الطاقة ’المتجدّدة‘ في تونس: انتقالٌ غيرُ عادِلٍ


ننشرُ هذا المقال حول الانتقال الطاقي في تونس، بمناسبة افتتاح القمّة العالمية حول المناخ “كوب 27” اليوم في مصر. هذا المقال هو من كتاب “آبار قديمة، استعمار جديد” من إصدار المعهد العابر للقوميات TNI.

ويندرج نشر هذا النصّ وما سيليه في إطار اتفاق شراكة أُبرم مؤخّرًا بين موقع انحياز وTNI، وهو مؤسّسة تقدّمية مستقلّة مقرّها هولاندا، وتدعم بعض المبادرات البديلة بالمنطقة العربية.

شفيق بن روين وفلاݡ‍ي روش

حققت تونس نسبة كهرَبة عالية، ارتفعت من 21 % عند انشاء الشركة التونسية للكهرباء والغاز (المعروفة بـ الستاڨ) في 1962 (ستّ سنوات بعد الاستقلال) إلى 99.8 % اليوم. ومع ذلك، يواجه قطاع الطاقة حاليًا عددًا من المشاكل. إلى جانب تبعيّته العالية للطاقة المعتمد على الوقود الأحفوري (التي تقارب حوالي 97 % من انتاج الكهرباء)، يواجه القطاع ارتفاعًا في الاستهلاك بينما تتناقص الموارد الوطنيّة المحدودة أصلا.

في الواقع، انخفض الإنتاج الوطني للطاقة الأوّلية بـ 36 % بين 2010 و2018. خلال نفس الفترة، ارتفع الطلب على الطاقة بأكثر من الضعف. أدّى هذا السياق إلى ازدياد عجز ميزانية الطاقة الأوّلية، الذي قفز من 15 % في 2010 إلى قرابة 50 % في 2018، وفي الوقت ذاته تعمقت التبعيّة الطاقية لتونس (أكثر من نصف الغاز الطبيعي المُستهلَك مستورَد من الجزائر). نتج عن كلّ ذلك ارتفاع حادّ في أسعار الكهرباء بالنسبة للمستهلكين. تونس هي من الدول الموقِّعة على اتفاق باريس (2015) وملتزمة بمساهمتها المُحدَّدة وطنيًا والهادفة إلى تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في كلّ القطاعات بـ 41 %، حسب أرقام 2010، في أفق 2030. وذلك رغم أنّ تونس لا تساهم بأكثر من 0.07 % من الانبعاثات العالميّة. تشمل التخفيضات المُخطَّط لها التقليص بنسبة 46% من انبعاثات قطاع الطاقة. يُفترض أن ينسجم تحقيق هذه الأهداف مع طموح تونس إلى الحدّ من عجزها الطاقي. 

في الأثناء، تعمل تونس على تنويع مصادر طاقتها من خلال تطوير الطاقات المتجدّدة. ومع ذلك اتّسمت السياسات المناخية، التي انتهجتها الدولة التونسية خلال العقود الأخيرة، بالفشل في إحداث التغييرات المطلوبة. يرجع ذلك إلى بقائها حبيسة إطارٍ رأسماليٍّ يفرض السعي إلى تحقيق نموّ لا نهاية له ويعطي الأولويّة للربح الخاصّ قبل كلّ اعتبار آخر، وهو ما نتج عنه ’توسّع طاقيُّ عوض الانتقال الطاقيّ‘.

من أجل إدماج الأهداف الاجتماعية والبيئية في السياسات المناخيّة، هناك حاجة إلى بدائل للنماذج التي وقع تطويرها حتى الآن. يمكن تحقيق ذلك من خلال مقاربة تتمحور حول النفع العامّ والملكية العامّة، بشرط أن يتمّ تنفيذها من قِبَل مؤسّسات خاضعة للمساءلة، بأكثر دقّة  داخل إطار الديمقراطية الطاقيّة. يفترض ذلك خطة تتضمّن ’مشاركة ورقابة شعبيّة فعّالة‘. لرفع هذا التحدّي والوصول إلى حلول ’حقيقيّة‘، تمّ الدفع بمفهوم ’الانتقال العادل‘ في النقاشات العالميّة حول الانتقال الطاقي.

يدعو هذا المفهوم إلى تحوّل عادل نحو اقتصادٍ مستدامٍ بيئيًا ومنصفٍ لجميع أعضائه. كما يجزم أنّ تغيير الطريقة التي نستخدم ونفكّر بها في الطاقة يتطلّب تحولات عميقة في كلّ القطاعات، وأنّ الانتقال الطاقي يجب أن يُنفَّذَ بحذَر من أجل عدم إعادة إنتاج أو تعميق التفاوتات الموجودة.

في واقع الأمر، إنّ التركيز على مصالح المجتمعات في تصميم الانتقال الطاقي يجب أن يشمل الابتعاد عن النظام المالي الحالي القائم على الربح من أجل ضمان مراعاة الأبعاد الأخرى.

وفي الوقت الذي تدخل فيه تونس الآن مرحلة انتقال طاقيٍّ جديدة، تبعًا لالتزاماتها الدولية، لم يجرِ أيّ نقاشٍ تقريبًا على المستوى الوطني حول جوانب إعادة التوزيع لهذا الانتقال، ممّا يثير مخاوف جدّية وأسئلة حاسمة. على سبيل المثال: من الذي سيستفيد ومن سيخسر من هذا الانتقال؟ من يتحكّم في المعرفة والتكنولوجيا التي سيتم استخدامها لإرساء هذا الانتقال وإلى أي مدى سيعمّق ذلك التبعيّة التاريخيّة لتونس نحو القوى الإمبريالية؟ هل سيفتح هذا الانتقال الطاقي الباب أمام تحرير وخصخصة قطاع الطاقة؟ إلى أيّ مدى سيساعد هذا التحوّل الطاقي على معالجة قضايا البطالة الهيكلية واللامساواة في البلاد؟ هل سيسهّل هذا الانتقال زيادة الرقابة الديمقراطية على الموارد الطبيعية أم سيؤدّي إلى تفاقم الاستيلاء الرأسمالي على الأراضي على حساب المجتمعات المحلّية؟

تسعى هذه الورقة إلى تقديم بعض الأفكار بغاية محاولة الإجابة على هذه الأسئلة وتحثّ على التفكير في مفهوم الانتقال العادل في سياق تونسي. نقدّم في الجزء الأول قانون عدد 12- 2015 حول الطاقة المتجدّدة واستتباعاته. ثمّ نتحرّى إلى أيّ مدى يمثّل الانتقال إلى الطاقة المتجدّدة فرصة تنموية مُقنعة للتونسيّين أنفسهم. أخيرًا، نُسائل بخصوص آثار تطوير الطاقة المتجدّدة على حقوق الناس وعلى البيئة.

1. قانون الطاقة المتجدّدة: نقطة تحوّل في الانتقال الطاقي لتونس

أ) المخطّط الشمسي التونسي: تجديد الاتجاه نحو التبعية كتوجّه استراتيجي

في عام 2015، أطلقت تونس النسخة المُحيَّنَة من المخطّط الشمسي التونسي (اختصاره: ’مشت‘)، وهو خطّة تنفيذيّة تندرج ضمن استراتيجية الانتقال الطاقي في البلاد. تمّ نشر الخطة الأصليّة في عام 2009، وهي تهدف إلى زيادة نسبة الطاقة المتجدّدة من 3% في 2016 إلى 30% مع حلول عام 2030، ممّا يتطلبّ إنتاج 3815 ميجاوات إضافية من الطاقة المتجدّدة. وفقًا لـ ’مشت‘، سيقع إنتاج 46% من الطاقة المتجدّدة الجديدة بواسطة توربينات الرياح، و39.6% عن طريق الألواح الشمسية الكهروضوئية، و 11.8% عن طريق الطاقة الشمسية المُرَكَّزة و 2.6 %من الكتلة الأحيائيّة.

تم تحديث الأهداف المتوسّطة الأمد لـ ’مشت‘ بعد مؤتمر ديسمبر 2017 حول تسريع تنفيذ مشاريع الطاقة المتجدّدة. تتبّع هذه السياسة توجّهًا إقليميًا – إن لم يكن عالميًا – نحو التوسّع في انتاج الطاقة المتجددة، جزئيًا من خلال الشراكات بين القطاعيْن العام والخاص (اختصارها: ’شقعخ‘)، والذي يتمّ تبريره بالافتقار إلى الموارد الحكومية الكافية لبناء محطّات توليد الطاقة. على سبيل الذكر لا الحصر، كان المغرب يسلك مسارًا مشابهًا منذ عام 2009، عندما قدّم خطّته الشمسيّة الملك محمد السادس. ومع ذلك، فإنّ الترويج للـ ’شقعخ‘ كبديل  للإنفاق العمومي والديْن العمومي هو أمر مضلِّل لأنّ الشراكة بين القطاعين العام والخاص هي نوع من التسنيد (من سندات حكوميّة) لمشروعٍ عمومي، يتمّ بموجبه خصخصة الأرباح ومشارَكة الخسائر.

يتطلّب ’مشت‘ حوالي 8 مليار يورو من الاستثمارات خلال الفترة 2015-2030 ، بما في ذلك 6.3 مليار للمعدّات و 1.7 مليار لتطوير شبكة الطاقة. وفقًا للمخطّط، سيأتي ثُلُثا هذا التمويل من مصادر خاصّة، في أغلبها استثمار أجنبيّ، والثُلثُ الآخر من مصادر عموميّة. تركّز معظم احتياجات التمويل هذه على استيراد المعرفة والخبرة (من خلال التقنيات والمعدّات وبراءات الاختراع)، وسوف تُسّرع المسار الحالي لتبعيّة تونس. وسيتجسّد ذلك من خلال تعميق المديونيّة الخارجيّة لتونس من أجل تمويل هذه التكنولوجيا المستورَدة التي تخضع لشروط الاحتكار وحقوق الملكية الفكرية.

في هذا السياق، تمّ تصميم ’مشت‘ بطريقة تُعزّز ديناميّات الطاقة بحيث يحتاج البلد الجنوبي إلى الاقتراض أكثر لاستيراد التكنولوجيا والإنتاج المعرفي من الشمال من أجل الانتقال إلى الطاقة المتجدّدة. من خلال هذه المخطّط تواصل تونس الترويج لنموذج اقتصادي يقوده الاستثمار الأجنبي واعتباره السبيل الوحيد لتمويل تنميتها. في حين أنّ بعض أجزاء التمويل اللازم لمخطّط الطاقة المتجدّدة في تونس قد تأتي من خلال الاستثمار الأجنبي (أو حتى من التمويلات/الديون المتّصلة بمسألة المناخ)، لم تُبذل أيّ جهود لاستكشاف طرُقٍ لإنتاج المعرفة اللازمة والتحكّم فيها بهدف تحقيق بعض أجزاء ’مشت‘ ومن أجل الحدّ من التبعيّة للبلدان الصناعيّة في مجاليْ المعرفة ورأس المال.

ب) قانون 12/2015: اللبرَلَة والخصخصة وغياب سيطرة الدولة

منذ عام 2009، تمّ اتخاذ خطوات نحو رفع الضوابط تدريجيًا عن قطاع الطاقة التونسي: أدخَل القانون عدد 7 لسنة 2009، المؤرخ في 9 فيفري 2009، القطاع الخاص في عملية انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة عبر “الإنتاج الذاتي” المخصّص للشركات. تلا ذلك المرسوم عدد 2773 لسنة 2009، الذي يفصّل شروط بيع الفائض للشركة الوطنية للكهرباء والغاز (المعروفة باختصار “ستاڨ”). وقع اتّخاذ خطوة كبيرة في عام 2015، مع القانون عدد 12/2015 المتعلق بإنتاج الكهرباء من مصادر متجدّدة. فتح هذا القانون شبكة الكهرباء أمام الشركات الخاصة، ممّا مكّنها من إنتاج الطاقة، بشكل أساسي للاستخدام المحلي وللتصدير بعد ذلك، من خلال نظام الترخيص (للمشاريع التي تتراوح بين 1 و10 ميجاوات) ونظام الامتياز (للمشاريع التي تزيد طاقتها عن 10 ميجاوات). تهدف تدابير رفع الضوابط هذه، التي وضعت حدًا لاحتكار الشركة التونسية للكهرباء والغاز، إلى جعل الإطار التنظيمي أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب.

وتحدِّد الأوامر والمناشير القانونية التي أعقبت القانون الشروط والإجراءات لإنجاز هذه المشاريع، بما في ذلك الربط بالشبكة الوطنية وتقديم عقود نموذجية للشركات لبدء الإنتاج بموجب الأنظمة المذكورة. في هذا السياق، ما تزال الفكرة القائلة بأنّ قطاع الطاقة يعمل بكفاءة أكبر عندما تتمّ إدارته من قبل الشركات الخاصة، في مقابل عدم فعالية إدارته من القطاع العمومي، سائدة اليوم في تونس. وذلك على الرغم من النقص المقلق للدراسات المستقلة حول تأثير سياسات اللَبرَلة على قطاع إنتاج الكهرباء. لم تُقدّم عملية الخصخصة، التي بدأت منذ عقود، براهين كافية على صحّة وجهة النظر هذه في الواقع.

في واقع الأمر، لم تؤكّد الحقائق الادّعاء بأنّ الشركات الخاصة تقدّم خدماتٍ أفضل بسعر أقلّ. على العكس من ذلك، في حين تسعى الدول وراء الشراكات بين القطاعيْن العام والخاصّ لأسباب تنموية، تميل الشركات الخاصة إلى إعطاء الأولوية لأرباحها في المقام الأول بموجب هذه العقود، وغالبًا ما يتمّ التغاضي عن هذا الجانب من المصالح المتباينة. ولطالما أدّت هذه الشراكات إلى زيادة الأسعار، إلى جانب انتهاك حقوق العمّال، وتدهور جودة الخدمة والفشل في تنفيذ استراتيجية مناخية طموحة. لا يوفّر القانون التونسي المتعلق بالشراكات بين القطاعيْن العام والخاص، الذي سُنّ في أواخر عام 2015، أدوات كافية للدولة لمعالجة الآثار السلبية لهذا النوع من المشاريع، ولضمان حماية المصالح العامّة والمواطنين. لم يتمّ التنصيص على أيّ حق في التعويض للمجتمعات المحلّية المتضررة، ولا توجد آليات للرقابة والإشراف الحكومي – لمنع “الاستيلاء الأخضر” على الموارد، على سبيل المثال. علاوة على ذلك، فإنّ قدرة المجتمع المدني والمجتمعات المحلية على النفاذ للمعلومات محدودة فيما يتعلّق بمقترحات الشراكة بين القطاعيْن العامّ والخاص ولا يتمّ تشجيعهم على المشاركة في المناقشات. لذلك، تثير الشراكات بين القطاعين العام والخاص تحدّيات مالية بالنسبة للحكومة، بقدر ما تمثّل تهديدًا لتقديم الخدمات بكفاءة ولسيطرة ديمقراطية حقيقية على المشاريع.

ج) تأثير المصالح الدولية في عملية صنع السياسات

يتم الترويج للانتقال الطاقي في تونس من قِبل الفاعلين الدوليّين، والبعض منهم مرتبط بمشاريع سابقة تهدف إلى تطوير الطاقة المتجددة في شمال إفريقيا بغاية التصدير إلى أوروبا. تمحورت إحداها، وهي ديزيرتيك، حول “التدفق غير المُقيَّد للموارد الطبيعية الرخيصة من الجنوب العالمي إلى الشمال الصناعي الغنيّ، ممّا يحافظ على تقسيم دولي للعمل غير عادلٍ بالمرّة”، كما وصفه حمزة حموشان. مثلما هو الأمر مع ديزيرتيك، تُعدُّ شركتا نور إنرجي (مقرّها المملكة المتّحدة) ومجموعة زاميت (مقرّها في مالطا) صاحبتي المصلحة الرئيسيّة في مشروع تونور، الذي كان يهدف في بداياته إلى إنشاء محطّة عملاقة للطاقة الشمسية في منطقة ڨبلّي بِنِيّة تصدير الكهرباء المنتَجة إلى أوروبا عبر كابلاتٍ تحت البحر.

نظّم أصحاب هذا المشروع مجموعة ضغط قويّة سعَت إلى إدراج أحكام تتعلق بالصادرات في تشريعات الطاقة المتجددة، ضدّ المقاومة التي أبْدتها الشركة العموميّة المحتكرة لإنتاج الكهرباء. تمّ توثيق دور الفاعلين الدوليين في التأثير على السياسات المحلية في مجال الطاقة المتجدّدة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة الألمانية التونسية في هذا القطاع. إذ ترى ألمانيا، وهي رائدة في هذا المجال، في تونس إمكانات عالية يمكن استغلالها. وعليه، تُقدّم ألمانيا، منذ بدء الشراكة الألمانية التونسية في مجال الطاقة في 2012، الدعم التقني والمالي من خلال الاستثمارات الصناعية وإنشاء المعاهد والمؤسّسات في تونس. الغاية من ذلك هي، ضمن أمور أخرى، التأثير على الأحزاب السياسية عبر الترويج لأفكار التنمية “الخضراء”. وقد كان لهذه الإجراءات، المُنَّفَذة في سياق التعاون الثنائي، بعض التداعيات فيما يخصّ الإطار التنظيمي التونسي.
في الواقع، يبدو أنّ بعض التوصيات التي قدمتها وكالة التنمية الألمانية المُسمّاة بالمؤسسة الألمانية للتعاون الدولي (مأتد) ومبادرة ديزيرتيك الصناعية، قد عجّلت بإدراج بعض التدابير الواردة في قانون 2015. تزعم الدوافع الرسمية للتعاون الألماني أنّها تسعى لتنمية تونس، تحديدًا فيما يتعلّق بالتشغيل. تنسجم الإجراءات التي تتخذها ألمانيا في تونس مع سياق أنشطة الاتحاد الأوروبي في هذا المجال. يُعبّر بلاغٌ أصدرته المفوضية الأوروبية في 2015، حول استراتيجية اتحاد الطاقة، بوضوح عن رغبة الاتحاد الأوروبي في تشجيع وتطوير الطاقات المتجددة، لا سيما من خلال التعاون الدولي مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد. وسيتم ذلك في إطار معاهدة ميثاق الطاقة (ممط)، التي تم وضعها في أوائل التسعينيات. في الواقع، يعود الجهد الأوروبي لإشراك تونس في هذه العملية إلى عام 2013، عندما اتصلت بها سكرتارية ’ممط‘، من خلال السفارة الألمانية، ودعتها للانضمام إلى المعاهدة في سياق مشروعها للتوسّع في “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”. ما يزال انضمام البلاد إلى ’ممط‘ قيد المناقشة. تتضمن المعاهدة الأوروبيّة أحكامًا بشأن الاستثمارات الأجنبية في قطاع الطاقة، بما في ذلك ما يتعلّق بتسوية النزاعات بين المستثمرين والدولة (تنمد) ISDS. تمنح هذه الأداة الشركات القدرة على مقاضاة الحكومات عندما تعتبر أن سياسات الدول ضارّة بأرباحها، حتى لو كانت تلك السياسات تهدف إلى تعزيز الانتقال الطاقي أو الحقوق الاجتماعية التي تصبّ في المصلحة العامة. لقد قدمت دعاوي ’تنمد‘ بالفعل مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب إلى الشركات الكبرى، وبالتالي فإنّ مجرد التهديد بـ ’تنمد‘ يُقيّد قدرة الدول على تصميم سياساتها، وهو ما يتعارض بالتالي مع الإجراءات الديمقراطية.

وفقًا للمبادئ المنصوص عليها في ’ممط‘، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تعميق اللبرَلَة من أجل توحيد معايير الإطار التشريعي التونسي من خلال المفاوضات حول اتفاقية التجارة الحرّة الشاملة والمُعمَّقَة (اتحشم، المعروفة اختصارًا بالفرنسيّة ’أليكا‘). من شأن هذه الهجمة “التحريريّة” تقويض قدرة الدولة على الضبط والتعديل – أحيانًا ضد مصالح المستثمرين – وهو ما سيسهّل بالتالي دخول المستثمرين الأوروبيين (الذين يستفيدون من برامج الدعم المكثفة للاتحاد الأوروبي) إلى السوق التونسية. وفي نهاية المطاف، سيُفسح ذلك الطريق أمام الصادرات بما يضمن الأمن الطاقي لأوروبا عوضًا عن تونس. بالنسبة للشركات الأوروبية، يعني النفاذ إلى السوق التونسية زيادة الجدوى قياسًا بالتكلفة والقدرة التنافسية بسبب انخفاض الأجور والرسوم الجبائيّة إلى جانب تحويلها الكُلفة البيئية.

د) تقدّم عملية الخصخصة، والمقاومة لها:

قبل القانون عدد 12-2015، كان إنتاج الكهرباء – باستثناء أنظمة الإنتاج الذاتي – حكرا على الشركة العموميّة ’ستاڨ‘. شرعت هذه الشركة المملوكة للدولة بالفعل في العديد من الاستثمارات لتطوير إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة. على سبيل المثال، وقع إنشاء محطّتين لتوليد الطاقة من الرياح تابعتين لشركة ’ستاڨ‘ في شمال تونس قبل عام 2015: محطة بقدرة 54 ميجاوات في سيدي داود ومحطّة بقدرة 190 ميجاوات في بنزرت. ومع ذلك، يعتبر المدير التنفيذي للشركة هذه المشاريع باهظة الثمن. صرّح الطاهر العريبي، المدير التنفيذي السابق لشركة ’ستاڨ‘، في مقابلة مع مجلّة نواة: “للاستثمار في مثل هذه المشاريع، نحن مجبرون على توقيع اتفاقيات ديون. اذ تُكلّف مشاريع إنتاج الكهرباء النظيفة ثلاثة أضعاف تكلفة المحطات التقليدية. قدرتنا المالية هشة بالنسبة للاستثمار أو الاقتراض أو ضمان التحويلات.”

منذ رفع الضوابط عن إنتاج الكهرباء المتجددة بموجب أنظمة التراخيص والامتيازات، ارتفعت نسبة الاستثمار الخاص. وفقًا لأرقام 2018، سيقع إنتاج 42.5 في المائة من الطاقة الكهربائية من مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية المُخَطَّط لها في إطار الشراكة بين القطاعيْن العام والخاص. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه لم يتمّ بعد تشغيل جميع محطات الطاقة هذه. وبالتوازي مع ذلك، تعمل شركة ’ستاڨ‘ على تطوير محطّتيْ الطاقة الكهروضوئية في توزر (توزر 1 وتوزر 2)، بقدرة 10 ميجاوات لِكُلٍ منهما.

بسبب نقص المعلومات المتاحة حول التقدّم المُحرَز في مشاريع الطاقة المتجددة، من الصعب تحديد المدى الذي بلغه تطوير القطاع اليوم، ولا ظروف وشروط هذا التطوير. على سبيل المثال، تفيد المعلومات المنشورة على موقع وزارة الصناعة والمناجم والطاقة أنّه “في عام 2017، شرَعت شركة ’ستاڨ‘ في بناء أول محطة للطاقة الكهروضوئية بقدرة 10 ميجاوات في توزر [توزر 1]، والتي دخلت طور الإنتاج في  10 مارس 2021. كما انطلقت أشغال إنشاء محطة توسعة ثانية بقدرة 10 ميجاوات في نفس الموقع [توزر 2]، ودخلت في الخدمة بتاريخ 24 نوفمبر 2021. ومع ذلك، أفاد مقال صحفي نُشر في 5 نوفمبر 2021 أنّ تشغيل المحطّتيْن قد بدأ للتوّ. ويذكر المقال أنّ التأخير يعود إلى مشاكل مالية واجهتها محطة توزر 1 وإلى تأجيل موعد شحن المعدات لمحطة توزر 2 بسبب الصعوبات الناجمة عن انتشار جائحة كوفيد-19. كِلا المحطّتين يعملُ الآن ووقع افتتاحهما رسميًا في مارس 2022.

وقع إنشاء محطة كهرباء أخرى في تطاوين وكانت جاهزة للتشغيل في جوان 2020. بيْد أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل منع ربط المحطة بالشبكة الوطنية، محاججًا بأنّ العملية ستُفضي إلى خصخصة الـ ’ستاڨ‘. لم يتمّ حلّ هذا الوضع إلى اليوم، اذ تنتظر المحطة أن يقع توصيلها بشبكة الكهرباء الوطنية في ظلّ استمرار المفاوضات مع الاتحاد العمّالي. في جويلية 2020، نشر وزير الصناعة والمعادن والطاقة على فيسبوك رسالة اتّهم فيها الجامعة العامّة للكهرباء والغاز (جعكغ)، إحدى فروع الاتحاد العام التونسي للشغل، بـ “التخريب” ضد تشغيل محطة الطاقة الكهروضوئية بقدرة 10 ميجاوات في تطاوين. والتي تم إنشاؤها بموجب نظام الترخيص من قبل المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (متأب)، وهي شركة عموميّة، مع شركة تابعة لشركة ’إيني‘ (شركة نفط إيطالية). ومع ذلك، يحتاج موقف معارضة ’جعكغ‘ للمشروع  إلى أن يُقرأ في سياق معارضة هذه النقابة للخصخصة بشكل عام. في واقع الأمر، رفض الاتحاد العام التونسي للشغل للشراكة بين القطاعين العامّ والخاص على وجه التحديد، وللخصخصة في إنتاج الكهرباء بشكل عامّ، ليس جديدًا.

أصدعت الجامعة العامة للكهرباء والغاز باكرًا، منذ جانفي 2014، بموقفها ضدّ مشروع القانون الذي أعدته وزارة الصناعة، والذي تبنّته الحكومة ليصبح في نهاية المطاف قانون 12-2015. وانتقدت عملية صنع القرار التي أفضت إلى مشروع القانون، مؤكّدة أنّه صِيغَ دون إشراك الاتحاد العام التونسي للشغل أو المديرين التنفيذيين ومهندسي الشركة التونسية للكهرباء والغاز. وأشار الأمين العام لـ’جعكغ‘ إلى أنّه تمّ إطلاق المشروع على عجل ودون الرجوع إلى دراسات مُسبَقَة الإعداد أو الاستناد إلى استراتيجية وطنية عامّة للطاقة. في 27 مارس 2018، كرّرت ’جعكغ‘ موقفها الداعي إلى عدم خصخصة قطاع إنتاج الكهرباء. وفي وقت لاحق، بتاريخ 26 فيفري 2020، قبل أشهر قليلة من تعطيل محطة توليد الكهرباء في تطاوين من قبل ’إعتش‘، أصدرت الحكومة قرارًا يسمح بإنشاء شركات إنتاج ذاتي لإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة وحدّدت فيه شروط نقل الكهرباء وبيع فائض الطاقة المُنتجة إلى شركة ’ستاڨ‘. إزاء ذلك، أعرب الكاتب العامّ لـ’جعكغ‘ عن معارضة الجامعة القطعيّة لخصخصة إنتاج الكهرباء في تونس. وقد صورت ’جعكغ‘ هذه السياسات على أنها تعبّد الطريق للاستثمار الخاصّ والأجنبي، وأنّها تبجّل أرباح المستثمرين على مصلحة المرفق العمومي الذي تمثّله شركة ’ستاڨ‘. كما صرّحت ’جعكغ‘ بأنها ستحتج على هذا الاتجاه لأنّ من شأن إنتاج الكهرباء من قِبل الأفراد الخواص وبيعها مباشرة للحرفاء  أن يعطّل شبكة الكهرباء ويؤثر على توزيعها، ممّا يجعل الوصول إليها غير متاح لفئات معيّنة من الشعب. كما أنّ الجامعة ترفض سلعنة الكهرباء لما لذلك من تأثير سلبي على الأمن القومي وعلى الصفة العموميّة لشركة ’ستاڨ‘.

2. آثار الانتقال الطاقي الحالي: تحوّل عادل من أجل تنمية تونس وحقوق الناس؟

أ) فرصة حقيقية لتطوير قطاع الطاقة المتجددة التونسي؟

تعمل تونس، فيما يتعلق بالموارد البشرية وتنمية المهارات، على تنفيذ مخطّط تكويني في قطاع الطاقة، وقد وقع تكييفه مع مجال الطاقات المتجدّدة. ولهذه الغاية، تمّ تصميم البرامج الأكاديمية والمهنيّة التي تُقدمها الجامعات العمومية والخاصّة، بما في ذلك كلّيات الهندسة. كما بدأت الوكالة الوطنيّة للتحكّم في الطاقة في تقديم برامج للتدريب وإصدار الشهائد. وقد أدّت هذه الجهود إلى تنمية الموارد البشرية القادرة على تزويد الشركات بالمهارات المطلوبة للمساعدة في تنفيذ البرامج الوطنيّة للطاقة المتجدّدة، مع زيادة “القدرة التنافسية” (أي بسعر أرخص). ومع ذلك، فإن المهارات والخبرات المتوفّرة غير كافية لتمكين الشركات المحلّية من تصور وتنفيذ وصيانة مشاريع محطات طاقة الرياح والطاقة الشمسية على نطاق واسع. بالإضافة إلى ما سبق، أدّى ركود مزرعة الرياح في بنزرت منذ عام 2012 إلى تآكل الخبرات المكتسبة سابقًا. بالتوازي مع ذلك، ظهر عدد من المشغّلين الذين يمنحون مضمونًا وبُنيَةً لقطاع الطاقات المتجدّدة الذي يقع تطويره: المؤسّسات الحكومية، مصنّعو ومورّدو المعدّات، شركات التركيب والصيانة، مكاتب التصميم، وإلخ. مستندة إلى خبرتها الصناعية السابقة، لدى تونس القدرة على تطوير شراكات مع المصنّعين الأجانب بهدف إنتاج معدّات الطاقات المتجدّدة. في الواقع، فيما يتعلّق بالطاقة الكهروضوئية، تشارك الشركات الوطنية بالفعل في تجميع بعض الوحدات المستورَدة من الصين وألمانيا واليابان وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا.

فيما يخصّ توربينات الرياح، هناك إمكانات قوية للتكامل الصناعي: اذ تنتج الشركة التونسية الخاصة “سوكومانين” – التي كانت في الأصل متخصصة في الإنشاءات المعدنية – أبراج توربينات الرياح. كما أنّ الصناعة المحلية قادرة أيضًا على تصنيع مكوّنات التوربينات في قطاعات الميكانيك والكهرباء والصناعة الإلكترونيّة، بما في ذلك عبر تكييف خطوط الإنتاج عند الحاجة. بالإضافة إلى ما سبق، يمكن تنفيذ الأنشطة ذات الصلة، من قَبيل الخدمات اللوجستية والنقل والبناء والاستغلال والصيانة، من خلال الشركات المحلية. ومع ذلك، على الرغم من كلّ هذه المزايا، ما زال قطاع تصنيع الطاقة المتجدّدة التونسيّ غير قادر على دعم تطوير المشاريع الكبرى. إذ تفتقر تونس إلى بعض المواد الخام والتقنيات الوسيطة الضرورية لتطوير مثل هذه المشاريع. ويشمل ذلك مادّة السيليكا، الخلايا الكهروضوئية، الأسلاك الكهربائية، مولّدات توربينات الرياح، وأجهزة التحكم في توربينات الرياح. يجب استيراد المعدات والتقنيات الوسيطة التي لا يتم إنتاجها محليًا، ممّا يؤدي إلى التبعيّة نحو المزوّدين الأجانب. في حقيقة الأمر، نما هذا القطاع حتى الآن أساسًا بفضل برامج التركيب الكهروضوئية السكنية، كما أنّ 90% من شركات قطاع الطاقة المتجددة التونسية تعمل في القطاع الفرعي للطاقة الكهروضوئية. نتيجة لذلك، تطوّرت السوق أساسًا في مجال تركيب الألواح الكهروضوئية. وفقًا للنتائج الأولية لاستطلاع أجرته الوكالة الألمانية للتعاون الدولي: من بين 150 شركة في هذا القطاع، أكثر من 85%   هي من شركات التركيب، الثُلُث من موّردي المكونات الكهروضوئية، و20 منها مكاتب تصميم، بينما اقتصر عدد مطوّري المشاريع على إثنين، إلى جانب اثنين من مصنّعي الألواح الكهروضوئية ومكتب تدريب واحد. كذلك، عندما ننظر إلى دعوات تقديم العروض ودعوات المناقصات المتعلقة بتراخيص وامتيازات الطاقة المتجددة في الفترة من 2017 إلى 2019، نجد أنّ شركات التطوير كانت قد نشأت للتوّ في ذلك الوقت.

بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من وجود بعض الفاعلين الوطنيّين، فإنّ رغبة تونس في جذب المستثمرين الأجانب تميل إلى استبعاد الشركات المحلية والمطوّرين التونسيين.

في ظلّ نظام الترخيص (مشاريع 10 ميجاوات) من بين 22 مشروعًا استفادت من اتفاق مبدئي إثر الجولات الثلاث من المناقصات التي وقع إطلاقها بين عاميْ 2017 و2019، نصفها فقط لديه قادة مشاريع تونسيون وأربعة مشاريع فقط تشرف عليها شركات تونسية حصرًا. وبالمقارنة، ذهبت خمسة مشاريع إلى شركات فرنسية حصرًا، وثلاثة أخرى إلى شركات ألمانية حصرًا.

فيما يتعلق بامتيازات إنتاج الطاقة الشمسية، تم منح جميع المشاريع الخمسة (بإجمالي 500 ميجاوات) إلى شركات أجنبية. إذ فازت شركة “سكاتيك سولار”SCATEC Solar  النرويجية بمناقصات لثلاثة مشاريع، بإجمالي 300 ميجاوات.

وبالتالي، وإن اكتسب قطاع الطاقة المتجددة بقيادة تونسيّة بعض الأصول والانجازات بالنظر إلى تطوير بعض المشاريع المحلية، فإنه يظلّ ضعيفا وغير قادر على تنفيذ المشاريع الكبيرة المتوقّعة في السياق الحالي. وبالتالي، للحدّ من تبعيّتها، سيكون من الحكمة أن تُعزّز تونس المشاريع الصغيرة على مستوى المنازل أو المجتمعات المحلّية والتي ستكون أكثر ملاءمة للخبرات المحلّية، وأقلّ كثافة من حيث متطلبات رأس المال والمعرفة.

ب) تحدّيات تعزيز التنمية المحلية وتقليص التفاوتات الجهويّة

من أجل ضمان أن يكون تطوير الطاقة المتجددة في تونس مفيدًا للاقتصاد المحلّي، وقع إتْباع قانون 2015 بالعديد من القوانين والقرارات الأخرى. وشمل ذلك قوانين هدفت لإنشاء إطار محفّز للاستثمار في الطاقات المتجدّدة. إذ تشجّع القوانين التالية: عدد 2016-71 ، المؤرخ في 30 سبتمبر 2016، والمتعلّق بالاستثمارات في مجال الطاقات المتجددة والأمر الحكومي اللاحق عدد 389 لسنة 2017 المؤرخ في 9 مارس 2017، والمتعلق بالحوافز المالية، على تحقيق أهداف التنمية الجهوية  وعلى توليد مواطن الشغل محلّيًا من خلال مشاريع الطاقة المتجددة. كما أنها خلقت اعفاءات ضريبية لتشجيع الشركات على الاستثمار في المناطق المهمشة وإعادة استثمار جزء من أرباحها.

إلّا أنّ العديد من المطوّرين والمستثمرين واجهوا صعوبات في العثور على التمويل، وأشاروا إلى بعض التحدّيات التنظيمية والبيروقراطية أمام المشاركة في طلبات المناقصات (المرتبطة أيضًا بتعدّد المؤسّسات المعنيّة).

تسعى الحوافز المالية والضريبيّة إلى تسهيل التنمية في المناطق المهمّشة، حيث توجد معظم مشاريع الطاقة المتجدّدة. ومع ذلك، يجب تقييم التنمية الفعّالة لتلك الجهات المستهدَفة، بما في ذلك من خلال التنبّه إلى مخاطر انتزاع ملكية المجتمعات المحلّية للأراضي. في الواقع، عند تحليل قائمة الشركات المؤهَّلة لتركيب الألواح الشمسية في إطار مشروع “بروسول إليك” Prosol Elec (لأغراض الإنتاج الذاتي)، تبرُز للعيان الشركات المتواجدة في الولايات الأكثر تطورًا. فمن بين 380 شركة تونسية، تتواجد 40 منها فقط في المناطق المستهدَفة (ولايات جندوبة، باجة، الڨصرين، ڨفصة، توزر، ڨبلّي، تطاوين، ڨابس، القيروان، سيدي بوزيد، الكاف)، مع وجود معظم الشركات في جهتَيْ تونس وصفاقس. وهذا يعني أنّ الجهات الأكثر تقدّمًا تجني معظم فوائد تطوير هذا القطاع من خلال تجميع المزيد من الأرباح وخلق المزيد من فرص العمل، على حساب الجهات الأخرى التي هي في أمسّ الحاجة إليها.

لإجراء تقدير دقيق لخلق فرص العمل، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار كُلٌ من التشغيل المباشر وغير المباشر. في حالة مشاريع الطاقة المتجددة، تغطّي الوظائف المباشرة الأنشطة في مجالات إنتاج الطاقة والتركيب والبناء والصيانة، بينما تشمل الوظائف غير المباشرة المبيعات والهندسة والبحث والتدريب وما إلى ذلك. تبلُغُ توقعات خلق فرص العمل في مجال الطاقة المتجددة حوالي 3000 وظيفة لكُلّ 1000 ميجاوات يتم إنتاجها سنويًا باستخدام الطاقة الشمسية الكهروضوئية. يُقَدّر عدد الوظائف الإضافية لقطاع الطاقة المتجدّدة برمّته في تونس بما يتراوح بين 7000 و20000. ومع ذلك، فإّن غالبية هذه الوظائف ليست طويلة الأمد لأن معظمها مطلوب فقط لمرحلة البناء وبدء تشغيل المشاريع التي تستغرق بضع سنوات فقط (بمعدّل خمس وظائف مؤقتة في هذه المرحلة لـ 1 ميجاوات من الطاقة المتجددة)، بينما تتطلب صيانة المشاريع عددًا قليلاً جدًا من العمال (إذ ينخفض المعدل إلى وظيفتين دائمتين لكلّ 1 ميجاوات). وفي هذا الصدد، من شأن الإنتاج المحلي للتقنيات المطلوبة لمشاريع الطاقة المتجددة أن يوفّر إمكانات كبيرة لخلق فرص عمل جديدة، لأن الاعتماد المنخفض على الواردات يعني زيادة فرص .

وفقًا لما سبق، على الرغم من التركيز الرسمي على المناطق المهمّشة وخلق فرص العمل محلّيا، فقد يكون هناك خطر أن يفضي الإطار الحالي إلى الاستيلاء على الأراضي في المناطق الأقلّ تنمية من أجل استغلال ما فيها من موارد متجدّدة، دون تعويض مناسب للمجتمعات المحلية، وبالتالي الحفاظ على ديناميكية استعمارية داخلية.

ج) الحقوق الاجتماعية والبيئية للمجتمعات المحلية: مخاوف ناشئة على ضوء احتجاجات قرية برج الصالحي

في الرؤية الإستراتيجية لقطاع الطاقة التي اعتمدتها الحكومة في عام 2018، هناك تشجيع رسمي على تعزيز العدالة في توزيع الطاقة والحوكمة الرشيدة، من خلال ضمان الوصول العادل إلى الطاقة في كلّ الجهات، وفي أفضل الظروف، وتطوير سياسة المسؤولية الاجتماعية وإنشاء هيئة تعديليّة وإرساء إجراءات أكثر شفافية.

بالإضافة إلى ذلك، بموجب قانون 2015، يمثّل إجراء دراسة الجدوى الخطوة الأولى المطلوبة لمشروع إنتاج الكهرباء باستخدام الطاقة المتجددة، في إطار نظام الترخيص. يجب أن تتضمّن هذه الدراسة تقييمات للأثار البيئيّة والاجتماعيّة. ينبغي إجراء تقييم الأثر البيئي من قِبل شركة استشارية وأن يتضمّن على الأقلّ وصفًا أساسيًا للحالة الأوّلية للموقع، وخصائصه ووصف المناطق المجاورة، وتقدير التأثير المستقبلي للمشروع على الحياة النباتيّة والحيوانيّة المحلية، وتقدير للتأثير البصري والصوتي.

ومع ذلك، على الرغم من هذا الإطار، يبدو أنّه لا يقع اتبّاع التدابير الاجتماعية والبيئية دائمًا. في عام 2000، تمّ إنشاء أول مشروع لتوربينات الرياح في تونس، في شمال شرق البلاد، على بعد حوالي 70 كيلومترًا من تونس العاصمة، تلتها مراحل أخرى من التركيب في عامي 2003 و2009. توفّر محطة الطاقة المتجددة هذه، والتي تضمّ حوالي 40 توربينة رياح،  الكهرباء لـ 50.000 تونسي. بيْد أنّ متساكني قرية برج الصالحي، التي وقع فيها تنفيذ التوسعة لعام 2009، لا يستفيدون حاليًا من التوصيل بشبكة الضغط العالي ولا يمكنهم الحصول على عدّادات الكهرباء من شركة ’ستاڨ‘، وتعاني شبكتهم المتدهورة من انقطاعات متكرّرة. لأكثر من عقد من الزمان، استنكر مجتمع القرية المجاور مشروع هذه المحطة الطاقيّة المملوكة للشركة العموميّة. في الواقع، أثارت توسعة عام 2009 احتجاجًا اجتماعيًا من القرويين الذين يعيشون بالقرب من المحطّة. أحد أهمّ أسباب سخطهم هو القرب من توربينات الرياح. إذ يقع أقرب توربين على مسافة لا تتجاوز 50 مترًا من أحد المساكن، ممّا يسبب ازعاجًا للقرويّين، خاصة بسبب تداعيات الضوضاء المستمرّة على صحّتهم، والتي تؤثر أيضًا على الحيوانات. من منظور الأثر البيئي، أدّى التغيير في طبيعة المكان إلى تآكل التربة وموت أشجار الزيتون. ومن بين القضايا الأخرى التي أثارها سكّان القرية عدم صيانة توربينات الرياح من قبل شركة ’ستاڨ‘، ممّا انجرّ عنه وقوع حوادث تقنيّة.

 في قلب استياء القرويّين، يكمن الافتقار إلى عملية صنع قرار إدماجيّة، والتي كان من الممكن أن تأخذ في الاعتبار العواقب المحتملة على الأرض والسكان المحلّيين، وتضمن استملاكهم للمشروع. بعد الاجتماع التفاوضي الأخير، الذي عُقد في مارس 2021، بين أهل القرية وشركة ’ستاڨ‘، أعلنت الأخيرة أنّها “على استعدادها لتحمّل مسؤوليتها الكاملة ولإنهاء هذا الصراع الذي دام عشر سنوات”. ومع ذلك، لا تزال القضية تراوح مكانها، اذ لم تتخذ الشركة أيّة إجراءات أخرى منذ ذلك الحين.

خلاصـــة

تسلّط هذه النظرة العامّة على التطوّرات في مسار تنمية قطاع الطاقة المتجدّدة في تونس الضوء على العديد من أوجه عدم التوافق مع نموذج الانتقال العادل. أوّلًا، نشير إلى الحدود لجهة صناعة القرار ديمقراطيًا، بسبب تأثير عدد من الفاعلين الأجانب ونقص التشاور مع أصحاب المصلحة الآخرين (مثل الاتحاد العام التونسي للشغل أو المجتمعات المحلية). أدّى ذلك إلى إقحام قانون 2015 الذي يشجّع على الخصخصة، بما في ذلك في شكل الشراكات بين القطاعيْن العام والخاصّ، وإلى حشر تونس بقوّة في إطار المخطّط النيوليبرالي العالمي المتعلّق بتطوير الطاقة المتجدّدة. وقد فَتح ذلك الباب أمام المبادرات الاستعمارية الجديدة، مثل ديزيرتيك وتونور، التي تمنع سيطرة الحكومة على مشاريع الطاقة المتجدّدة، وبالتالي تعرقل سيادة التونسيين على مواردهم.

علاوة على ذلك، يعزّز هذا المسار المُختَار التبعيّة الماليّة والمعرفيّة للجهات الخارجيّة من خلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة واستيراد التكنولوجيا، بدلاً من الاستثمار التونسي في السيادة على الطاقة من خلال التنمية المحلية لقطاع الطاقة المتجدّدة. ويعني ذلك أنّ الاستراتيجية الحالية قصيرة الأمد التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة في العقد الماضي، من خلال اختيار الاستثمار في الشراكة بين القطاعيْن العام والخاصّ بدلاً من الخدمات العموميّة، قد ركّزت بشكل أكبر على جذب المستثمرين من القطاع الخاصّ (والأجانب على وجه الخصوص) وتأمين أرباحهم – على الرغم من العبء المالي طويل الأجل الذي قد يسبّبه ذلك – عوضًا عن تعزيز التنمية المحلية. ونتيجة لذلك، يتمّ إهمال حقوق المجتمعات المحلية، وتتراوح الآثار بين عدم كفاية الوصول إلى الكهرباء ومصادرة الأراضي، وتحديدًا لمن يعيشون في المناطق المُهمَّشة أصلًا.

يستمرّ هذا الإطار الهيكلي في تبجيل الفاعلين من المناطق الأكثر حظاً نسبيًا، في حين يكون نصيب المناطق الفقيرة المزيد من التهميش والتجريد من مواردها. يبدو، مرّة أخرى، أنّ معظم هذه الديناميّات قصيرة الأمد ويقودها اللهث وراء الأرباح، وهو ما يفسر أيضًا سبب عدم كفاية الأحكام المتعلقة بحماية البيئة الطبيعية. نظرًا للتركيز الشديد على تنفيذ المشاريع الكبيرة بأيّ ثمن، لا يوجد اهتمامٌ كافٍ باحتياجات السكّان المحلّيين وبالبيئة التي يقع فيها إنشاء هذه المشاريع، ولا يتمّ إيلاء ما يكفي من انتباه للظروف المطلوبة لإدماجهم في الاقتصاد الوطني.

بناءً على تحليلنا للخبرات المحلّية في تونس، فإنّ من شأن الانتقال العادل أن يمنح الأُسر والمجتمعات المحلّية الوسائل اللازمة لإنتاج الكهرباء الخاصة بها بالاعتماد على مشاريع الطاقة الكهروضوئية الصغيرة، ممّا سيقلّل من الاحتياجات لرأس المال والمعرفة ويعزّز تنمية الفاعلين المحلّيين المولّدين لفرص العمل. في مختلف أنحاء العالم، شرع العديد من فاعلي المجتمع المدني في مرحلة إعادة تفويض الصلاحيات للبلديّات – أيْ استعادة الملكية العموميّة للخدمات – من أجل إرساء خدمات عامّة “يقودها المجتمع المحلّي وتراعي المناخ”، من خلال استرجاع السيطرة على الموارد المحلّية. وبالتالي، يجب تجنّب الخصخصة في المقام الأول. يمكن للحكومات المحلية أن تشجّع الشركات المحلية على تركيب أنظمة كهروضوئية صغيرة الحجم من أجل كسر التعزيز الحالي لأوجه عدم المساواة بين الجهات. كما أن إدارة هذه المشاريع على المستوى المحلي ستمنح المزيد من الملكية والحقوق والسلطة للمجتمعات المحلية من أجل التحكم والإشراف على وسائل الإنتاج في قطاع الطاقة.



شفيق بن روين: عضو مؤّسس ورئيس المرصد التونسي للاقتصاد.

فلاݡ‍ي روش: متدرّبة بالمرصد التونسي للاقتصاد

تحرير آشلي انڨلز

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !