ملف | العمل الهشّ في تونس: تشريعات وآليات في خدمة الاستغلال الرأسمالي

نص: عمر مرزوق
مراجعة لغوية: غسان بن خليفة
رسومات بيانية: تسنيم الولهازي
تصوير ومونتاج فيديو : وجدي المسلمي


يحتلّ العمل الهش منذ مطلع سنوات الثورة صدارة اهتمامات وأنشطة الحركات الإجتماعية وخارطة انتشارها محليا. إذ يطالب عمال هذه القطاعات الدولة منذ عقود بتسوية وضعياتهم وإدماجهم في قانون الوظيفة العمومية، إلى جانب إصلاح أشكال التعاقد المهني في الخاص. وهم يعتمدون في ذلك على الإتحاد العام التونسي للشغل، المفاوض شبه الحصري للأعراف في تونس.

بالكاد مرّت سنة واحدة طيلة العشرية الماضية، لم نسمع فيها عن تحركات عمال الحضائر، والأساتذة النواب وغيرهم، أمام مقرات السيادة وعن مواجهاتهم الدامية مع قوات الأمن. أمرٌ تحول إلى ما يشبه الحدث الدوري لتذكير الدولة بتعهداتها الاجتماعية. كل جلسة تفاوض تتبعها جلسات. وهكذا دواليك…

لم يساهم هذا على مدى سنوات سوى في اختصار التعاطي مع العمل الهشّ في حدود القطاعات العمومية. حتى تحولت هذه الملفات الى أداة تستخدمها السلطات المتعاقبة لتهدئة الحراك الاحتجاجي، الذي يواجه به جيش العاطلين الارتفاع المستمر لنسب البطالة. تشغيل تحت الضغط، التزام حكومي مهزوز و ظروف اجتماعية قاهرة تدفع الناس لانتظار الأسوأ. 

تاريخ العمل الهش في القطاع العمومي

تعود جذور هذه الهشاشة الى برامج التنمية بعد الاستقلال. فهي التي كانت وراء ظهور هذه القطاعات غير المحظوظة، في محاولة من الإدارة البورقيبية حينها لاستيعاب الفائض من قوة العمل غير المؤهلة وإعادة توطينها محليا. ويعزو رمضان بن عمر، الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية، ظهور هذه الأشكال من التشغيل إلى الطريقة التي استجابت بها الحكومات للضغط الاجتماعي ولتخفيف أعبائه في بعض المناطق. اذ يؤكّد أنّ ذلك يعود إلى السياسات التنموية التي أخذت منحًى نيوليبراليًا منذ السبعينيّات. والذي يكرّس التفاوت بين الجهات وبين القطاعات الإنتاجية بمبرّرات الاندماج والافضليات المقارنة.                                                                          

بدأ الأمر مع آلية العمل في الحضائر التي تم توظيفها في مشاريع البنية التحتية وفي الأعمال الفلاحية مثل، إعادة تشجير الغابات وتهيئة الأودية والسدود، حيث يتقاضى العملة منحة نصف شهرية منها جزءٌ عينيّ في شكل مواد غذائية ومواد تنظيف. ومعها بدأت تتجلّى أولى ملامح الهشاشة في العمل الإجتماعي، الذي تقدِّمه فئات متزايدة من السكان النشطين. أجور متدنية، عمل موسمي غير قار، الحرمان من التغطية الاجتماعية والتفاوض الاجتماعي وأخيرا درجة عالية من الخطر المادي والمعنوي يتعرضون لها يوميا في أماكن العمل. وحتى خريجي التعليم العالي المعنيين نظريا بالمصعد الاجتماعي شملتهم هذه الآلية بعد 1987 إستجابة لبرامج الإصلاح الهيكلي، التي سبقتها بالتمهيد سياسات الحزب الدستوري للضغط على الأجور في السبعينيّات. وتواصل العمل بهذه المقاربة التشغيلية في التسعينيّات. إذ قامت الدولة ببعث عديد الآليات المشابهة (الآلية 16 على سبيل المثال) لإمتصاص موجات الغضب الاجتماعي والتخفيف من نسب البطالة.           

إذ يدوم عقد “التشغيل والتضامن” (الآلية 16)  تسعة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة، يتقاضى بموجبها المتربص منحة قدرها 120 دينار، أصبحت 200 د بعد ماي 2013.

كما انخرطت الدولة في تطبيق أشكال العمل الهش في الوظيفة العمومية في إطار ما يُعرف بالمرونة في الشغل. اذ تم انتداب الآلاف من أصحاب الشهائد في هذا الإطار تحت مسمَّيات عدّة، أهمّها النيابة والتعويض التي شهدت تركزا كبيرا في قطاع التربية خاصة.                                                                                     

في مطلع الألفية الثالثة تم إحداث الآلية 20 ضمن تدخلات الصندوق الوطني للتشغيل بهدف حثّ الجمعيات على الرفع من نسب التأطير بها من خلال التشجيع على تشغيل حاملي الشهائد العليا. إذ يوقّع طالب الشغل على عقد عمل مع الجمعية المعنيّة لمدة خمس سنوات، يتحمل فيها الصندوق نصف نسبة الأجور المسندة للمنتدبين في حدود 250 دينار على ثلاث سنوات. في 2009 أصبح الصندوق يتكفل بدفع 250 د لمدة سنة قابلة للتجديد مرّتين مع عدم إلزام الجمعية بإسناد منحة تكميلية.

أرقام ومتابعة

بالعودة إلى دراسة المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية، يبلغ عدد عمال الحضائر الذين تمّت تسوية وضعياتهم قبل الثورة 18000 ممّن وقع انتدابهم قبل سنة 2000. أما الذين تم انتدابهم بين 2004 و 2011 ، والبالغ عددهم 12860 ، فقد تمّت تسوية وضعياتهم بعد الثورة تحت إشراف لجنة آليات التشغيل الهشة التي تم إحداثها سنة 2013 ، وتضم ممثلين عن إتحاد الشغل، وزارة التكوين المهني والتشغيل وممثلين عن الحكومة.

مع تواصل العمل بهذه الآلية بعد الثورة، يبلغ عدد عمال الحضائر اليوم ما يقارب المائة ألف بين حضائر فلاحية وجهوية. تركزهم الكبير هو في المناطق الداخلية التي تتسم بعدم الاستقرار السياسي (في القصرين وسيدي بوزيد وحدهما يعمل قرابة 35% من مجموع عمال الحضائر الجهوية). وإلى حدود اللحظة لا يتمتع عمال الحضائر بالتغطية الإجتماعية ومِنح التقاعد لأن الأجر الذي تشترطه مجلة الضمان الاجتماعي يعادل الأجر الأدنى أو يفوقه، وهو ليس الحال بالنسبة للعملة.

حسب تصريح لزياد العذاري، وزير التشغيل في عهد الترويكا سنة 2013 يفوق عدد المنتفعين بآلية التشغيل والتضامن 20000. منهم ألفان أصحاب شهائد عليها، وُعِدوا بتسوية وضعياتهم في السنة الأولى والبقية على خمس سنوات منذ سنة 2014  حسب الأقدمية والسن.                                                                    

منهجية التسوية كانت على النحو التالي: بالنسبة للمباشرين في الوظيفة العمومية، إدماجهم بصيغة التعاقد لمدة سنة ومن ثم انتدابهم كأعوان وقتيين وترسيمهم عند نهاية العقد. أمّا بالنسبة للمباشرين بالمؤسسات والمنشآت العمومية، فيتمّ إدماجهم عن طريق التعاقد وإدراجهم ضمن الأعوان القارين إثر قضاء المدة الشرطية للترسيم حسب كل مؤسسة على أن لا تتجاوز السنتين.

لا تتعدّى تسوية ملف الآلية 20 الـ 329 عون حسب آمنة الزويدي، الناطقة الرسمية باسم تنسيقية عمال الآلية. لكنها تمر حسب وزارة الشؤون الاجتماعية عبر الأمر 930 لسنة 2022 المتعلق بتنقيح وإتمام الأمر الخاص بإحداث المركز الدولي للبحوث والدراسات والتوثيق والتكوين حول الإعاقة. والذي ينص على توكيل المركز مهمة إحداث مركز تربية مختصة نموذجي بكل ولاية.

لم يمنع ذلك أعضاء التنسيقية من الدخول في إضراب جوع في فيفري المنقضي، احتجاجا على مماطلة الطرف الحكومي في تنفيذ تعهداته.

أمّا بالنسبة للأساتذة النواب، يبلغ عدد الدفعة الأخيرة قرابة الألف وقد تم الاتفاق معهم حول تحديد شهر ماي من هذه السنة كآخر أجل لصرف مستحقاتهم المالية، وتسوية وضعيتهم القانونية بحلول السنة القادمة.

وإلى حدود اللحظة لم تتحقق تلك التعهدات، الأمر الذي دفع تنسيقية الأساتذة النواب الى التلويح بإمكانية الدخول في إضراب جوع إذا لم تلتزم الدولة بالاتفاق. ويبدو الأمر صعب المنال، في خضم الصراع الذي يجمع وزارة التربية بـ”جيش الطباشير” حاليا. وما تخفيه الوزارة من أشكال جديدة للتعاقد الهش، من ذلك انتداب المدرسين كأعوان مكلفين بالتدريس كما أرادت الوزارة المضيّ فيه مطلع السنة الحالية.

يؤكد رمضان ين عمر، الناطق الرسمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أنّ العدد الحقيقي لعمال التشغيل الهش يقارب حجم المليون ونصف. وهذا الرقم المخيف هو نتيجة سياسات الانفتاح والإصلاحات التي ميّزت الحقبة الموالية للتعاضد وجملة القوانين المصاحبة لها، وعلى رأسها قانون 1972.

كما لا تلوح في الأفق محاولات إصلاح جدية لهذه الملفات المتراكمة. خاصة وأنّ الحكومة الحالية تعتزم تطبيق برنامج إصلاحات يهدد مباشرة الإستقرار الوظيفي حتى للموظفين المرسّمين. تراجع الوظائف العمومية سيكون بالضرورة لحساب القطاع الخاص، ولحساب أشكال التشغيل الهش التي تشهدا تركزا أكبر في هذا القطاع.

رمضان بن عمر : العدد الحقيقي لعمال التشغيل الهش يقارب حجم المليون ونصف

أشكال العقود

– عقد التكيف والاندماج المهني (CAIP):

لمدة سنة واحدة، يتقاضى بموجبها الأجير منحة إضافية من الدولة تقدر ب 150د، وتهم متخرجي التكوين المهني أو أصحاب مستوى باكالوريا.

– عقد الشروع في الحياة المهنيّة (CIVP):

يدوم سنة واحدة قابلة للتجديد مرة واحدة، يتقاضى بموجبها الأجير منحة إضافية من الدولة تقدر ب 200د، وتهّم أصحاب الشهائد العليا.

تتكفل الدولة بالنسبة لهذه العقود بالعلاج في مؤسسات الصحة العمومية للأجير حتى ينال ترسيمه بالمؤسسة.

– (CDD) عقد لمدة معينة:

يدوم حسب اتفاق الطرفين ويترتب عن ايقافه من قبل أحدهما، دفع المتبقي من مدة العقد.

– (CDI) عقد لمدة غير معينة المدة :

العقد الضروري من أجل عملية الترسيم، ويدفع بموجبها الأجير ضرائبه بشكل آلي لكي يتمتع بالتغطية الإجتماعية.

“عقد كرامة” : هو عقد عمل يتم توقيعه بين شركة خاصة وطالب شغل من أصحاب الشهائد العليا ، تعطي الدولة منها 400 د والمشغّل 200د، ويتمتع خلالها بفترة تكوين تطبيقي من شهرين الى 3 أشهر وشهادة في الإختصاص .

تتسم هذه العقود في مجملها بالهشاشة، لأنها تضع نصب اعينها مصلحة المؤجِّر أوّلا. ناهيك عمّا يشوبها من جدل قانوني واجتماعي لتأخر التنقيحات اللازمة بمجلة الشغل٫ وإعتماد هذه الأخيرة على الحوار الاجتماعي والإتفاقيات القطاعية والإطارية المشتركة سبيلا لتطويرها. يضاف إلى ذلك ضعف التمثيلية النقابية لمجموعة هامة من المتعاقدين غير المستقرين ممّا يزيد من صعوبة التخلص من علامات الهشاشة، ويطيل أمدها.

نقد مجلة الشغل التونسية

تتعرض مجلة الشغل منذ تأسيسها سنة 1966 إلى عديد الانتقادات، باعتبارها وثيقة إجتماعية بامتياز. فبين جناح يدفع في اتجاه مزيد من المرونة في العلاقات الشغلية تحت مسمّى الانفتاح على الإستثمار، وتحت وطأة الإصلاحات الهيكلية بقيادة الدولة ومنظمة الأعراف من جهة. وبين الإتحاد الذي يحافظ على توجهه الإجتماعي ودفاعه عن مصلحة الأجراء من الجهة المقابلة، تعقدت أوضاع العمال أكثر فأكثر. وقد زادت الدعوات لإعادة صياغة المجلة على ضوء التغيرات الهيكلية التي لحقت بسوق العمل في . محاولة لتقريبها أكثر ما يمكن من التشريعات الدولية المنظّمة للعمل.

على سبيل المثال، يرى الأستاذ حافظ العمّوري في دراسة أعدّتها منظمة فريديريش ايبرت الألمانية (التابعة للحزب الديمقراطي الاجتماعي والممولة من قبل الحكومة الفيدرالية الالمانية)، أن إضفاء المرونة صلب منظومة التعاقد خاصة فيما يتعلق بالدوام الجزئي لم تقابله التنقيحات اللازمة صلب منظومة الضمان الإجتماعي. اذ أنها تقبل المساهمات على أساس الأجور الفعلية ولا تمكِّن الأجير بدوام جزئي من جرايات تقاعد على أساس وقت عمل كامل.

كما أن فترة التجربة في بداية العقود لا تُحتسب كعمل فعلي، وبالتالي لا تخضع للتأجير المنصف وتحرم الأجير من المنح التي تُقَدَّم على أساس العمل الفعلي. كما أنها بحجة أولوية العقود الغير معينة المدّة تُخضع الأجير الى التجربة تقريبا بشكل إجباري. حتى وإن كانت بعض العقود معينة المدة لا تقتضي ذلك.

وتُعَدُّ العقود معينة المدة والفصول التي تنظمها ( الفصول 6-4)، خاصة فيما يتعلق بالترسيم الإجباري بعد أربع سنوات، حصيلة مفاوضات واتفاقيات مشتركة ساهمت في تعقيد العلاقة بين التوجه الحمائي للإتحاد من جهة وتوجه الدولة المنحاز لتوصيات المؤسسات المالية العالمية من الجهة المقابلة. ورغم يقظة الاتحاد تجاه الثغرات في المجلة ومحاولته إعطاء الأولوية للاستقرار المهني للأجير، تظلُّ الثغرات موجودة وستبقى كذلك لأنها تنتهي في أغلبها في مصلحة المؤجر. فالأربع سنوات قد تشهد انقطاعات متعددة، وتوظيفا متكررا تحت عقود معينة المدة  وبشروط مجحفة تمنعهم من المطالبة بالإستقرار المهني، وتحول دون حصولهم على حقوقهم المادية والمعنوية. وهو ما وقع بالضبط مع سنية الجبالي (نقابية سابقة وموظفة حاليا بالتعاقد بالوكالة البلدية الخدمات البيئية)، التي لم يقع ترسيمها بعد أربع سنوات من العمل في إحدى الشركات الفرنسية المستثمرة بتونس (أوف-شور). وتم توظيفها على قاعدة بنود مجحفة في العقد، تمنعها هي وزملاؤها من المطالبة بالترسيم، وتحول دون حصولهم على حقوقهم المادية والمعنوية. والتي تؤكد أنها ليست المرة الأولى التي يتم تسريحها من العمل بدافع حرمانها هي وزملاؤها من حقهم في التفاوض الإجتماعي، ومساءلة السياسة التشغيلية للمؤسسة.

سنية الجبالي: تم توظيفي ببنود مجحفة في العقد تحول دون الحصول على حقوقي المادية والمعنوية

تشير الجبالي إلى أنّ هذه الظروف الغير اللائقة للعمل لم تنتهي بدخولها الوظيفة العمومية، بل زادت أكثر، خاصة مع إستمرار سياسة التقشف والضغط على الأجور التي توجه منظومة الحكم منذ سنوات.

كما يلفت الأستاذ العموري النظر الى الشرائح التي يتم عادة إغفالها، كعمال المناولة. الذين، بدون إتفاقية دولية ودون حماية قانونية بموجب تنقيحات في مجلة الشغل، ما يزال معظمهم يشكو من تبعية قانونية مباشرة وإقتصادية غير مباشرة إزاء الشركات المستفيدة من عملهم المؤقت. ولا يعفى القطاع العمومي كذلك من إنتشار أعمال المناولة. رغم الاتفاق الحاصل بشأنها سنة 2011.، إذ تم الإلتفاف حول هذا الإتفاق في أكثر من مناسبة كما جاء على لسان رمضان بن عمر. وحتى محاولات التضييق على مناولة اليد العاملة، أُفرغت جميعها من محتواها لأن إقتصاد البلاد بمجمله، قائم على مناولة الأنشطة ذات القيمة المضافة المنخفضة، بأجور بخسة تعزز من تنافسية اليد العاملة في السوق العالمية.

السوق العالمية التي تتوسع في بعديها البضاعي والمالي فقط دون الحاجة لرفع الحواجز أمام العمل، . لأنه يهدّد حصول رؤوس الأموال في مراكز النظام الرأسمالي المعولم على فائض القيمة الذي ينتجه لهم عمال الدول الطرفية. وتلك الحواجز هي نفسها التي يتسلقها المهاجرون (وأحيانا كثيرة لا ينجحون في ذلك) بحثا عن معدلات أجور أعلى تقيهم من الهشاشة التي تفرضها الإستثمارات الأجنبية على طبيعة أعمالهم داخل بلدانهم، وما يستتبع ذلك من إملاءات إستعمارية تنتهي في جميع الحالات بهروب الرساميل نحو الفراديس الجبائية وفراديس العمل منقوص الأجر. وعلى من ترضى ! ويكفي النظر الى قصور أغلب مجلات الشغل في الدول النامية فيما يتعلق بحماية الأجراء لتبيان ذلك.

وحتى إمكانية العقلة التحفظية في صورة شك الأجير في مدى استقرار المؤسسة التي يعمل بها وإمكانية إفلاسها أو تغيير مكانها، فإنّها تبقى دائما إمكانية سهلة التلافي بإعتبار الضغط الذي يمارسه أصحاب العمل على الأجراء الذين يتحملون دائما القدر الأكبر من الخسائر. حتى الاتفاقيات القطاعية والإطارية المشتركة منذ التسعينيّات لم تذهب في اتجاه مزيد التضييق على إمكانية الطرد التعسفي من قبل المؤجر. بل ذهبت في مزيد إعفائه من التعويضات والغرامات التي تنجرّ عن هذا الطرد، تحت مسمى حماية المؤسسات من الافلاس، وتركت للجنة مراقبة الطرد (معينة من وزارة الشؤون الاجتماعية وهناك جدل حول صلاحياتها والصبغة القانونية لتدخلها ) حرية التفاوض وتقدير حجم التعويض. وذلك إعتمادا على حد أدنى واحد أقصى لا يضعان في الاعتبار التفاوت في أحجام المؤسسات واختلافاتها القطاعية. مع التذكير بأن اجراءات التقاضي الشغلية في حالات الطرد التعسفي أو فيما يتعلق بقضايا التقاعد تشكو من بطئ مسار التحقيق. فإذا كانت الأجور غير ثابتة أو طريقة إحتساب الأجور غير ثابتة، تحيل المحكمة القضية الى الإختبار. وهو قد يساهم في تأخر إجراءات التقاضي مما يتطلب إضفاء صبغة استعجالية على هذه القضايا. بإعتبار أنها ذات طابع معاشي له انعكاسات اجتماعية مباشرة. أن يدخل قرار المحكمة الإبتدائية حيّز التنفيذ دون إنتظار قرار محكمة الإستئناف والتعقيب، هو أحد الحلول المقترحة بهذا الصدد من قبل المحامي والباحث نادر الخماسي.                                                                    

وقد أشار كذلك في حوار إذاعي، أن السقف الزمني لرفع الشكاية في حالة الطرد، المتمثل في مدة سنة واحدة منذ خروج الأجير من المؤسسة، يستحق التمديد في الآجال القانونية نظرا لحالات الإستثناء العديدة، ومن بينها المرض.

حقل إعادة الإنتاج، هشاشة معترف بها

تشير ليا فوسكو، أستاذة العلوم السياسية بكندا، في دراسة مقارنة حول العمل الهش في كندا، الى تزامن ظهور العمل المنظم مع ولادة أشكال متجددة من العمل الهش. فالعقد الذي يجمع بين العمل بأجر دائم ودوام كامل، مع درجة من اليقين في إستمرار العمالة والتحكم في العملية الإنتاجية ودرجة من تنظيم الحماية والذي ظهر في المصنع قبل ظهور الكتلة البيروقراطية (الوظائف الادارية)، مرتبطا بالعمال الذكور الأوائل في الياقات الزرقاء (العمل اليدوي) وبعد ذلك في مهن ذوي الياقات البيضاء (العمل الذهني المكتبي)_ كان شجرة دولة الرفاهية التي تخفي الغابة وراء لافتات دعايتها الرسمية. إذ تم بناؤه كنموذج معياري، موجود بشكل مستقل عن الأفراد. حيث يتم توزيع الاستحقاقات والتحفيزات القانونية على العمال وعائلاتهم من خلال عائل واحد.

وهذا لا يشكل أنماط القوة العاملة فحسب، بل أيضًا الالتزام الأسري وأشكال الأسرة المعيشية، التي تمثل عنصرا أساسيا في حقل إعادة إنتاج قوة العمل. وهذا الفضاء الذي يشكل العمل المنزلي غير مدفوع الأجر سمة رئيسية فيه، تم تخصيصه حسب قولها لقوة العمل النسائية. وذلك في تقسيم واضح للعمل على أساس جنسي، خاصة في المناطق التي يجد فيها الخطاب الذكوري حاضنته المثالية، ويصعب فيها التصادم مع البنى الإجتماعية والثقافية الموروثة من السابق. ويمكن سحب هذا الشكل من التمييز تقريبا على الكثير من الأنشطة التي تشارك فيها العاملات. في تونس مثلا، يتعرض العمل النسائي في الريف إلى جميع أشكال الإستغلال ويجمع كل ملامح الهشاشة. اذ أصبح العمل الفلاحي المأجور تقريبا حكرا على النساء، أين تحقق الشركات الفلاحية وكبارا الملاكين أكثر ما يمكن من الأرباح. يكفي النظر الى عدد الأرواح التي حصدتها حوادث نقل العاملات الريفيات لتبيان ذلك.

العمل الهش ربيبا للعولمة الرأسمالية !

تؤكد نفس الكاتبة، في معرض حديثها عن أشكال التعاقد والتشغيل في كندا، أنّ العمل الهش يستمر في الظهور لا فقط في القطاعات التي يزاولها العمال المهاجرين، بل أصبح ذلك بمثابة الإستراتيجية الرسمية في التشغيل. إذ تخفي الشعارات من قبيل “المواصلة عبر التغيير” في كندا و “التوظيف الكامل” في الولايات المتحدة حقيقة أنّ الإستقرار الوظيفي يتم التخلي عنه تدريجيا لصالح المضاربة في الأرزاق، وفسح المجال لتلاعب الشركات بالرأسمال البشري كما تريد. حتى المسائلة الإجتماعية، التي نادرا ما أصبحت توجّه للسياسات الشغلية، يتم تعليلها دائما بخطاب الأزمة. أين يتم صهر كل التناقضات في مواجهة العدو، كالدعاية التي تزامنت مع الكوفيد وما لحقها من تحميل لأعباء الجائحة على عاتق العمال في العالم بأكمله. إذ يتعمد هذا النوع من الخطاب عدم التمييز بين العوامل الداخلية والخارجية للأزمات، الأمر الذي حاولت منظمة العمل الدولية القيام به عمله في دراسة أجرتها سنة 2016 حول التوظيف اللائق في حالات الهشاشة والكوارث. ولكن دون جدوى ملحوظة، خاصة في المستوى التنفيذي، فاكتفت المنظمة بتقديم المقترحات وإعداد الدراسات لذر الرماد على الأعين إن صحّ القول.

اذ من الواضح أنّ هذه المؤسسات العالمية في مجملها، لا يسكنها سوى هاجس التكييف والتكيف مع تغيّرات العرض والطلب.


المراجع

https://ftdes.net/rapports/hadhayer.pdf

https://www.emploi.nat.tn/fo/ar/global.php?menu=8

https://tunisia.fes.de/…/docum…/publications/Contenu.pdf

https://www.facebook.com/watch/live/?ref=watch_permalink&v=774230150615458

https://books.google.tn/books?id=8oj-MocTC8gC…

https://www.ilo.org/…/WCMS_580065/lang–en/index.htm

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !