اعتصام الكامور، “الحركات الاجتماعيّة،” وآفاق الصراع الطبقيّ في تونس

غسّان بن خليفة

على الرغم من بقاء بعض الخيام المتناثرة في منطقة الكامور في قلب صحراء ولاية تطاوين (تبعد حوالي 700 كلم عن تونس العاصمة)، فإنّه يمكن القولُ إنّ الاعتصامَ قد انتهى عمليًّا، وذلك منذ أن أشرف نور الدين الطبّوبي، الأمينُ العامّ للاتّحاد التونسيّ للشغل، على إعادة تشغيل محطّة ضخّ البترول، إثر نجاحه في وساطةٍ انتهت بتوقيع اتّفاق يوم 16 جوان/يونيو بين ممثّلي المعتصمين والحكومة.

أنهى هذا الاتّفاقُ اعتصامًا تاريخيًّا دام شهرين ونيّفًا في قلب الصحراء، وكان امتدادًا لاعتصامٍ آخر دام شهرًا وقطّع أوصالَ مدينة تطاوين وباقي مدن الولاية التي تحمل الاسمَ نفسَه.

قبلت الحكومة، وفق نصّ الاتّفاق، بانتداب 1500 عامل لشركة البيئة خلال شهر جوان/يونيو الفارط، فيما سيُنتدب 1000 عامل خلال شهر كانون الثاني عام 2018 و500 آخرين خلال الشهر عينه من العام 2019. كما سيُنتدب 370 عاملًا في الشركات البتروليّة، من المتعاقدين الوقتيّين، بالشركات الأمّ إثر انتهاء مدّة عقودهم.

ووافقت الحكومةُ على إسناد منحة بحثٍ عن العمل بـ500 دينار (230 دولارًا) تُصرف للمنتدَبين في الشركات البتروليّة، ابتداءً من شهر أيلول إلى حين الالتحاق بالعمل، وتُقتطع من صندوق التنمية المُزمع بعثُه.

وبذلك، تكون السلطةُ قد استجابت ــــ نظريًّا على الأقلّ ــــ إلى أغلب مطالب المحتجّين المتعلّقة بالجانب التشغيليّ، فيما أبقت على رفضها طلبَ تخصيص جزءٍ من عائدات البترول المستخرَجة من الجهة لتمويل مشاريع تنمويّة في ولاية تطاوين.

لكنْ قبل الدخول في تحليل مسار الاعتصام ونتائجه، قد يكون مفيدًا وضعُه في سياقه العامّ، تاريخيًّا وجغرافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا.

سياق الاعتصام وخصائص الجهة

لم يكن مفاجئًا أن يعتصمَ شبابُ تطاوين ويصمدوا أكثرَ من ثلاثة شهور مطالبين بالتشغيل والتنمية؛ فهذا هو مطلبُ غالبيّة شباب تونس، خصوصًا في الجهات غير الساحليّة التي تعاني تهميشًا تعود جذورُه إلى ما قبل استقلال البلاد.

فالحال أنّ نسبة المعطَّلين عن العمل في الولاية تصل إلى 32 % من السكّان النشطين، وهي أعلى نسبةٍ في الجمهوريّة، بحسب تقريرٍ منسوبٍ إلى “المعهد الوطنيّ للإحصاء” لعام 2016.  (1) ففي ظلّ تخلّي الدولة المتزايد عن واجبها في توفير الشغل الكريم للناس، ومع انغلاق أبواب الهجرة إلى أوروبا، لم يبقَ للعديد من شباب الجهة غيرُ الارتزاق من تجارة التهريب عبر الحدود، وبخاصّةٍ مع ليبيا.

إلّا أنّ هذا السبب لا يفسِّر وحده ما تعبِّر عنه الشعاراتُ المكتوبةُ على حيطان المدينة من نقمةٍ واضحةٍ لأبناء الجهة على سلطة المركز في العاصمة. فتكرارُ التذكير بأنّ المعتصمين هم “أبناءُ الفلاڨة” (2)  يحيل على ذاكرةٍ تاريخيّةٍ شعبيّةٍ موجوعة. إذ من المعلوم أنّ جهات الجنوب التونسيّ عانت التهميشَ المُمَنهجَ من قِبل سلطة المركز عقابًا لها على وقوفها مع الزعيم صالح بن يوسف إثر صراعه على حكم البلاد وخياراتها مع بورڨيبة.  ففي حين قبِل الأخير بالاستقلال الذاتيّ سنة 1955، نادى الأوّل (القريبُ من عبد الناصر) بمواصلة النضال المسلّح حتى تحقيق الاستقلال التامّ لتونس وبقيّة أقطار المغرب. ولا تزال النقمةُ على الاستعمار الفرنسيّ، الذي تدخّل عسكريًّا لحسم الصراع لصالح بورڨيبة، وعلى جرائمه ضدّ المقاومين من أبناء الجهة، حيّةً لدى الأجيال الجديدة.

كما لا تصعب ملاحظةُ ما تتّسم به جهةُ تطاوين، وباقي ولايات الجنوب عمومًا، من اختلاف ثقافيٍّ عن باقي جهات البلاد، ولا سيّما العاصمة والساحل. فهنا وجودٌ فعليٌّ للمكوِّن الأمازيغي، بشرًا ولغةً وعادات في بعض القرى، الجبليّة بالخصوص. وهنا، كذلك، هيمنةٌ واضحةٌ مستمرّة، في المدن بشكلٍ خاصّ، للغة العربيّة، لا في لهجة الناس القريبة إلى الفصحى فحسب، بل كذلك في الإعلام المحلّيّ وفي لافتات المحلّات والإعلانات في الشوارع؛ وذلك على عكس العاصمة والمدن الساحليّة الكبرى، حيث تتراجع العربيّةُ لصالح الفرنسيّة (والإنجليزيّة بشكلٍ متزايد)، التي تحبّذُها الطبقةُ البرجوازيّةُ في تونس. ومن ناحية الذائقة الفنيّة الشعبيّة، يَلفت الانتباهَ إقبالُ الشباب على الاستماع إلى الأغاني الليبيّة؛ وهو أمرٌ يَندر أن تراه في العاصمة والجهات الشماليّة والساحليّة للبلاد، ما يوحي بأنّ القطيعة الاقتصاديّة والسياسيّة بين الجهة والمركز تنعكس في ثقافة الناس وأذواقهم أيضًا.

الأسباب الاقتصاديّة: قطبُ الرحى

كثيرًا ما يسترجع معتصمو الكامور، الذين التقيتُهم (3) هذا البعدَ الثقافيّ، وبخاصّةٍ التاريخيّ، للردّ على اتّهام أهل الجنوب عمومًا بـ”النزعة الانفصاليّة” أو “بالتواطؤ مع الإرهاب.” إلّا إنّ العامل الاقتصاديّ يبقى هو الرئيسَ في تفسير أسباب الاحتقان الذي عبّر عنه الاعتصام.

فهذه المنطقة الجنوبيّة تعاني غيابَ دور الدولة التنمويّ. إذ في ظلّ غياب استثمارات عموميّة تستحقّ الذكْر، تبقى تجارةُ الحدود وعائداتُ المهاجرين ورعايةُ الماشية أهمَّ محرّكات الاقتصاد المحلّيّ. بل إنّ بعض المؤسّسات التي توفّرها الدولة، كالمستشفى الجهويّ، لا تقدِّم خدماتٍ تليق بمواطنين يعيشون في القرن الحادي والعشرين. كما أنّ الفلاحة، الرعويّة بالأساس، تعاني شحّةَ الأمطار، ومنافسةَ مورِّدي الماشية من ليبيا المجاورة (ومن بلدانٍ أخرى في السنوات الأخيرة كرومانيا وإسبانيا).

ما زاد الطينَ بِلّةً هو ما اعتبره أبناءُ الجهة انحيازَ السلطة لرئيسة “اتّحاد الأعراف” وداد بوشمّاوي (وهي من عائلةٍ رأسماليّة تعمل في مجال الخدمات البتروليّة)، عبر منح شركتها صفقةَ بناء خطّ أنابيب ضمن مشروع “غاز الجنوب” ذي الطاقة التشغيليّة العالية، والذي ستعود أرباحُه في الأساس إلى شركات نفطٍ أجنبيّة. إذ يقول المحتجّون إنّ السلطة وعدتْهم سابقًا بأن يبقى المشروعُ حصرًا في ولاية تطاوين، وذلك قبل أن يتغيّر مسارُه نحو ولاية ڨابس. ويتّهمون بوشمّاوي، أصيلةَ ڨابس، بالوقوف وراء ذلك؛ إضافةً إلى تعمّدها استبعادَ أبناء الجهة من العمل في المشروع. ويُعدّ هذا الموضوع سببَ نقمة الشباب المُعطَّل عن العمل، بل نقمةِ أصحاب رؤوس الأموال المحلّيّة كذلك، إذ يحتجّ هؤلاء على احتكار شركات خدمات بتروليّة (من العاصمة وصفاقس وغيرهما) عقودَ المناولة والإعاشة والحراسة والنقل.(4)

تخلّت “حركةُ النهضة،” التي حصدتْ أعلى نسبةٍ من الأصوات في الجهة خلال الانتخابات الأخيرة، عن وعودها السابقة بإعادة المشروع كلّيًّا إلى تطاوين. كما عجزتْ، أسوةً بغيرها من الأحزاب ذاتِ الشعبيّة النسبيّة في الجهة (كـ”حركة الشعب” و”حزب حراك شعب المواطنين”)، عن تحسين ظروف عيش الناس. وهذا الأمر أدّى إلى فقدان قطاعٍ واسعٍ من الشباب الثقةَ في جلّ الأحزاب السياسيّة، بل إلى نقمتهم عليها أيضًا.

قاد استمرارُ تدهور الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتوالي الخيبات من الأحزاب ومن المكاسب الهزيلة التي جنتها الجهةُ من “الانتقال الديمقراطيّ،” إلى تفاقم الشعور بالغبن والغضب لدى أبنائها. وهو ما يفسِّر البروزَ العفويّ لفئةٍ شبابيّة، غيرِ متحزّبةٍ في معظمها، قادت الاعتصامَ الجديد، منذ بدايته في مدن الولاية وقراها، وصولًا إلى انتقاله إلى الكامور إثر فشل مناورات الحكومة في إقناع الشباب بترك الشوارع. ولعلّ من المفارقات اللافتة في هذا الاعتصام ما لقيَه الشبابُ من دعمٍ شعبيٍّ واضح، مقابلَ فتور مساندة الأحزاب المؤثّرة في الجهة (خصوصًا “حركة النهضة” المشاركة في الحكومة). وقد حرصتْ قيادةُ الاعتصام منذ البداية على تأكيد استقلاليّتها عن جميع الأحزاب. ولا شكّ في أنّ ذلك كان من أهمّ أسباب صمود المعتصمين طوال هذه الفترة، في ظروفٍ مناخيّة ومادّيّة صعبة، وعدم استجابة قيادتهم للوساطات والضغوط التي مارستها عليهم هذه الأحزابُ من أجل القبول بتسوياتٍ اعتبروها لا تلبّي الحدّ الأدنى من مطالبهم.

الاعتصام: مطالبه وتطوّره وخصائصه

رفع المعتصمون منذ البداية ثلاثة مطالب واضحة:

1 ــــ تجسيد مبدإ “التمييز الإيجابيّ” لصالح الجهات المُهمَّشة، وهو ما نصّ عليه الدستورُ الجديد للبلاد عبر تخصيص 20 في المئة من مداخيل استخراج النفط والغاز (التي تستأثر شركاتُ النفط الأجنبيّة بأكبر حصّةٍ منها في ظروفٍ غير شفافّة) لتمويل مشاريع تنمية محلّيّة.

2 ــــ نقل مقرّات شركات النفط الأجنبيّة المشتغلة في الصحراء من العاصمة إلى ولاية تطاوين، وذلك حتّى تستفيد الجهةُ من الأداءات التي تدفعها في المركز.

3 ــــ التشغيل الفوريّ لعددٍ مهمّ من أبناء الجهة في شركات النفط التي تتعمّد عدمَ التعويل عليهم.

ولم يتردّد العديدُ من المعتصمين الذين التقيتُهم في وضع هذا الاعتصام في سياق “استكمال معركة التحرّر الوطني.” (5)  لكنْ، على الرغم من صمود المعتصمين البطوليّ وإصرار بعضهم على كلّيّة المطالب الأصليّة، فقد كان واضحًا ميلُ قيادة الاعتصام إلى التخلّي عن المطلبيْن الأوّل والثاني والتركيز على المطلب الثالث. فقد تضافرتْ صعوبةُ ظروف الاعتصام (تحديدًا مع اقتراب فصل الصيف وصعوبةِ استمرار تموين الماء والغذاء للمئات من مدينة تطاوين التي يفصلها عن مكان الاعتصام 150 كيلومترًا، أغلبُها مسلكٌ صحراويٌّ شديدُ الوعورة)، وهشاشةُ التوازن “العروشيّ،”(6) وضعفُ الوعي السياسيّ الجذريّ لدى قيادة المعتصمين، لتدفع نحو التخلّي عن المطلب الرئيس المتعلّق بتجسيد مبدإ التمييز الإيجابيّ.

ابتداءً من منتصف أيّار، تمّ التخلّي رسميًّا عن المطلبيْن الأوّلين والاكتفاء بالثالث.  قدمّ الوفدُ الحكوميّ المفاوض عرضًا بتشغيل بضعة آلاف من شباب الجهة، فكادت هذه المناورة الحكوميّة أن تعصفَ بوحدة الحراك الاجتماعيّ، على ما تخوّف عددٌ من مساندي الاعتصام، إذ قبلتْه أغلبيّةُ نوّاب المعتصمين، فيما رفضته أقلّية بادرتْ إلى التصعيد. ومع بدء تبشير وسائل الإعلام بالتوصّل إلى اتّفاق، نقل المعتصمون الغاضبون اعتصامَهم إلى منطقة “الفانة،” حيث إحدى محطّات ضخّ النفط الرئيسة، وقرّروا إغلاقَها.

اضطرّت قيادةُ الاعتصام، في مناورة تكتيكيّة موفّقة، إلى التراجع عن قبول العرض الحكوميّ، والتحقتْ بالمعتصمين لتُواصل تأطيرَ تحرّكهم في الموقع الجديد. لم يرُقْ ذلك للسلطة، وبخاصّةٍ لشركات النفط الأجنبيّة التي مارستْ عليها ضغوطًا كبيرة كي تفكَّ الاعتصام، فأرسلتْ فرقَ الحرس الوطنيّ من أجل قمع المعتصمين؛ ما أدّى إلى استشهاد الشابّ أنور السكرافي وإصابة العديد، وإلى اشتعال موجةٍ من الاحتجاجات المساندة للمعتصمين في العاصمة وبعض مدن البلاد.

أمام عودة الوحدة إلى صفوف المعتصمين، وعجز السلطة عن حسم الموقف قمعًا، استنجدتْ هذه الأخيرة بقيادة “اتّحاد الشغل” لتتوسّطَ لدى المعتصمين. فلم يتحرّجْ نور الدين الطبّوبي، الذي سبق أن صرّح برفضه أسلوبَ إيقاف الإنتاج، من تغيير موقفه إلى تفهّم المعتصمين ومساندته مطالبَهم بالتشغيل. وبعد حوالي أسبوعين من دخول “المركزيّة النقابيّة” على الخطّ، تمّ التوصّلُ الى اتّفاق أفضل نسبيًّا لصالح المعتصمين؛ وهو حلٌّ أفضل في كلّ الأحوال بالنسبة إلى شركات النفط، والسلطة، التي باتت تخشى جدّيًّا تبعاتِ استمرار انخفاض الإنتاج على أرباحها.

تقويم نتائج الاعتصام

لا يمكن إلّا التوقّفُ عند بعض نقائص قيادة الاعتصام. فإلى جانب تفريطها في المطلب المحوريّ بتخصيص نسبةٍ مئويّة من مداخيل النفط للتنمية المحلّيّة، وما سيقتضيه ذلك من طرح قضيّة شفافيّة قطاع الطاقة في تونس، تمْكن ملاحظةُ عجزها عن تمثّل نضالها ضمن رؤية استراتيجيّة جذريّة تشمل جهاتِ البلاد كافّةً، بما يَضمن مقاربةَ مسألة الثروات الطاقيّة في بعدها الوطنيّ والتنسيق مع ممثّلي الحركات الاجتماعيّة في باقي الجهات المُهمَّشة من أجل صياغة مطالب مشتركة تُخرج هذا الملفَّ من منطق المصلحة الجهويّة الضيّقة.

كما تمكننا ملاحظةُ غياب تصوّرات أخرى لتجاوز التعويل على الطاقة الأحفوريّة، الملوِّثة للبيئة، والمتسبِّبة في تفاقم اللاعدالة المناخيّة، (7)  لصالح أولويّاتٍ اقتصاديّةٍ أخرى كالفلاحة والتصنيع غير المدمِّر للبيئة.

لا جدوى من التوسّع في نقد أداء قيادة اعتصام الكامور ونتائجه، إذ “لا يَطرح البشرُ على أنفسهم سوى المَسائل التي يقْدرون على حلّها” كما يقول ماركس.(8) ولا شكّ في أنّ الطابع الإشكاليّ، والمنقوص، للمطالب التي تحقّقتْ، سيؤدّي آجلًا أو عاجلًا بأبناء الجهة إلى استئناف معركتهم ضدّ شركات النفط الأجنبيّة وسلطة البرجوازيّة الحاكمة التي تحمي مصالحَها. كما يجب ألّا تحجبَ عنّا هذه النقائصُ أمريْن إيجابيّيْن أسفرتْ عنهما معركةُ اعتصام الكامور:

1) توجيه رسالة واضحة إلى عموم المُهمَّشين والمُستغَلّين في الجهات الداخليّة للبلاد، مفادُها أنّ النضال وحده قادر على افتكاك مكاسب تُحسِّن من ظروف عيشهم.

2) تأكُّد بداية التطوّر النوعيّ في التكتيك النضاليّ للتحرّكات الاجتماعيّة في تونس. فبعد معركة جمنة،(9)  التي كانت ملْكيّةُ الأرض محورَها، ونسجًا على منوال قرقنة،(10) حيث كسر المحتجّون شوكةَ السلطة وأجبروا شركة بتروفاك النفطيّة على الرضوخ لأهمّ مطالبهم، يبدو واضحًا أنّ معتصمي الكامور قد خرجوا بالدرس الأهمّ من هذه التجارب وغيرها: أنّ التحرّكات الاجتماعيّة التي تستهدف رأسَ المال ومصادرَ الثروة عمومًا (سواء كانت أرضًا تُسندها الدولةُ إلى الرأسماليّين المرتبطين بالسلطة، أو شركات نفط أجنبيّة، أو مناجمَ فسفاط لا يذهب ريعُها إلى الفقراء)، هي وحدها التي تنجح في الضغط على الدولة، ورأسِ المال الأجنبيّ، ووكلائه المحلّيّين، أصحابِ القرار الفعليّين في البلاد. فيما أثبتتْ تجربةُ السنوات الأخيرة أنّ الاحتجاجات التي تكتفي بالاعتصام في مقرّات السلطة أو بإضرابات الجوع، بعيدًا عن المسّ بمنظومة الإنتاج الرأسماليّ، لا يمكنها أن تحقّقَ مكاسبَ ملموسةً على الرغم من بطولة أصحابها وتضحياتهم الجسام.(11)

إلّا إنّ عجز أغلب التحرّكات الاجتماعيّة على التحوّل إلى حركات اجتماعيّة ذاتِ استمراريّة زمانيّة ومتانة تنظيميّة وأفق سياسيّ جذريّ يتطلّب منّا المزيد من البحث ومحاولة الفهم.

“الحَراك الاجتماعيّ” في وصفه إفرازًا للصراع الطبقيّ والهيمنة الخارجيّة

لا يمكن فهمُ الوضع الراهن لـ”الحركات الاجتماعيّة” من دون وضعها في سياق الصراع الطبقيّ الذي يشقّ المجتمع. ولا يمكن تلمّسُ وضع هذا الصراع الطبقيّ الراهن من دون محاولة تبيّن نمط الإنتاج السائد في البلاد. وهذا مبحثٌ شاسعٌ لا يمكن التوسّعُ فيه الآن، إلّا أنّه يمكن الافتراضُ أنّ تونس عرفتْ تدريجيًّا، منذ إنهاء تجربة التعاضد “الاشتراكيّ” في الستينيّات، ترسُّخَ النمط الرأسماليّ التابع للمراكز الإمبرياليّة الغربيّة. وتسارَعَ انخراطُ البلاد في المنظومة الرأسماليّة المُعولَمة منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي مع الانضمام إلى اتفاقيّة منظّمة التجارة العالميّة (1995)، وتلتها اتفاقيّةُ الشراكة مع الاتحاد الأوروبيّ (1996). وقد نتج من هذه الاتفاقيّات تحوّلُ البلاد إلى مجرّد سوق للموادّ الأوّليّة (الفلاحيّة والطاقيّة، خاصّة الفسفاط) ولليد العاملة الرخيصة، لصالح رؤوس الأموال الأجنبيّة، بشراكةٍ مع وكلائها من رؤوس الأموال المحلّيّين (وبخاصّةٍ من برجوازيّة الساحل والعاصمة وصفاقس). وقد زاد ذلك في توسيع الفوارق الطبقيّة، وفي تعميق التقسيم، ذي الجذور التاريخيّة القديمة، (12) بين جهاتٍ “نافعةٍ اقتصاديًّا” (الجهات الساحليّة أساسًا) وأخرى “غيرِ نافعة”.

وعلى عكس الآمال التي علّقها البعضُ على انتفاضة 17 كانون الأوّل من العام 2011، أدّت التوازناتُ الطبقيّة والسياسيّة الدوليّة والإقليميّة والداخليّة الجديدة إلى زيادة تكريس هذا النهج. فالوصف الدقيق للمسار الذي تعيشه تونس منذ انتصار قوى الثورة المضادّة (13) هو “الانتقال الاقتصاديّ” (لا “الانتقال الديمقراطيّ” الرائج ذكرُه إعلاميًّا)(14)  نحو المزيد من التبعيّة للرساميل الأجنبيّة بدعوى “تشجيع الاستثمار الأجنبيّ.” بل إنّ تفاقم التداين الخارجيّ(15)  لدى المؤسّسات الماليّة العالميّة والدول والبنوك الغربيّة أفقد البلادَ سيادتَها عمليًّا، وجعل الوضعَ أشبهَ ما يكون بحالة “الوصاية الدوليّة،” الغربيّة تحديدًا، التي تذكِّر التونسيين بحقبةٍ تاريخيّةٍ مظلمة هي “الكوميسيون الماليّ”(16) التي سبقت الاستعمارَ الفرنسيَّ المباشر. وبناءً على ما تقدّم، فإنّ أدقّ توصيفٍ لنمط الإنتاج المسيطر ولطبيعة المجتمع هو: “شبه مستعمَر/شبه رأسماليّ تابع.”

لم يمسّ الصراعُ على السلطة في السنوات الأخيرة، بين أحزاب اليمين المتديّن واليمين الحداثويّ، من جوهر النظام الحاكم، ولا من الطابع الكمبرادوريّ لتحالف الطبقات الاجتماعيّة المهيمنة. إذ تمّ التذرّعُ بارتفاع المطالب الاجتماعيّة لمفاقمة التداين الخارجيّ، ومن ثمّ لتبرير الرضوخ لإملاءات المؤسّسات الماليّة العالميّة المُقرِضة ولعواصم القرار في المراكز الإمبرياليّة الغربيّة. وجوهرُ هذه الإملاءات كان فرضَ المزيد من السياسات النيولبراليّة على البلاد، وهو ما تترجَم بالآتي: تخلّي الدولة المتواصل عن التدخّل في الاقتصاد، واستمرار غياب صناعة وطنيّة مرتبطة بحاجيّات السوق الداخليّة والأسواق المجاورة، وغياب فِلاحةٍ تهدف أوّلًا إلى تأمين السيادة الغذائيّة للبلاد وشعبها.

أفضت هذه السياساتُ أيضًا إلى زيادة تفقير صغار الفلّاحين وضربِ الطبقة العاملة في تونس ومكاسبها. وكان من أدوات ذلك تواصلُ تطويع قيادة المنظّمات التي يُفترض أنّها تدافع عن مصالحهم، وتحديدًا “الاتحاد التونسيّ للفلاحة والصيد البحريّ” و”الاتحاد العامّ التونسيّ للشغل.” وكان من أهمّ نتائج استمرار هذا النهج تفاقمُ البطالة لدى الشباب، لا سيّما من حاملي الشهادات الجامعيّة.

أدّى تفاقمُ التخلّف الاقتصاديّ والتبعيّة للخارج في السنوات الأخيرة إلى إنتاجٍ متزايدٍ لمُعطَّلين مهمَّشين يتكدّسون في الأحياء الشعبية، أكثرَ ممّا أدّى إلى إنتاج عمّال بروليتاريّين تقليديّين يواجهون استغلالَ “الأعراف” بتكوين نقاباتٍ قويّة. كمّا أدّى تواصلُ تفقير الأرياف وتهميش الفلّاحين إلى استمرار ظاهرة النزوح إلى تخوم المدن الكبرى؛ ما جعل التحرّكات الاجتماعيّة ــــ الاقتصاديّة تصطبغ بملامح الواقع السوسيولوجيّ والأنثروبولوجيّ التونسيّ، إذ يمثّل الشعورُ بالوصم والتهميش بسبب الانتماء إلى “الحيّ” محرِّكًا رئيسًا لنقمة شباب الأحياء الشعبيّة. وفي ظلّ الإقصاء من منظومة الإنتاج، يتضخّم شعورُ الانتماء إلى الحيّ/الجماعة المحلّيّة على حساب الشعور بالانتماء إلى “طبقة اجتماعيّة” يوحِّدها ما تعانيه من استغلال رأسماليّ عابرٍ لحدود الحيّ أو الجهة. كما أنّ الأمر نفسَه تقريبًا يتكرّر مع أبناء الجهات الداخليّة المُهمَّشة، إذ يَخلق لدى شبابها المعطَّل نسبيًّا شعورًا بالانتماء إلى “جهات الهامش” في مواجهة “جهات المركز” في العاصمة والساحل وصفاقس.

ولا يمكن إغفالُ الإشارة إلى ما أدّى إليه عجزُ الانتفاضات الاجتماعيّة عن تغيير الواقع من تراكم الإحباط لدى الناس. ويمكن الربطُ بين نتائج هذا الإحباط من جهة، والآثار المدمِّرة للسياسات النيولبراليّة من جهةٍ ثانية، في انتشار ظواهر جوهرُها الهروبُ من الواقع أو البحثُ عن خلاص فرديٍّ أو جماعيٍّ عبر وسائلَ أخرى: مثل تعاطي المخدِّرات، والجريمة المنظّمة، والمخاطرة بالهجرة عبر “قوارب الموت،” أو الارتداد إلى “انتماءاتٍ ما قبل حداثيّة” كالعصبيّة “العروشيّة” في الجهات الداخليّة، وعودة التطرّف الدينيّ (الظاهرة السلفيّة تحديدًا) أو الطائفيّ في الأحياء الشعبيّة على وجه الخصوص. وعلى عكسِ ما يروِّج له مثقّفو اليمين الحداثويّ في بلادنا، فإنّ مجتمعاتِنا لا تختصّ بهذه الظواهر، التي عرفتها مجتمعاتٌ جنوبيّة أخرى بتعبيرات مختلفة. (17)

وكما جرى في بلدانٍ عديدة من “الجنوب” (وبخاصّةٍ في أمريكا اللاتينيّة)، أدّت هذه السياساتُ في السنوات الأخيرة إلى بروزِ ما يسمّى “الحَراك الاجتماعيّ” عنوانًا لاحتجاج الفئات المسحوقة والجهات المُهمَّشة في البلاد. وباختصار، نلاحظ أنّ هذه الاحتجاجات الاجتماعيّة تتّسم عمومًا بتركّزها في “الجهات الداخليّة،” والأحياء الشعبيّة للمدن الكبرى، التي تشهد أعلى معدّلات غياب الشغل والمرافق العموميّة والتوزيع العادل للثروة.

ومع تواصل ضعف جماهيريّة الأحزاب اليساريّة الجذريّة؛ وتزايدِ تراجع الأداة التنظيميّة التقليديّة للطبقة العاملة في تونس، ممثّلةً في “اتّحاد الشغل،” واكتفائها بالدفاع أساسًا عن مصالح العاملين في الوظيفة العموميّة من أبناء الطبقة الوسطى؛ ومع استمرار السيطرة التقليديّة لكبار الفلّاحين على المنظّمة الفلّاحيّة الرئيسة؛ صارت احتجاجاتُ المعطَّلين في الجهات والأحياء الشعبيّة هي التمظهرَ الأبرزَ اليوم للصراع الطبقيّ في البلاد. (18)

هذا المعطى الملموس فتح البابَ داخل الأوساط اليساريّة الجذريّة في تونس أمام السؤال الآتي: هل يمكن أن تخوضَ “الحركاتُ الاجتماعيّة” الصراعَ الطبقيّ، وتقودَه، وتحقّقَ التغيير الثوريّ المنشود؟

خصائص “الحَراك الاجتماعيّ” و”الحركات الاجتماعيّة” في تونس

بدايةً، أعتقد أنّ الدقّة والموضوعيّة تستوجبان استعمالَ عبارة “الحَراك الاجتماعيّ” أو “التحرّك الاجتماعيّ” عوضًا من “الحركات الاجتماعيّة” لوصف الاحتجاجات أو النضالات التي يخوضها الناسُ من أجل مطالب اقتصاديّة واجتماعيّة محدودة. والسبب هو عدمُ توفّر الأغلبيّة الساحقة (19) لهذه التحرّكات على مقوِّمات الحركة الاجتماعيّة الممتدّة في الزمان والمكان، وذات البنية التنظيميّة المتينة والطابع الجماهيريّ والأفق السياسيّ الواضح.

للإجابة على السؤال الأخير سنقدِّم أهمَّ خصائص “الحراك الاجتماعيّ،” أو ما يُعرف اصطلاحًا بـ”الحركات الاجتماعيّة،” في تونس: 1) العفويّة. 2) ضعفُ تسيّسها واكتفاؤها بمطالب اقتصاديّة واجتماعيّة محدودة. 3) موسميّتُها (خصوصًا خلال فصل الشتاء). 4) ضعفُ جماهيريّتها.

إلى جانب الملاحظات المذكورة، أرى إضافةَ خاصّيّةٍ أخرى: أنّ أكثر هذه التحرّكات قدرةً على الاستمرار والصمود هي التي يقودُها الشبابُ المُعطَّلُ عن العمل (مثلًا: اعتصاما القصرين وسبيطلة، وتحرّكات قدماء اتحاد الطلبة المفروزين أمنيًّا، وتحرُّك قرقنة). إلّا أنّ طبيعة الشباب المُعطّل يمنعها من التقدمّ بالحراك الاجتماعيّ نحو مستوًى أرقى من “الصراع الطبقيّ،” إذ يتعلّق الأمر في أغلب الأحوال بمُهمَّشين غير مسيَّسين، يطالبون الدولةَ بأن تتحمّل مسؤوليّتها الاجتماعيّة وتوفّر لهم شغلًا (20) وحين ينجح هؤلاء في تحقيق مطلبهم، لا يكترث أغلبُهم بمواصلة النضال من أجل تغيير الواقع الاقتصاديّ والسياسيّ للبلاد، إذ لا يَسمح لهم موقعُهم خارج منظومة الإنتاج باكتساب وعي طبقيّ وسياسيّ متطوّر ولا ببناء أداةٍ تنظيميّة متينة. ولا يعود ذلك إلى هيمنة قيم الأنانيّة والفردانيّة على وعيهم فحسب، شأن فئات المجتمع الأخرى، بل كذلك إلى عدم وجودهم في موقع قوّةٍ يسمح لهم بالضغط الفعّال على المنظومة الرأسماليّة التي تلفظهم فيما هم يَجهدون لـ”الاندماج” فيها.

بعبارة أخرى، يمكن جزئيًّا استعارةُ قولة بورديو الشهيرة: “الشباب ليست سوى كلمة،” في وصف فئة المُعطَّلين. فهؤلاء، مثل الشباب، وطلبةِ الجامعات تحديدًا، لا يمثّلون طبقةً اجتماعيّةً بذاتها؛ ومن ثمّ لا يمكن أن نأملَ منهم قيادةَ الصراع الطبقيّ في تونس ما لم يمتلكوا مقوّماتِها المادّيّة. فالظروف الموضوعيّة المحيطة بالشباب المُعطَّل في حيّ التضامن، المتاخم للعاصمة، مثلًا، تختلف كثيرًا عن حالة “شبهِ المُعطَّلين” من ضحايا العمل الهشّ في الحضائر في الحيّ نفسه، وتختلف أكثر عن تلك التي يعيشها شابٌّ من أصول فلّاحيّة معطَّل عن العمل في أرضه في ولاية سيدي بوزيد مثلًا. فالأوّل لا يمكنه مبدئيًّا غير البحث عن العمل في أحد المصانع أو شركات الخدمات، فيما لا يبغي الثاني أكثرَ من ترسيمه في محلّ شغله (على بؤسه)، ولا يمكن الثالثَ سوى التحسّر على عجزه عن زراعة قطعة الأرض العائليّة أو عن استرجاع أرض والديه (اللذين فقّرتهما “المنظومةُ” بقوانين الدولة، فاضطُرّا إلى بيعها إلى أحد بورجوازيّي الساحل أو صفاقس أو غيرهما).

إلّا إنّه يجدر التوقّفُ قليلًا عند “الحركات الاجتماعيّة،” وهي أساسًا تحرّكات “من أجل التشغيل والتنمية،”  (21) وينخرط فيها شبابٌ معطَّل من الجهات المُهمَّشة (مثل ولاية القصرين والمكناسي ومنزل بوزيّان والرقاب والحوض المنجمي وتطاوين،…). وتتميّز هذه الحركات عن غيرها من الاحتجاجات الاجتماعيّة “العشوائيّة” (كإضرابات الجوع الفرديّة أو الاحتجاجات الموقّتة على وضعيّةٍ ما) بجملةٍ من النقاط:

 1) وجود حدّ أدنى من التنظيم الجماعيّ. 2) انتهاج تكتيكات نضاليّة وتواصليّة تهدف إلى الضغط التصاعديّ على السلطات. 3) محاولة بعض هذه الحركات إقامة بنية تنسيقيّة بينها.

لكنْ، على الأهمّية البالغة للتطوّر الأخير، تجب الإشارةُ إلى أنّ أهمّ هذه المحاولات، والمتمثّلة في “التنسيقيّة الوطنيّة للحركات الاجتماعيّة،” مازالت تعاني مشكلةً جوهريّةً تمنعها من أداء دور محوريّ في النضال الاجتماعيّ والطبقيّ في البلاد، ألا وهي: ارتباطُها الوثيق بأحد مكوِّنات “المجتمع المدنيّ” الإصلاحيّ (22) فقد كان واضحًا في المرحلة الأخيرة حجمُ تدخّل “المنتدى التونسيّ” للتأثير في خطاب “التنسيقيّة” وخياراتها،(23)  رغم وجود عناصر مناضلة جذريّة داخلها، ومن دون أن ينتقصَ ذلك من أهمّيّة ما يقدّمه “المنتدى” المذكورُ من إحصائيّات حول الحراك الاجتماعيّ ومن دعم لوجيستيّ وتواصليّ لجزءٍ من مكوّناته.

في ظلِّ ما تقدمّ، يكمن مربطُ الفرس في السؤال الآتي:

كيف نحلُّ المفارقة المتمثّلة في أنّ الفئة الاجتماعيّة الأكثر تضرّرًا من المنظومة الاقتصاديّة/السياسيّة الحاكمة لا يمكنها، بظروفها الحاليّة، أن تكون رأسَ حربة النضال من أجل إسقاطها؟

من “الحَراك الاجتماعيّ” إلى الصراع الطبقيّ

تحتاج هذه المسألة إلى بحثٍ معمَّق من كلّ المهتمّين بالنضال الاجتماعيّ والطبقيّ في تونس. إلّا أنّه تمكن ملاحظةُ ما يأتي:

إلى جانب ما سبق ذكره من نقاط، تشترك أغلبُ التحرّكات الاجتماعيّة في افتقارها إلى قاعدة ماديّة واقتصاديّة تسمح لها بالصمود والتوسّع الجماهيريّ والنضال الطويل الأمد ضدّ المنظومة الاقتصاديّة/السياسيّة الحاكمة، أو تَضمن لها الاستقلاليّةَ عن مختلف الأطراف الرجعيّة أو الإصلاحيّة (من يمين متديّن أو حداثويّ، وقوًى خارجيّة، و”مجتمع مدنيّ” إصلاحيّ…).

تشير التجربة في تونس، والتجارب المقارنة في أمريكا اللاتينيّة بوجهٍ خاصّ، إلى أنّ التحرّكات الاجتماعيّة التي نجحتْ في التحوّل إلى حركات اجتماعيّة، ومن ثمّ نجحتْ في أداء دور محوريّ في النضال الطبقيّ والتغيير السياسيّ الجذريّ في مجتمعاتها، قد تميّزتْ بأمرين: أ) استهدافها لرأس المال ولمنظومة الإنتاج، وعدم اكتفائها بالاحتجاج ضدّ الدولة؛ فالأخيرة ليست سوى 'هيئة للسيادة الطبقيّة، لتنظيم ظُلم طبقةٍ لأخرى' كما يقول لينين. (24) ب) توجّهها إلى مسألة الأرض الفلّاحيّة والسيادة الغذائيّة (مثلًا حركة 'الفلّاحين بلا أرض' البرازيليّة)(25) لأنّ ذلك يفتح البابَ لمعارك كفاحيّة متنوّعة، ويسمح بآفاقٍ سياسيّة واقتصاديّة أرحب وأضمن.Click To Tweet
ويكفي أن ننظر إلى قدرة تجربة “جمنة” على الصمود طوال السنوات الستّ الأخيرة؛ فذلك لم يكن ممكنًا لو لم يضع أبناءُ القرية يدَهم على الأرض ويبدأوا في استغلالها. ويمكن كذلك الاستلهامُ من تجربة قرية مارينيلادا (26)  في إسبانيا، حيث نجح الناسُ بعد نضال دام أكثر من عقدين في تحويل قريتهم إلى نموذج واقعيّ وإيجابيّ للاشتراكيّة.

إنّ توجّه الحركات الاجتماعيّة في تونس نحو قضيّة الأرض الفلّاحيّة والسيادة الغذائيّة بخلفيّة “اشتراكيّة،” تسعى إلى التغيير من أسفل، يمكن أن يؤدّي إلى العديد من الإيجابيّات. أولًا، ضمان استقلاليّتها المادّيّة والسياسيّة. ثانيًا، سيطوّر الانخراطُ في مسار إنتاجيّ، غير رأسماليّ، البنيةَ التنظيميّةَ لهذه الحركات. ثالثًا، سيتيح لها امتلاكُها للأرض وتثميرُها شيئًا من الأمان المادّيّ الذي سيسمحُ لها بالصمود والنضال الطويل الأمد، بل ربّما بتمويل النضال السياسيّ الجذريّ الذي يجب أن ترتبط به. رابعًا، سيؤدّي نجاحُ الإدارة التعاونيّة/الاشتراكيّة للأرض الفلّاحيّة إلى تقديم “نماذج إيجابيّة” لعامّة الشعب ومفقّريه، بما سيعزِّز تدريجيًّا من جماهيريّة النضال من أجل التغيير الجذريّ. خامسًا، سيفتح التركيزُ على هذه القضية المحوريّة أبوابَ قضايا أخرى لا تقلّ أهمّيّةً، مثل: العدالة البيئيّة والمناخيّة، وتأميم الثروات الطبيعيّة وتوجيه عائداتها لصالح الناس، واستبدال الطاقات الأحفوريّة الملوّثة بالطاقات المتجدّدة (27)  والفلاحة البيولوجيّة، ومراجعة اتفاقيّات التجارة الحرّة، والتصدّي لمختلف سياسات الاستعمار غير المباشر.

باختصار، وبناءً على ما تقدّم، أرى أنّ على مناضلي الحَراك الاجتماعي أن يضعوا نصبَ أعينهم معركةَ الأرض والسيادة الغذائيّة، وأن تكون هذه القضيّة العنوانَ الأساسَ للنضال الاجتماعيّ والطبقيّ في المرحلة المقبلة.

ختامًا، لا أجزم أنّ هذا الخيار سهلُ التحقيق أو مضمون النتائج، بل هو دعوةٌ إلى النقاش أوجِّهها أساسًا إلى اليساريّين الجذريّين المهتمّين فعليًّا بالتغيير الثوريّ في تونس والعالم العربيّ.

( نشر هذا المقال أوّلا في موقع مجلّة الآداب )

 


 1- جرى تداولُ هذه المعلومة في عدد من الصحف والمواقع الإعلاميّة، لكنْ لم يكن ممكنًا التأكّدُ منها في الموقع الرسميّ للمعهد. https://lc.cx/cgsY

 2- الفلّاڨة: أصلُها من فعل فلَقَ، أي انشقّ. وهي نعتٌ تشويهيّ، أطلقه الاستعمارُ الفرنسيّ على أفراد المقاومة المسلّحة في الأقطار المغاربيّة، واستعمله بورڨيبة ونظامُه بشكل سلبيّ ضدّ المجاهدين الذين رفضوا تسليمَ سلاحهم إلى الفرنسيين إثر توقيع اتفاقيّة الاستقلال الداخليّ سنة 1955، وخصوصًا إثر محاولة الأزهر الشرايطي، أحدِ أبرز القادة السابقين لـ”الفلّاڨة،” الانقلابَ عليه سنة 1962.

3- كان ذلك لغرض العمل الصحفيّ، وكذلك في إطار زيارة دعم ضمن وفد للحملة الوطنيّة لإسناد النضالات الاجتماعيّة، بداية شهر ماي/أيّار الفارط.

4- للتعرّف على وجهة نظر المحتجّين، وعلى تفاصيل العوامل الاقتصاديّة والأحداث السياسيّة المؤثّرة التي أدّت إلى الاعتصام، يُنصح بالاطّلاع على هذا المقال المهمّ للكاتب والناشط السياسيّ يوسف بن موسى https://lc.cx/chjM

5- يعتقد العديد منهم أنّ الشركات الفرنسيّة هي المستفيد الأكبر من استخراج النفط والغاز في الصحراء. وهو اعتقادٌ تفنِّده المعلوماتُ المتوفّرة، ويُعزى على الأرجح إلى استمرار نقمة أهل الجنوب على الاستعمار الفرنسيّ وجرائمه ضدّهم.

6- العروش” في تونس ومنطقة المغرب تقابل “العشائر” وفروعَ القبائل في المشرق. وعلى الرغم من حالة الوحدة التي تميّز بها المعتصمون عمومًا، فقد لاحظنا بعضَ التوتّرات، المرتبطة غالبًا بمطلب التشغيل، التي أخذتْ منحًى عشائريًّا في بعض الأحيان.

 7- يُنصح بمطالعة الكتاب القيّم حول قضيّة العدالة المناخيّة في منطقة “شمال افريقيا” ودول الجنوب عمومًا : http://platformlondon.org/p-publications/climate-justice-north-africa/

 8- في مؤلّفه: نقد الاقتصاد السياسيّ.

9- مقال سابق لي عن تجربة جمنة: https://lc.cx/c7ze

10- مقال سابق لي عن دروس معركة قرقنة https://lc.cx/c7zn

 11- لعلّ أفضل مثال على ذلك اعتصام المعطّلين عن العمل في مقرّ ولاية الڨصرين، ثمّ أمام مقرّ وزارة الشؤون الاجتماعيّة، ودام أكثر من سنة من دون تحقيق مطالبه.

12- لفهم الجذور التاريخيّة لتهميش جهات “الداخل” وامتداداته وتمظهراته إلى اليوم، يُنصح بالكتاب المهمّ للصغيّر الصالحي: الاستعمار الداخليّ والتنمية غير المتكافئة(الشركة التونسيّة للنشر وتنمية فنون الرسم، 2017).

13- يمكن تأريخُ ذلك بانتهاء اعتصام القصبة 2 في أواخر شهر فبراير 2011 واختيار الباجي قائد السبسي، بمباركة دوليّة، للإشراف على “الفترة الانتقاليّة.”

 14- كما وصفه خبراءُ صندوق النقد الدوليّ في تقرير لهم مؤخّرًا.

 15- حول ارتفاع  التداين الخارجيّ: https://lc.cx/c7zX

 16- مقال مهمّ جدًّا لإريك توسان حول “الكومسيون الماليّ” ودور التداين الخارجيّ في استعمار فرنسا لتونس: https://lc.cx/c7zB

17- يمكن الاطّلاع في هذا الشأن على كتابات البوليفي ألفارو غارسيا لينيرا حول الحركات الاجتماعيّة في بلاده وعموم أمريكا اللاتينيّة (أنظر مثلًا ملخَّصًا لأفكاره في كتاب Hémisphère gauche لرامزيك كوشيان).

18- قد يكون من المفيد دراسة هذه الظاهرة بالاستعانة بمفهوم “الطبقة/ الجماعة المحلّيّة” لدى المفكّر الماركسيّ دايفيد هارفي.

 19- باستثناء الحركة الاجتماعيّة في جمنة.

20-لا يهتمّ أغلب المُعطّلين في تونس أين يشتغلون، وذلك على عكس ما تروّجه وسائلُ الإعلام اليمينيّ المهيمن من أنّهم جميعًا “يبغون العملَ في الوظيفة العموميّة.”

21- هناك طبعًا تحرّكات اجتماعيّة أخرى، كتلك ذات المضمون البيئيّ، في قابس مثلًا، أو المطالِبة بإعادة توزيع “الأراضي الفلّاحيّة الدوليّة” (أبرزها في جمنة). إلّا أنّها تبقى ثانويّةً من الناحية العدديّة، مقارنةً بالتحرّكات المطالبة بالتشغيل.

22- المقصود: “المنتدى التونسيّ للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة،” وهو يضمّ ثلّةً من الناشطين ذوي الأصول اليساريّة. إلّا أنّ تمويله الخارجيّ وانخراطَه في “مسار الانتقال الديمقراطيّ” يحدّان من سقفه السياسيّ، فتحوّل إلى ما يشبه منصّةً للتواصل والتفاوض بين السلطة وممثّلي التحرّكات الاجتماعيّة.

23- يمكن كلَّ الجذريّين الذين شاركوا في “مؤتمر الحركات الاجتماعيّة” في مارس 2017 أن يشهدوا على ذلك.

24- مقتبسًا ماركس في كتابه الدولة والثورة.

 25- وثائقيّ عن حركة الفلّاحين بلا أرض https://www.youtube.com/watch?v=2zec1BvYXsE

26- وثائقيّ عن تجربة قرية مارينيلادا https://www.youtube.com/watch?v=S5Wqtzjyvs8

 27- مقال مهمّ للرفيق حمزة حموشان عن المشاريع الاستعماريّة للاستيلاء على الطاقة المتجدّدة في منطقة المغرب الكبير. https://lc.cx/c7zC

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *