رأيْ | إشكاليّة خلاص الأجور إبّان “أزمة كورونا” : عمّال القطاع الخاصّ بتونس نموذجًا

بقلم فوزي الشيباني

كاتب عامّ مساعد سابق بالجامعة العامّة للنفط والمواد الكيمياوية بالاتحاد العام التونسي للشغل

يواجه العالم في الوقت الراهن تحدّياً تاريخيّاً ورهاناً كبيراً يتمثل في مدى القدرة على إدارة أزمة فيروس كورونا والحدّ من تداعياته الخطيرة على المستوى الصّحيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.

فمن المعلوم اليوم أنّ كلّ الدول في العالم تقريبا سجّلت انهيارا لمنظوماتها الصّحيّة وعجزاً عن استيعاب العدد الكبير للمصابين بهذا الفيروس وفشلاً في تأمين الخدمــات الصّحيّة الضروريّة. اذ يكفي أن نذكُر النّقص الفادح في مستلزمات الإنعاش والأسرّة الكافية لإيواء المرضى، فضلَا عن غياب جاهزيّة مخابر التحاليل المختصّة، إضافة إلى النّقص الواضح في الإطار الطبيّ وشبه الطبيّ لمواجهة هذا الفيروس والحدّ من انتشاره.

أمّا على المستوى الاقتصادي، فقد شهد الاقتصاد العالميّ منذ الثلاثيّة الأولى من هذه السّنة أسوأ تراجع في نسب النموّ، لم يشهده العالم منذ أزمة الثلاثينيات في القرن المنصرم، نتيجة توقف أغلب الأنشطة الاقتصاديّة والصّناعيّة والتجاريّة والخدماتيّة. إذ أُجبِرت المصانع على إيقاف نشاطها وأُغلِِقَت الحدودُ وعُلِّقَ السّفر ونقل البضائع جواً وبحراً وبرّا بين الدول.

وفي تقييمها لما آل إليه الوضع الإقتصادي العالمي، حذّرت كريستالينا غورغييفا مديرة صندوق النّقد الدوليّ خلال ندوة صحفيّة عقدتها في 27 مارس المنقضي قائلة:

“إنّ العالم يواجه أسوأ أزمة إقتصاديّة منذ الكساد الكبير الذي وقع في ثلاثينيات القرن الماضي… وإنّ الأسواق الناشئة والدول النامية ستكون الأكثر تضرراً، ونتوقع الآن أن تشهد أكثر من 170 دولة تراجعاً في الدخل الفردي لهذا العام …”.

وبما أنّ المسألة الإقتصاديّة هي المحرّك الأساسيّ لجميع المجالات الحيويّة والإنسانيّة ، فإنّ لهذه الأزمة الاقتصاديّة انعكاسات مباشرة على المستوى الإجتماعيّ، ممّا دفعَ دول العالم في دوّامة معقّدة ومُربكة من أبرز عناوينها  “ارتفاع معدلات الفقر والتهميش والبطالة”. إذ أفادت مُنظّمة العمل الدوليّة أنّه في حال تواصلت هذه الأزمة ستُفقَد 25 مليون فرصة عمل حول العالم، منها 1,7 مليون فرصة في الوطن العربيّ.

ويؤكّد غاي رايدر، المدير العامّ لمنظّمة العمل الدوليّة، في هذا السّياق:

“هذه ليست مجرّد أزمة صحيّة فحسب. بل أيضاً أزمة سوق عمل وأزمة إقتصاديّة كبرى لها أثر هائل على البشر”.

وفي سياق متّصل، حذّرت مُنظّمة العمل الدوليّة في آخر دراسة أعدّتها حول هذا الموضوع ، من أنّ “بعض الفئات ستتأثّر من أزمة الوظائف أكثر بكثير من فئات أخرى ممّا يفاقم عدم المساواة… ومن هذه الفئات العاملون في الوظائف الأقل حماية والأدنى أجرا “

ومن هذا المنطلق نسعى في هذا المقال إلى المساهمة في دراسة وضعنا القُطريّ في علاقة بهذه الأزمة واستتباعاتها. وذلك بمحاولة الاجابة على الأسئلة التالية:

 ـ كيف كان أداء القيادة السّياسيّة في تونس لمواجهة انعكاسات الوباء العالمي؟ وماهي الإجراءت المتّخذة؟

  وهل نجحت في التخفيف من انعكاساته الاجتماعيّة؟

– وهل من سبيل إلى عدم توتير المناخ الاجتماعيّ؟

1-الإجراءات الحكومية المتّخذة وامضاء اتفاق 14 افريل 2020

في 20 مارس المنقضي، أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد في خطابه، إثر اجتماع مجلس الأمن القوميّ، عن أُولى الإجراءات التي تمّ اتّخاذها لمجابهة أزمة وباء فيروس كورونا،  بدءًا “بالحجر الصّحيّ العامّ” بالبلاد.

وتمّ التأكيد على هذا الاجراء في اجتماع المجلس الوزاري المُضيَّق الذي انعقد يوم السّبت 21 مارس، اضافة الى الاعلان عن حزمة من الاجراءات الاستثنائيّة، وعددها 23 إجراءً، بكلفة ماليّة تبلغ 2،5 مليار دينار وبعنوان “مجابهة تداعيات وباء كورونا، والحدّ من تبعات قراريْ حظر الجولان والحجر الصّحيّ الشامل على الشرائح الاجتماعيّة وعلى النسيج الاقتصادي “.

وَخُصِّص مبلغ 300 مليون دينار من مُجمل المبلغ المرصود  لغاية الإحاطة الاجتماعيّة بالعمّال، وتمكين المتضرّرين منهم من مساعدة اجتماعيّة بعد أن أُجبِروا على البقاء بمنازلهم وعدم الالتحاق بالمؤسّسات التي يعملون بها، تنفيذاً لما ورد بالفصل الثاني من الأمر الحكومي عدد 156 لسنة 2020 : ” يُمنع على الأعوان العموميين وأعوان القطاع الخاص التنقّل خارج مقرات اقاماتهم إلا بناءً على ترخيص تقتضيه ضرورة العمل”.

ومن جهة أخرى، أصدر وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العموميّة والحوكمة ومكافحة الفساد بلاغاً بتاريخ 22 مارس أعلن فيه: “إنّ الأعوان العموميين خلال فترة الحجر الصّحيّ هم في حالة مباشرة “.

ومن هنا، نستنتج أنّ الحكومة خرقت مبدأً دستوريّا، وهو المساواة أمام القانون. اذ نصّ الفصل 21 من الدستور :

“المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواءٌ أمام القانون من غير تمييز.

– “تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفرديّة والعامّة وتهيّئ لهم أسباب العيش الكريم.”

فعلى أيّة قاعدة يتمّ التمييز بين أعوان الدولة وعمّال القطاع الخاص المعنيّين بالحجر الصّحيّ الشامل، في حين أنهم أُجبرُوا من طرف الحكومة على عدم الالتحاق بعملهم؟

فأيُّ عدل يضمن، وبكل وضوح، خلاص أعوان الدولة خلال فترة الحجر الصّحيّ الشامل وإعتبارهم في حالة مباشرة في حين يُتركُ خلاص أجور عمّال القطاع الخاص للتفاوض مع مُنظّمة الأعراف؟

وفيما يخصّ عمّال القطاع الخاص، وهم الفئات الأكثر تأثّرا بتداعيات الأزمة، كانت بدايات التفاوض حول خلاص أجورهم مثمرة. إذ انعقدت يوم الثلاثاء 14 أفريل جلسة عمل تحت إشراف وزير الشؤون الاجتماعيّة، وبحضور الأمين العامّ للاتحاد العامّ التّونسيّ للشّغل ورئيس الاتّحاد التّونسيّ للصّناعة والتجارة، وتمّ خلالها الاتّفاق على تمكين عمال قطاع الخاص المعنيين بالاجراءات الاستثنائيّة من أجورهم كاملة بالنسبة لشهر أفريل على النحو التالي :

ــ 200 دينار بعنوان المساعدة الاستثنائيّة الظرفيّة (محمولة على كاهل وزارة الشؤون الاجتماعيّة).

ــ بقيّة الأجر: تُصرفُ من طرف المؤسّسة المشغلة.

        وكان لهذا الاتّفاق الوقع الطيّب على عمّال القطاع الخاص وكلّ المتابعين للشّأن النقابي والاجتماعيّ. وتجدر الإشارة الى أنه سبق لمُنظّمة الأعراف أن عبرّت في بيانيْن متتاليَيْن في 22 و28 مارس  دعمها لإجراءات الحكومة بخصوص الفئات الهشة والمؤسّسات الاقتصاديّة المتضرّرة. كما أكّدت حرصها على ضمان أجور العاملين بالقطاع الخاص، مستندة إلى دراسة، أعدّتها بالتعاون مع الجامعة التّونسيّة للنزل والمعهد العربي لرؤساء المؤسّسات والجامعة التّونسيّة لشركات التأمين ومجلس الغرف المشتركة بتونس ومركز المسيّرين الشبان، نُشِرت نتائجها يوم 13 أفريل. وتؤكّد هذه الدراسة أنّ :

” 93% من شركات القطاع الخاص قد سدّدت أجور العمّال لشهر مارس 2020،
وأنّ  70،5% من هذه الشركات قادرة على تسديد أجور شهر أفريل 2020″.

2- تنكّر منظّمة الأعراف والتفافها على الاتفاق

بَيْد أنّ مُنظّمة الأعراف أصدرت، في خطوة مفاجئة يوم 15 أفريل، أيْ بعد يوم واحد من إمضاء الاتّفاق مع الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل، بيانا تضمّن تراجعا وخرقا للإتفاق المُمْضَى. إذ وضعت شرطا تعجيزيا يتمثل في مطالبتها الحكومة بالإسراع في تطبيق الاجراءات التي أعلنت عنها سابقا في 22 مارس وعددها 23 إجراءً بالتمام والكمال.

        وفضلا عمّا سبق، قدّمت مُنظّمة الأعراف تأويلا غريبًا لنصّ الاتّفاق، مُعتبرةً “المبالغ التّي دُفعت في فترة الحجر الصّحيّ لشهر مارس، والمبالغ التّي ستدفع كأجور لشهر أفريل استهلاكا لرصيد العطل الخالصة، أوتسبقة على العطل خالصة الأجر لسنة 2020 أوقروضًا يتمّ تسديدها عن طريق ساعات العمل الإضافيّة بعد رجوع الأمور لطبيعتها أوعبر منح آخر السّنة“.

ومن هنا لنا أن نتساءل عن أسباب هذا التّراجع والالتفاف على هذا الاتّفاق.

في الحقيقة إنّ الأزمات الداخليّة لمُنظّمة الأعراف ألقت بظلالها على علاقتها مع شركائها الإجتماعيّين. ويمكن لنا أن نذكر في هذا المجال البيان الحادّ للجامعة الوطنيّة للنسيج والملابس الجاهزة التابعة لمُنظّمة الأعراف الصادر إثر إجتماعها الطارئ المنعقد مساء يوم 14 أفريل 2020 أي يوم إمضاء الاتّفاق، والذي أعتبر هذا الاتّفاق مفاجئا وغير معلن وغير قابل للتنفيذ !

إضافة للرّفض الداخليّ من طرف عدد من الجامعات المهنيّة داخل مُنظّمة الأعراف، كان لكنفدراليّة المؤسّسات المواطِنة التّونسيّة ” CONECT”، في إطار المنافسة والمزايدة لاستقطاب رجال الأعمال بهدف الانضمام إليها، موقف ضمّنته في بيان لها بتاريخ 15 أفريل أعلنت فيه رفضها التام لهذا الاتّفاق .

3- غموض المسار الحكوميّ، والخرق الواضح للقانون

في الواقع لم تكن الأزمة الداخليّة لمُنظّمة الأعراف الدافع الوحيد للتراجع عن الاتّفاق. إذ أنّ السّبب الرئيسيّ الّذي مهدّ وفتح المجال لهذا التراجع هو الإجراءات والمراسيم التي أصدرتها رئاسة الحكومة يوم 14 أفريل ونشرتها على موقعها الإلكتروني في نفس يوم إمضاء الاتّفاق. وهو ما مكّن مُنظّمة الأعراف من سندّ قانوني وتشريعي للتّراجع والالتفاف على ما وافقت عليه.

        ونذكُر في هذا المجال المرسوم عدد 2 لسنة 2020 المتعلق بسنّ أحكامٍ استثنائيّة وظرفيّة بخصوص تعليق العمل ببعض أحكام مجلة الشغل، وأهمّها:

ــ تعليق العمل بأحكام الفقرة الأولى من الفصل 92 : ” التمديد في أجل تعويض ساعات العمل الضّائعة بسبب انقطاع مشترك، وتداركها خلال 6 أشهر عوضا عن شهرين”.

   ــ تعليق العمل بأحكام الفقرة الأولى من الفصل 117 وبمقتضاه أصبح للمؤجر إمكانيّة: “إسناد إجازة سنويّة لكلّ العملة أوللبعض منهم بعنوان السّنة المنقضيّة أوالسّنة  الجاريّة بعد أن كانت فترة إسناد الإجازة ما بين غرة جوان و31 أكتوبر من كلّ سنة”.

        أمّا الأخطر من ذلك، فهوما ورد في المرسوم عدد 4 لسنة 2020 المتعلق بسنّ الإجراءات الاجتماعيّة والظرفيّة  (مساهمة 200 دينار في الأجر) حيث أضاف شروطا لم يتضمنها إتفاق 14 أفريل 2020. من ذلك:

– ” تقديم المؤجّر لتفقديّة الشغل والمصالحة المختصة ترابيّا ما يفيد أنه مكّن كل الأجراء أوجزءا منهم برصيد الرّاحة السّنويّة الخالصة الأجر أو بالراحة السّنويّة الخالصة بصفة مسبقة، أوفي مرحلة أخيرة تكفّل المؤجّر بكامل الأجر أوبجزء منه عن فترة توقف نشاط المؤسّسة”.

-“أن تكون المؤسّسة المتضرّرة المعنيّة منخرطة بالصّندوق الوطنيّ للضّمان الاجتماعيّ وأن يكون أجراءها مُسجّلين ومصرّح بأجورهم لدى الصّندوق بعنوان الثلاثيّة الّرابعة لسنة 2019 أوالثلاثيّة الأولى لسنة 2020 “.  

        مراسيمٌ أصدرتها الحكومة من جانب واحد، وأقلُّ ما يقال عنها أنّها تجاوزت كل التّشريعات والأعراف وأُسس التّفاوض الجماعيّ. وأوّل خرق يتمثّل في تجاوز الأطراف الاجتماعيّة المكوّنة للمجلس الوطنيّ للحوار الاجتماعيّ  الّذي من مهامّه: ” يستشار المجلس وجوبا في جميع التشريعات الّتي لها علاقة مباشرة أوغير مباشرة بالمجال الاجتماعيّ”(العقد الاجتماعيّ).

بالإضافة إلى هذا تمادى المرسوم عدد 4 في تكريس سياسة تعميق الفوارق الاجتماعيّة. وذلك من خلال إقصاء العمّال غير المصرّح بهم بالصّندوق الوطنيّ للضّمان الاجتماعيّ من الحصول على المنحة الاجتماعيّة. وهو ما جعلهم يتعرّضون مرّتيْن إلى  المظلمة والإقصاء:

        ــ المرّة الأولى تسبّب فيهما مؤجّرهم الّذي لم يصرّح بأجورهم لدى الصّندوق، وحَرَمهم من التغطيّة الصّحيّة والاجتماعيّة.

        ــ والمرّة الثانيّة  تسبّبت فيها الحكومة باعتبارها خرقت المبدأ الدستوري في المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون ودون تمييز.

        وجدير بالذكر أنّ هذا المرسوم، كما بيّنه الاستاذ عبد السّلام النصيري، الخبير القانوني لقسم التشريع والنزاعات بالاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل، تمادى في خروقاته إلى حدّ المساس بـ“مبدأ قانوني أساسيّ ومن ركائز النظام العامّ الاجتماعيّ، ومقتضاه أولويّة وعلويّة الحكم الأفضل للأجير بغض النّظر عن مصدره أكان تعاقديّا أم ترتيبيّا أم قانونيّا. وبتطبيق هذا المبدأ على وضعيّة الحال، فإنّ إتفاق 14 أفريل، والقاضي بخلاص أجرة شهر أفريل دون أيّة شروط مسبقة، يكون أولى بالتطبيق وواجب الإحترام من قبل الجميع لأنه أفضل للأُجراء من النصوص الأخرى ذات العلاقة، بما فيها المرسوم المذكور.”

وبالرجوع كذلك الى القوانين المقارنة واستئناسا بها، نشيرىإلى أنّ مجلة الشغل الفرنسيّة أكدّت هذا المبدأ العامّ  في القانون الاجتماعيّ في الفصل L2251-1  :

“يمكن أن تخالف القاعدة السُفلى قانونَا أعلى عندما تذهب في اتجاهٍ أكثر تأييدًا للأجير.

ويُذكرُ أنّ محكمة النقض الفرنسيّة في27 مارس 2001 والمجلس الدستوريّ الفرنسي في 13جانفي 2003 كيّفا مبدأ الأكثر نفعًا في النّظام العامّ الاجتماعيّ على أنّه من المبادئ الأساسيّة لقانون العمل. وقد سبق لـمجلس الدولة الفرنسي في 22 مارس 1973 أن كيّفه ضمن المبادئ العامّة للقانون.

 لقد كشف هذا المرسوم عن أزمة هيكليّة داخل منظومة الحكم، عكَسَت زيف الشّعارات المُفرَغَة من مضامينها كالمصداقيّة والشّفافيّة والحوكمة الرّشيدة والمساواة أمام القانون.

فكيف لحكومة تُمضي صباحا بيد أحد أعضائها، وهو وزير الشؤون الاجتماعيّة، اتفاقا يقضي بتكفّل الدّولة بمساعدة استثنائيّة ظرفيّة بـ 200 دينار مقابل تكفّل صاحب المؤسّسة المشغلة ببقيّة الأجر، في حين يُصدر رئيس حكومتها مساءً مرسوما يناقض الاتّفاق الذي عُقد تحت إشراف حكومته، معتبرا أجرة شهر أفريل تسبقة على حساب الرّاحة السّنويّة الخالصة أو الرّاحة السّنويّة الخالصة بصفة مسبقة أوتعويضا لساعات العمل الضائعة في فترة توقف العمل خلال الـ 6 أشهر القادمة؟

ثمّ ما هي مصلحة الحكومة ومُنظّمة الأعراف في توتير المناخ الاجتماعيّ وتأجيج الغضب الشّعبي، كما جاء في بيان الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل بتاريخ 21 افريل،  الذي اعتبر أنّ اتفاق 14 افريل 2020 “واضح ولا يحتمل التّأويل، ولم يعتبر بالمرة هذا الاستحقاق سلفة أوقرضا أوتسبقة على العطلة السّنويّة أوالسّاعات الاضافيّة”.

4- مقترحات ممكنة للخروج من واقع الاحتقان الاجتماعي اليوم وغدًا

وأمام تخبّط الحكومة وتضارب مواقفها المتأرجحة بين الضبابيّة والرّضوخ إلى ضغوطات مُنظّمة الأعراف، نجد أنفسنا أمام خطر داهم يهدّد السّلم الاجتماعيّ.

 وعليه كان من الأجدر اتخاذ إجراءات وقائيّة وقرارات استباقيّة تشمل التشريعات وأطر التفاوض الاجتماعيّ وهياكله.

  • على المستوى التّشريعيّ:

    – كان على الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل التفطّن أكثر لإمكانيّة التّراجع عن محاضر الاتّفاقات سواءٌ من مُنظّمة الأعراف أومن الحكومة، خصوصا وأنّ تاريخ التفاوض الجماعيّ شهدَ العديد من وضعيّات الهروب الى الأمام ونقض التعهّدات. ونذكُر على سبيل المثال لا الحصر رفض الجامعة الوطنيّة للنسيج والملابس الجاهزة التابعة لمُنظّمة الأعراف اتّفاق الزّيادة في الأجور بعنوان سنتي 2016/2017. اذ قدمّت الجامعة استقالتها من المُنظّمة بعد يوم من إمضاء الاتّفاق واشترطت لرجوعها آنذاك إقالة وداد بوشماوي من رئاسة مُنظّمة الأعراف والتّراجع عن الاتّفاقيّة الممضاة،

 وأفرز هذا الضّغط والابتزاز إمضاء محضر تكميليّ بين الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل ومُنظّمة الأعراف بتاريخ 23 ماي 2017 تمّ بمقتضاه تعديل تواريخ بداية صرف الزيادة في الأجور والمِنَح بعنوان سنتيْ 2016/2017.

وعليه فإنّ الاتّحاد العامّ التونسيّ للشّغل مُطالَبٌ، في هذا الوقت أكثر ممّا مضى، بالضغط على الحكومة لإعطاء الصبغة التنفيذية لكلّ الاتفاقيات التي تُمضَى مع منظمة الأعراف بإشراف وزير الشؤون الاجتماعية وإمضائه. وذلك عن طريق إصدارها، من هنا فصاعدًا، في صيغة قرارات باسم وزارة الشّؤون الاجتماعية وتُنشَر بالرّائد الرسمي للجمهورية التونسية. وذلك لصبغتها العموميّة والشمولية بما يمنحها صبغة الإلزاميّة في التنفيذ، وحينها يمكن للقضاء التونسي اعتمادها كنصّ ومرجع قانونيّ للبتّ في كلّ خلاف وأيّ نزاع حول التّطبيق.

– ويجدُر الذكر أنّ الظروف الاستثنائية التي نمرّ بها خلَقت شكلا جديدا للعمل  لم يكن متداولاً من قبل ولم تتضمنه مجلة الشغل، وهو” العمل عن بُعد – Le Télétravail”.

وهو حسب تعريف منظمة العمل الدوليّة ” نظام عمل قائم في مكان بعيد عن المكتب الرئيسي أومواقع الإنتاج، حيث يكون العامل منفصلا عن الاتّصال الشخصي مع العاملين الآخرين ويتم الاتصال بموقع العمل الرسمي من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة.”

وعليه، نقترح إحداث إطار تشريعيّ ينظّم هذا الشّكل الجديد من العمل ويضبط العلاقات الشُغلية وأحكامها وتراتيبها. وذلك باضافة صيغة جديدة لعقد الشغل تحت عنوان “عقد عمل عن بعد” يُدرج في الفصل 6 من مجلة الشغل أو من خلال إضافة ملحق تكميليّ للعقد الأصليّ يؤطّر العمل عن بعد لفترة محدّدة  تقتضيها الظّروف الاستثنائية (التّهديد بانتشار وباء و/ أو في حالة القوة القاهرة). على أن يكون التّعاقد مبنيًا على الإرادة المشتركة بين العامل والمؤجّر وشريطة أن يكفل هذا العقد للعامل عن بعد كل الحقوق والمكاسب الماديّة والمعنويّة التي يتمتّع بها العامل في مقر العمل بالمؤسّسة.

  • على مستوى الانعكاسات الاجتماعيّة:

    في خضم هذه الأزمة التي تهدّد بإحالة آلاف العمّال على البطالة القسريّة والخَصاصَة، فإنّنا نُذكِّر بأنّ الائتلاف الحاكم منذ سنة 2013 مايزال يتلكّأ في تطبيق ما تمّ الاتّفاق في شأنه بالعقد الاجتماعيّ المُمضى بين الأطراف الاجتماعيّة في 14 جانفي 2013. والذي ينصّ على “إحداث نظام للتّأمين على فقدان مواطن الشغل في إطار صندوق مستقلّ يشملُ الأجراء المسَّرَحين لأسباب إقتصاديّة أو فنيّة أو فاقدي الشغل لأسباب خارجة عن إرادتهم”، كما هو واقع الحال.

وسيُمكّن هذا الصّندوق عند إحداثه من مرافقة العامل المُسرّح لمدّة معيّنة والتكفّل بالتغطيّة الصّحيّة والاجتماعيّة وصرف أجره كاملا أوجزئيّا استنادا الى آخر أجر تقاضاه العامل قبل التسريح. وذلك في انتظار إدماجه مجدَّدا في سوق الشّغل.

وعلى أهميّة هذا الصّندوق، لا ندري أسباب تعطيل إحداثه منذ أن تمّ الاتّفاق في شأنه سنة 2013 في حين أنّ الحال يفرض، أكثر ممّا مضى، العملَ على تفعيله وبصفة إستعجاليّة عن طريق تقديم مشروع قانون يُعرَض على مجلس النوّاب للمصادقة عوض تداول وعرض العديد من المشاريع المُجانبة للواقع الرّاهن، ومنها ما يمسّ من السّيادة الاقتصاديّة والوطنيّة.

وممّا يزيد الغموض في موقف الإئتلاف الحاكم من إحداث هذا الصّندوق، أنّ هذا المشروع جرى استكمالُ التفاوض فيه حسب تصريح السّيّد كمال المدّوري المدير العامّ للضمان الاجتماعيّ بوزارة الشّؤون الاجتماعيّة لوكالة تونس افريقا للأنباء بتاريخ 23/11/2019،

 إذ صرّح: ” إنّ المشاورات بين الاطراف الاجتماعيّة وممثّلي الوزارات صلب المجلس الوطنيّ للحوار الاجتماعيّ بلغت مراحل متقدّمة لإحداث صندوق التأمين على مواطن الشّغل. وإنّ هذه المشاورات شارفت على المراحل النهائيّة للدراسّة الماليّة والتقنيّة لهذا الصّندوق”.

أزمة الكورونا لم تمسّ فقط العمال النّاشطين بالقطاع الخاصّ، بل شملت أيضا متقاعدي القطاع الذين ازدادت أوضاعهم شدّة. إذ تقلّ جرايات 65 بالمائة منهم عن الأجر الأدنى المضمون (SMIG)، أي أقلّ من 370 دينارا، فيما تقلّ جرايات أكثر من 45 ألف متقاعد بالقطاع الخاصّ عن قيمة المنحة المسنَدة الى العائلات المعوزة، أي أقلّ من 180 دينارا !  وهذا ناتج أساسا عن عدم قيام مؤجّريهم بالتّصريح بأجورهم وتسديد مساهماتهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي .

ولرفع هذا الغُبن  فإنّ الحكومة مطالَبة باتّخاذ العديد من الإجراءات، نذكر منها :

-اعتبار الأجر الأدنى المضمون الحدّ الذي لا يجب لجرايات متقاعدي القطاع الخاصّ أن تقلّ عنه.

-المراجعة الآليّة لجرايات متقاعدي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عند كل زيادة في الأجور يتحصّل عليها زملاؤهم المباشرون، على غرار النظام المعتمد  في الوظيفة العموميّة وأعوان الدولة.

– تكثيف الرّقابة والتّرفيع من العقوبات الماليّة ضدّ المتهرّبين من التّصريح بأجور العمّال. وفرض تسديدهم مساهماتهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

وفي الختام يحقّ لنا أن نتساءل هل إنّ مثل هذه التّراجعات لمُنظّمة الأعراف،  بدعم ومباركة من الحكومة، تمثّل مدخلا للتّراجع عن التزامها بالدخول في المفاوضات الاجتماعيّة لمراجعة الاتّفاقيات المشتركة القطاعيّة في جانبيْها التّرتيبي والماليّ؟ وكذلك لمراجعة قيمة الدّرجة لجداول الأجور، كما نصّ على ذلك الاتّفاق المُمْضَى بتاريح 19/09/2018 بينها  وبين الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل والذي حدّد مُوفََّى شهر مارس 2020  كموعد لانطلاق هذه المفاوضات؟

فهل  تُمثّل هذه التراجعات مؤشّرا كذلك لانطلاق الحكومة في مرحلة “التّضحيات”  و“اتّخاذ القرارات المؤلمة”  بتعلّة “التحكّم وترشيد استهلاك النفقات العموميّة”،  بعد أن استكملت مرحلة “المدّ التضامنيّ”، كما صرّح  رئيس الحكومة في آخر حوار تلفزي على القناة الوطنيّة الأولى  بتاريخ 19 افريل المنقضي؟

وهل إنّ هذه الحكومة قادرة على تنفيذ مخطّطاتها بما يتوافق وتعهدّاتها لصّندوق النقد الدّولي في ظلّ اعتراض باتٍّ للاتحاد العام التونسي للشغل وعدم قبوله للتفاوض والتّراجع عن المكاسب الاقتصاديّة والاجتماعيّة للطبقة الشّغيلة؟


أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !