عمّال المساحات الكبرى: عمل هش بضغوط مضاعفة

عمر مرزوق

نشرت شركة ’عزيزة’ يوم 15 ديسمبر 2023 على صفحتها في الفايسبوك بيان اعتذار للحرفاء، أعلنت فيه اتخاذ التدابير اللازمة تجاه أحد موظفيها. كان ذلك بعد المشادّة العنيفة التي جمعته بالحرفاء في إحدى فروع المغازة، وقد صارت هذه المشادّة محطٌ انتقادات عدّة من المتابعين خلال اليوم الموالي.

تعود تفاصيل الحادثة إلى منتصف الشهر الحالي، حين فقد أحد عمّال ’عزيزة’، فرع البنان بالمنستير، السيطرة على أعصابه لحظة توزيع السكّر، وهو أحد الموّاد الأساسية التي تشهد نقصًا حادًّا مما أدّى إلى حالة من التهافت عليه وإلى حصول عديد المناوشات حول ذلك على امتداد البلاد.انتهى الأمر في الحالة المعنية بمقطع فيديو للعامل يرمي فيه السكر أرضًا ويطرد الحرفاء مستعملًا العنف اللفظي تجاههم. وكان المقطع كفيلًا بإثارة الجدل مرة أخرى حول نقص المواد الأساسية واسطوانة الاحتكار الرسمية المرافقة لهذا النقص، كل هذا عشيّة الانتخابات المحليّة. المثير في انطباع المشاهدين أن التعليقات شهدت تغيرا كبيرّا بين ليلة وضحاها، إذ تحوّلت  من الاستياء بسبب مشاهد العنف في المقطع الأول إلى المساندة المعنوية للعامل فور طرده ونشر الإعلام.

هل يتحمل العمّال المسؤولية؟

في سؤالنا لمهدي، أحد عمال عزيزة في إحدى ضواحي العاصمة، حول ظروف العمل داخل المنشأة، أكدّ لنا أن العمل في عزيزة وغيرها من المساحات الكبرى يجمع داخله كل مظاهر العمل الهشّ. إذ تعتمد هذه الشركات التجارية في مجملها على ارتفاع نسب البطالة واتساع دائرة نطاقها كإحدى عوامل الضغط على جميع مقوّمات العمل اللائق بداية بالأجور وليس نهاية بصحة العمال الجسدية والمعنوية. ويعلّل مهدي التعتيم الذي أحاط بالإجراءات حتى داخل شبكات التواصل الداخلية بحقيقة أن العمل في مثل تلك الظروف ينتج يوميا حوادث مشابهة أقل أو أكثر حدّة، وأنّه انعكاس لفقدان الشفافية في تعامل الشركة لا فقط مع الحرفاء بل حتى مع العاملين فيها. ويضرب محدّثنا المثال بتوقف الشركة عن إرسال سجّلات الأجور للشهر الثالث على التوالي دون أي تفسير مصاحب، علمًا وأن أجور الشهر الحالي كانت قياسية حسب قوله في حجم الاقتطاعات، أي دون احترام أي معيار للشفافية وبالتهديد المزمن للأجر الفعلي والثابت. وبالحديث عن الأجور يتقاضى مهدي حاليًا حوالي 550د موّزعة بين 400د من قبل الشركة و150د من قبل الدولة، باعتباره يخضع لعقد التكيف والاندماج المهني caip. أما بالنسبة لعقود العمل لمدة غير محدودة CDI فهي تتراوح بين 550 و 650د شهريًا بالنسبة للعمال، وقد تصل الأجور الفعلية للإطارات إلى حدود 750د، مع مراعاة الفارق في التحفيزات كذلك.

وتشتهر هذه المؤسسات عموما حتى في البلدان المتقدمة بضعف الأجور واعتمادها على ضعف المؤهلات معيارًا للانتداب، «ولكن في البلدان النامية التي تشكو سلفا من انخفاض الحدّ الأدنى للأجور (smig) فهذا العمل هو بمثابة الإعدام»، على لسان نفس المصدر. وحسب مهدي لا تتوّقف مظاهر التشغيل الهش في حدود الأجور المتدنية ولكنها تشمل كذلك تقسيم العمل وكذلك ساعات العمل. إذ يتم انتداب العماّل على قاعدة صلوحيتهم لكل المّهام، من ترصيف البضائع وأمانة الخزانة (caissier ) إلى الحراسة والنظافة أحيانا ببعض الفروع. يقوم مهدي وزملائه على سبيل المثال بتنظيف المغازة يوميا بعد استكمال مهامهم الأخرى. ويتمّ عموما تحديد عدد العملة والموظفين حسب ميزانية كل فرع حتى على حساب نقص العامل البشري. هذا ما يؤدي إلى اضطرار مهدي وزملائه أكثر من مرة إلى العمل لساعات إضافية، علمًا وأنّ هذه الاخيرة تحتسب بسعر الساعة العادي خلاف ما تنصّ عليه مجلة الشغل. وتتفرد عزيزة بهذه التجاوزات في تقسيم العمل وعدد ساعاته، إذ تحافظ المساحات الأخرى على مبدأ ‘لكل موقعه داخل الفضاء’ ويتقاضى العاملون فيها وفق الجدول المنصوص عليها في مجلة الشغل.

الأمر الذي أكدّه محمد الهادي، عامل حراسة بفضاء ‘مونوبري’ بإحدى ضواحي تونس العاصمة، حيث يضّطر حسب قوله للمشاركة في بعض الأعمال من باب الخروج عن رتابة الباب. ولكنه في المقابل يشير إلى الكثير من مظاهر الهشاشة حول عمله، إذ يتقاضى محمد 700د أجرًا فعليًا مقابل ستة أيام عمل غالبًا ما تصل ساعات العمل فيها إلى العشر ساعات. وقد أشاد محدّثنا بطريقة ساخرة نزاهة الشركة في احتساب الساعات الإضافية، والتي بالمناسبة هي شركة مناولة لأعمال الحراسة والنظافة متعاقدة مع المغازة. ويعمل محمد الهادي ذو 33 سنة للشهر التاسع داخل ‘مونوبري’ والى حدود اللحظة لايزال في فترة التجربة بعد تجديد عقد العمل لمدة محدودة عند انتهاء الستة أشهر ولا تشمله التغطية الاجتماعية إلى حدود اللحظة، وبالتالي محروم من الخدمات الصحية والاجتماعية المصاحبة إلى حين تغيير صبغة العقد إلى مدة غير محدودة. عند سؤالنا حول أفق الترسيم في هذه الوظيفة، أخبرنا الحارس أن هذه المهنة مؤقتة وأنه لا ينوي الاستمرار فيها، متأثرًا على غرار بقية شباب تونس بالهجرة نحو البلدان الأوروبية، وليست إلا مسألة وقت كما صرّح حتى يخرج. وحسب رأيه فطبيعة هذه الأعمال نفسها لا تقدم أفقًا، خاصة وأن عمال المناولة هم الأكثر هشاشة بين الجميع وأكثرهم مرونة في مدة العمل. والعامل الثالث الذي يعتبره مؤثرا في قراره بترك العمل عاجلا ام آجلا والتي بالمناسبة أصرّ على ذكرها هي التسلط الهرمي وادّعاء دور المرؤوسية الذي يمارسه الجميع، وهو إذ يشكو هذه الظاهرة العضوية في العمل الهش فهو لا يتكلم عن نفسه، إذ يؤكد أن وقع التعليمات يصبح أقل توتيرًا عندما تكون من كبار الحجم، مشيرًا بسخرية إلى وزنه.

عقود بدون التزامات

أشار خليل في حوارنا معه، وهو أحد الذين عملوا في السابق في ‘كارفور’ عندما كان طالبًا، أن هذه المساحات تستهدف الطلبة وغيرهم ممّن يعملون بدوام جزئي وبعقود محدودة المدة لأنّهم يزيدون من مرونة هذه الشركات في تعاملها مع العامل البشري ومع تقلبّات العرض والطلب. فمثلًا، في فترات الأعياد والعطل حين تشهد هذه المساحات حركية كبيرة يقع العبئ الأكبر على العمّال الأكثر هشاشة ومن ضمنهم الطلبة والنساء، باعتبارهم مخصصّين لهذا الغرض منذ لحظة انتدابهم. تتميز هذه الفئات حسب خليل بخاصيّات يحبذها المُشَغِل عمومًا وتجعل منهم أكثر مقبولية وإنتاجية أولا التوفرّ وقت الحاجة، وثانيا العمل الوقتي. إذ لا ينوي معظم الذين يتم انتدابهم على تلك الشاكلة مواصلة العمل هناك، ولا يكترث معظمهم بالترسيم والحماية الاجتماعية وغيرها من الحقوق الشرعية. فيصبح الأفق الطبيعي لضغوط الشغل المتواصلة، انسحابًا وليس احتجاجًا.

وأكدّ خليل أن الظروف متشابهة تقريبا في كل المساحات الكبرى ومحلات التجارة بالجملة، حتى الاختلاف في حجم المغازة وحجم المعروض فيها من سلع وخدمات يكاد لا يؤثر بتاتًا في هذا الواقع الهيكلي. ويزيد شح المواد الأساسية هذا الواقع صعوبةً وتعقيدًا، خاصة وأن الخطاب الرسمي لمكافحة الاحتكار يزيد من ذعر الحرفاء ومن شراستهم في صف ‘الكاسة’، وقد تصل أحيانا إلى اتهام العمّال أنفسهم بسرقة هذه المواد واحتكارها الزبوني كما جاء في بعض المواقع الاخبارية.1 وكلما لاح شبح الأزمة تصير الضغوط مضاعفة على هذه الفئات التي تمنعها طبيعة العقود من الدفاع عن حقوقها بشكل مباشر. فالعقود محدودة المدة  (cdd) وعقود الاندماج المهني (civp, caip) تحرم العاملين/ات من أيّة وسيلة تقف ضد إمكانية طردهم، إن بالقانون أو بواقع الممارسة اليومية تحت غطاء المرونة والتكيّف. وحتى الذين تشملهم التغطية الاجتماعية ويعملون وفق عقود غير محدودة المدة (cdi) يشكون نفس الوضع وغالبًا ما تتم مقايضة قدرة تحمّلهم بالترسيم. كما يجدر الذكر أن أغلب هذه المساحات لا تحترم الفترة القانونية للترسيم وتعمل على قطع الطريق أمامه. ‘عزيزة’ مثلا تتطلب العمل لخمس سنوات من أجل الترسيم، وفي كارفور “الترسيم إشاعة” على لسان خليل.

كيف نبقي الوضع تحت السيطرة

في معرض سؤالنا حول الآليات التي تحافظ بها هذه الشركات على استقرار الأوضاع واستمرارها على هذا النحو، تبينّا انطلاقًا من الشهادات أن هياكل الدولة الرقابية تتحمل المسؤولية الأكبر في تواصل هذه التجاوزات. فتأجيل الترسيم إلى الخمس سنوات كما في يحدث في ‘عزيزة’ أو الطرود التعسفية التي غالبًا ما تسبق الترسيم كما يحدث في ‘كارفور’، والساعات الإضافية مهضومة الأجر كما يحدث تقريبا في كل هذه المحلات والمغازات، لا يمكن في الأخير استمرارها دون توفر غطاء قانوني يشرّع لهذه التجاوزات ويصعب إمكانية محاسبتها، خاصة وأن هذا القطاع يعاني من فقر نقابي حاد، حاولنا استطلاع أسبابه والاتصال أكثر من مرة بالجامعة ولكن دون جدوى.

وعلى الرغم من كونه قطاعا يشهد تناميًا متزايدا ويستأثر بنسب عالية في الاقتصاد الوطني ويشهد حركية تشغيلية كبيرة( أكثر من 15000 عامل/ة حسب هادي بكّور رئيس الغرفة النقابية للمساحات الكبرى) إلا أن التمثيلية النقابية فيه ضعيفة للغاية. إذ ينقسم العمال داخل هذه المساحات إلى صنفين، أحدهما متغيّر والآخر ثابت. الأول يواجه العقود محدودة المدة والطرود التعسفية والأعباء الزائدة، والثاني يتمكن عبر سنوات من ضمان بعض الامتيازات على غرار الترسيم، وغالبا ما يكون هذا الصنف من الإطارات بالمغازة ( مسؤول أو مسؤول مساعد). وهذا يضعف إمكانية التحاق عمال هذا القطاع بالهياكل النقابية الناشطة فيه واتحادها على قاعدة مطلبية. جدير بالذكر أن الاتحاد العام التونسي للشغل، على الرغم من تواجده بهذا الفضاء المشحون، لا يحرّك ساكنًا، ومطالب عمال المغازات الكبرى يتم التفاوض حولها عبر تمثيلية هامشية في الجامعة العامة للصناعات الغذائية والسياحة والتجارة والصناعات التقليدية. ويعود آخر محضر اتفاق فاوضت بشأنه الجامعة إلى صيف 2021 وانتهى بالترفيع في الأجور بنسبة 6٫5% والعلاوات ب7%، بالإضافة إلى وتيرة متقطّعة في دعوات الإضراب.

كما يزيد عامل انتشار هذه المحلات الكبرى وتواجدها في كل المناطق من قدراتها الاحتوائية، إذ تتعمدّ تشغيل أبناء المنطقة أو بالأحرى “تشغيل الحريف نفسه” اقتباسًا من مدير ‘دي آر هاش’ أحد المجمعّات الغذائية في فرنسا.

حاولنا في هذا العمل إزالة اللثام عن واقع التشغيل داخل المساحات الكبرى لما يكتنفه من تعتيم واستغلال مسكوت عنهما بسبب الحاجة الملحّة للعمل وقصور مجلة الشغل عن توفير الحقوق الدنيا للعمال، وخاصة في القطاع الخاص.

لمزيد التفاصيل حول العمل الهش يمكنكم الإطلاع على ملف العمل الهشّ في تونس: تشريعات وآليات في خدمة الاستغلال الرأسمالي من إنجاز موقع انحياز.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !