قوات البوليس على شباب الأحياء الشعبيّة دون حسيب أو رقيب. ولعلّ أهم ما ميّز سلوك البوليس خلال الأيام الفارطة هو تعامله مع فضاءاتهم العامة والخاصّة وأجسادهم باستباحة تامة حيث أغار على أحياءهم واقتحم منازلهم ليختطفهم وينكّل بهم بعد ترويع أهاليهم.

أما النساء، فقد دار الخطاب الواصم لهن كما هو الحال أغلب الأحيان حول مظهرهن حيث تداولت العديد من صفحات الفيسبوك ومن بينها صفحات النقابات الأمنية صورا لمتظاهرات تم القدح فيهن وفي نضالهن ومشروعية تواجدهن في الفضاء العام من خلال القدح في مظهرهن الخارجي، فتم نعت هاته بالقبيحة (وهو كلام وجهه أيضا أحد أعوان البوليس خلال مسيرة يوم 23 جانفي لإحدى المتظاهرات وكنت شاهدة عليه) وتلك بالعاهرة وهو وصم قائم على تحقير عاملات الجنس كمثال مضاد للمرأة الفاضلة، لكنه يرتبط في الآن ذاته بإدانة كل النساء وبإدانة فئة معينة منهن.

وبالتوازي مع الاحتجاجات الأخيرة التي عرفتها شوارع البلاد تواصلت بقية أنواع التحرّكات من اعتصام جرحى الثورة للمطالبة بنشر القائمة الرسمية لشهداء وشهيدات وجرحى وجريحات الثورة، وتلك المتعلّقة بالتوزيع العادل للثروة والحق في التشغيل وغيرها من المطالب. ولعل أكثرها طرافة تجمّع عدد من المعطلات عن العمل في قفصة يوم 25 جانفي لإيداع عريضة طلاق جماعي احتجاجا على أقوال والي الجهة الذي كان قد طلب منهن الاكتفاء بتشغيل أزواجهن لإعالتهن والقيام بحاجياتهن رغم قيام هاته المحتجات بالمطالبة بحقهن في التشغيل على مدى ثلاث سنوات مضت.

وقد اعتبرن كلام الوالي احتقارا لهن ومسّا من كرامتهن، في ارتباط واضح  بشعارات ما فتئ يهتز لها الشارع منذ بداية المسار الثوري وحتى  التحركات الأخيرة التي نددت من ضمن ما نددت به بالحقرة والتعامل الفوقي لممثلي أجهزة الدولة مع الأكثر تهميشا من بين المواطنين والمواطنات. هنا أيضا تم استعمال نفس الوصوم للحط من الحركة الاحتجاجية في بعض التعاليق المصاحبة للفيديو الذي أجري مع المحتجات حيث تم نعتهن مرة أخرى بالقبيحات والعاهرات[2].

نفس الوصوم نسمعها خلال العديد من التحركات التي من المفروض أن تُجَمِّعُنا، تكون أحيانا مصاحبة بالفعل الجسدي من تهديد أو لمس سواء كان ذلك من المتظاهرين أنفسم أو من بعض المارة/المندسين.

ويفعل وصما العنيف والعاهرة فعلهما بواسطة آليات مختلفة في المجموعتين. إذ تجد النظام، وبما أنه مسكون بتصوّر فحولي وذكوري عن المجتمع وقواه الحيّة، في النهاية يرى العنيفين خطرا محدقا فيسعى لتدميرهم الآن وهنا مستبيحا ذواتهم ومحيطهم عبر عنف الدولة. في المقابل يعتبر صاحب السلطة من يصنفها عاهرة (كلّ النساء بشكل غير مباشر) خطرا محتملا فيقوم باستباحتها عبر (إعادة) تشكيل وعي جمعيّ يعتبارها متاحة بالضرورة. ويبدو أن رابطا يجمع بين الوصمين  فمنظومة الهيمنة تعتبر الجسد المتاح، الجسد غير القادر على الدفاع عن نفسه لذلك وجب ترسيخ دونيّته أما الجسد العنيف فهو قادر على الهجوم، فما بالك الدفاع عن النفس لذلك وجب تدميره أو على الأقل تحجيمه (عبر الضرب، السجن، إلخ). وصم العاهرة يمثّل وصم الضعيف المستباح ووصم العنيف هو وصم القوي المُهدِّدِ. 

من الممكن افتراض أن النساء المحتجات بالطرق التي لا تعتبر سلمية تستطعن زعزعة هذا الإطار إلا أن  رسوخ هذا الأخير وعدم تكافؤ موازين القوى خاصة في وسائل الإعلام جعل معظم الفاعلين والفاعلات يتجنبن محاججة مدى مشروعية اللجوء إلى العنف والتأكيد على مسألة السلمية في العموم، سلمية من المفترض أن تنطبق على النساء قبل الرجال. لذا فإنه وحتى لو تغير الخطاب حول مشروعية العنف فهذا التغير سيكون أسهل بكثير على الرجال من النساء حيث أن الخطاب العام حول العنف (الجسدي بالخصوص) الذي يربطه بصفة عامة بالرجال، ينفي قدرة النساء عليه، أو على العكس يبالغ فيه عند حدوثه، لأنه لا يعتبر أمرًا طبيعيًا (أنظر/ي مثلا دوفان وفارج (1997) وكاردي وبروفوست (2011)).

إن إمكانية خروج النساء من وصم العاهرة قد يتطلب المرور بوصم العنيفة إلا أنه سيكون أكثر حدة بكثير من نفس الوصم بالنسبة للرجال الذين لا يقوم بمسّ “طبيعتهم” (il ne les “dénature” pas) فالعنف والقوة الجسدية قطعا ليسا في تعارض مع الفكرة المهيمنة عن الذكورة إلا أنهما كذلك مع الأنوثة، على الأقل منذ الإنتقال نحو الحداثة، (أنظر/ي مثلا فيقاريلو (2004)).

يبدو من الهام مسائلة هاته الوصوم وما تعكسه وتعززه من أفكار نمطية ورغم استعمال كل منهما لضرب مشروعية المحتجات والمحتجين وافراغ أفعالهم/هن من جانبها السياسي، يبقى وصم العنيف “أنبل” وأكثر نديّة من وصم العاهرة، يبقى الجسد القوي الفاعل مثمّنا  أكثر من الجسد المتاح المفعول به والذي يمثّل توفّره (sa disponibilté) جزءا من طبيعته  لا مرتبطا بلحظة بعينها. 


[1] هو تعبير أستعيره من حمزة نصري جريدي،  أحد المعتقلين الذي تم إطلاق سراحه بعد 72 ساعة من الإيقاف والذي أعطى شهادة في الغرض خلال الندوة التي تمت يوم 24 جانفي تحت عنوان “احتجاجات شعبية دامجة”. الرابط: https://www.facebook.com/watch/live/?v=325162088769430&ref=watch_permalink

[2] الرابط نحو الفيديو: https://www.facebook.com/watch/live/?v=741226653467620&ref=watch_permalink


التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !